نجيب محفوظ في كتاباته
المصدر رويترز
08 / 03 / 2007
يعلم بعض مؤرخي "نجيب محفوظ" أنه كان يسجل عام 1939 تاريخاً لنشر أولى مجموعاته القصصية (همس الجنون) رغم صدورها عام 1946 تقريباً، وبها قصص كتبت في الأربعينيات تتناول آثار الحرب العالمية الثانية. وفسر سلوك "محفوظ" بعدم اقتناعه ببعض قصصه التي نشرت في مجلات أو صحف في بداياته، ولذا نسبها إلى تاريخ مبكر بأثر رجعي حين صدرت في كتاب كما توجد قصص أخرى منشورة، لكنه ظل يرفض طبعها في كتاب حتى وفاته في نهاية أغسطس- آب 2006......













كما ظل يتجاهل مقالاته الأولى في الثلاثينيات مستغنيا عنها برصيد إبداعي يضم حوالي 50 رواية ومجموعة قصصية ومسرحية قصيرة اعتزازا برهانه منذ البدايات على فن الرواية التي قفز بها إلى صدارة فنون الكتابة بعد أن كانت في النصف الأول من القرن العشرين في مرتبة متأخرة بعد الشعر وفن المقال، وتوجت رحلته عام 1988 بالحصول على جائزة "نوبل" في الآداب ولايزال العربي الوحيد الذي نالها في هذا المجال.

لكن دار الشروق التي تنشر الأعمال الورقية لمحفوظ رأت أن تتيح كتاباته الأولى "النادرة" للقراءة فقط في موقع إلكتروني، وتقول إن نشرها لا يتنافى مع رغبة محفوظ القديمة في عدم نشرها في كتاب ورقي وفي الوقت نفسه لا يحرم الباحثين من الاطلاع عليها ودراستها، وخصصت موقعاً مجانياً على الإنترنت لقراءة هذا الأعمال، وكل ما يتصل بمحفوظ، سيرته الذاتية وعناوين أعماله والأوسمة التي نالها والأفلام المأخوذة عن أعماله ونص كلمته في حفل تسلم جائزة نوبل، وعنوان "الموقع الرسمي" لمحفوظ "شروق.كوم- نجيب محفوظ".

وتنقسم هذه الكتابات إلى 26 مقالاً ذا طابع فلسفي كتبها بين عامي 1930 و1945، في صحف أو مجلات منها (المجلة الجديدة) و(الرسالة) و(المعرفة) و(الجهاد اليومي) و(كوكب الشرق)، أما الجزء الثاني من الكتابات الأولى فيضم أول 22 قصة قصيرة نشرها "محفوظ" بين عامي 1937 و1945.

وجمع "مصطفى جودة" الأستاذ بالجامعة البريطانية بالقاهرة هذه المقالات والقصص التي يراها كنزاً أدبياً.

كانت قصة (خيانة في رسائل) أول ما نشر لمحفوظ في يوليو تموز 1937، ثم تلتها قصص قصيرة أخرى بعضها يمكن اعتباره إرهاصات لرواياته الثلاث (عبث الأقدار) و(رادوبيس) و(كفاح طيبة) التي تناولت جانبا من الحضارة المصرية القديمة، وتحمل تلك القصص القصيرة المبكرة عناوين منها (عفـو الملـك أسر كاف) و(عودة سنوهي).

ووصف "جودة" في مقدمة له الكتابات الأولى لمحفوظ بأنها "انفعالات الشباب وأفكاره البكر"، ومن خلال قراءتها ندرك أن "محفوظ" دخل حديقة الأدب من باب الحكمة مسلحاً بأساسيات الفلسفة التي درسها وتفوق في دراستها ومتأثراً بأفكار الفلاسفة العظماء وطريقة حياتهم ملتزماً بالمنطق ودقة التعبير، وآخذا بالمنهج العلمي فيما يكتب بفاعلية شديدة، القاريء لمحفوظ يحس بفنان مسؤول تجاه وطنه وثقافته وأحداثيات مكانه وزمانه.

"وتخرج محفوظ في قسم الفلسفة عام 1934 بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن)، وكان يعد نفسه لمهمة أخرى غير كتابة الرواية إذ كان مفتوناً بالفلسفة، وبدأ حياته وهو طالب بالجامعة محرراً في مجلة (المجلة الجديدة) التي كان يصدرها الكاتب المصري "سلامة موسى" (1887-1958).

