أهوال النفس :

سبحان خالق نفسي كيف لذتها *** فيما النفوس تراه غاية الألم؟
الدهر يعجب من حملي نوائبه *** وصبر نفسي على أحداثه الحطم
وقت يضيع، وعمر ليت مدته *** في غير أمته من سالف الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته *** فسرهم وأتيناه على الهرم

في ظل الأيام الصامتة الثقيلة، وفي سوادها المظلم الممتد تحت غمام الحياة، تتململ النفس من عنت وضيق وحيرة، وتجد من أحداث القدر ما يتركها تتقلب على نار موقدة من أفكارها وأشواقها وآلامها، وتتجمع من حولها أطياف ماضيها وأحلام مستقبلها، ثم تتنازعها هذه الهاوية في الأبد، وتلك السابقة في الغيب، حتى تكون بينهما تتمزق بين جاذبين قويين متعارضين لا يضعف أحدهما في قوته فتذهب النفس معه على وجهها إليه.
وفي هذه الحالة التي تدرك النفس يعيش أحدنا في أنفاس من الجحيم والعذاب المستمر، وتنشأ له في جنون اللهب أحلام مفزعة حمراء الحواشي والأطراف، تندلع في تاريخ إنسانيته، وتثبت فيه أثر النار التي تنضرم عليه فيكتوى بها وليس يستطيع أحد أن يخلص بنفسه من هذه الأحوال الفظيعة، لأن سبيل الخلاص لا يمتد إليه من خارجه، وما سبيل الخلاص إلا من النفس وحدها، فإذا كانت هي التي تعيش في حيرة وآلام مكفوفة عن قوة تفكيرها في إطفاء النار بإيمانها، فليس إلى نجاتها طريق تتخذه، أو باب تنفذ منه.
وهذه الأيام التي نحياها في دنيا الاضطراب العالمي المختبل المجنون، تشعل تحت النفس تنورا هائلا طعامه تاريخ الإنسانية كلها من لدن آدم إلى هذا اليوم، وتملأ النفس أفكارا كثيرة قد انطوت عليها، فهي تغلي بها غليان المرجل المصمت فلا يزال في تفزع وتقلقل يتنزى بضغط البخار، فلا يستقر ولا يرجى له أن يستقر.
إننا لا نفقد آمالنا في الحياة إلا أن نفقد الإحساس بالحياة، فنقد الرغبة فيها، وما دامت لنا في الحياة رغبة أو شهوة، فآمالنا أبدا حية تتحرك بل تتجدد بل تزيد وتتكاثر، وأيما أمل تعتاقنا عنه عند ضرورة لا نملكها ولا نعطى القدرة على تصريفها كما نشاء فهو أمل يتوالد آمالا كثيرة صغيرة تكبر وتتعاظم وبذلك نعيش العيش في حالة تستجيش جيوشا حاشدة من الآمال تقاتل أحكام القدر التي لا تعرف إلا حقيقة الحياة الاجتماعية، ولا تلقي بالا إلى الحياة الفردية المستأثرة الطامعة التي لا تشبع.

شيخنا العلامة أبو فهر