ويسجل باحثون آخرون أن أول مقال معروف لمحفوظ نشر في أول سبتمبر- أيلول 1929 وعنوانه (الأساليب) وفيه يقارن بين نوعين من الأساليب يختلفان وفقاً لمرجعية الكتاب الذين ينقسمون في رأيه إلى فريق "مغرم بالعرب وما كتب العرب وأساليب العرب وحضارة العرب، ويرى الخير كله في استعارة أساليبهم" في حين يرى الفريق الآخر أن تلك الأساليب العربية لا تناسب روح العصر.

ويخلص محفوظ في نهاية هذا المقال إلى أن "كل كاتب صاحب فكرة"، وهذا هو المعنى الذي ستدور عليه كتابته والأسلوب هو وسيلته في تبليغ هذه الفكرة، وإذاعتها إذا تخير أسلوباً ما خدم الكاتب في تبليغ رسالته وهذا هو أبلغ الأساليب في نظري"، في حين يسجل جودة أن "محفوظ" الذي ولد عام 1911 نشر مقاله الأول في أكتوبر- تشرين الأول 1930 في (المجلة الجديدة) بعنوان: (احتضار معتقدات وتولد معتقدات).

وبدا "محفوظ" في مقاله (احتضار معتقدات وتولد معتقدات) أقرب إلى تلميذ مخلص يستمد قوة الحجة حتى في البديهيات من مقولات الفلاسفة، إذ يبدأ مقاله قائلا: "قامت الدنيا القديمة على معتقدات قوية، كما يقول (المؤرخ الفرنسي) جوستاف لوبون- سواء كانت هذه المعتقدات دينية أم سياسية".

ويرى "جودة" في المقدمة ذات الطابع الاحتفالي لا التحليلي أن رحلة "محفوظ" مليئة بالكنوز التي سيكشفها الزمن ومجهودات الباحثين، وأنه من حيث الإنجاز في "وزن (البريطاني تشارلز) ديكنز، و(الفرنسي اونوريه دي) بلزاك، و(الأيرلندي) جيمس جويس، و(الأمريكي) ويليام فوكنر.

"محفوظ" يزيدنا بسطة في العلم والطاقة والفخر لانتمائنا إلى أرض يمشى عليها، "كما يسجل أن آخر مقالاته حمل عنوان (القصة عند العقاد) في مجلة (الرسالة) في السادس من أغسطس- آب 1945، وفي المجلة نفسها نشر "محفوظ" مقالاً شهيراً عنوانه (كتاب التصوير الفني في القرآن) يوم 23 إبريل- نيسان 1945 وهو دراسة في صيغة رسالة إلى سيد قطب (1906-1966) مؤلف كتاب (التصوير الفني في القرآن).

وبدأ محفوظ المقال بالتوجه إلى المؤلف مباشرة: "قرأت كتابك (التصوير الفني في القرآن) بعناية وشغف فوجدت فيه فائدتين كبيرتين، أولاهما للقاريء خصوصا القاريء الذي لم يسعفه الحظ بالتفقه في علوم القرآن والغوص إلى أسرار بلاغته بل حتى هذا القاريء الممتاز لاشك واجد في كتابك نوراً جديداً ولذة طريفة، ذلك أن كتاباً خالداً كالقرآن لا يعطي كل أسراره الجمالية لجيل من الأجيال مهما كان حظه من الذوق وقدره في البيان فللجيل الحاضر عمله في هذا الشأن كما سيكون للأجيال القادمة عملها.

"والمهم أنك وفقت لأن تكون لسان جيلنا الحاضر في أداء هذا الواجب الجليل الجميل معا مستعينا بهذه المقاييس الفنية التي يألفها المعاصرون ويحبونها"، وظل محفوظ يحتفظ لقطب الذي صار من أبرز رموز التشدد الإسلامي بمكانة خاصة، لأنه كان أول من تحمس له كما لم يتحمس لروائي آخر من جيله أو الأجيال السابقة، وبدأ قطب مقاله المنشور في مجلة الرسالة في سبتمبر 1944 عن (كفاح طيبة) قائلا: "أحاول أن أتحفظ في الثناء على هذه القصة فتغلبني حماسة قاهرة لها وفرح جارف بها"، وفي نهاية المقال كتب: "لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى، وكل فتاة ولطبعتها ووزعتها بالمجان ولأقمت لصاحبها -الذي لا أعرفه- حفلة من حفلات التكريم التي لا عداد لها في مصر للمستحقين وغير المستحقين"، وأعدم قطب عام 1966 بعد أن وجهت إليه تهمة بالتآمر على نظام حكم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في قضية شهيرة شملت بعض رموز جماعة الإخوان المسلمين عام 1965.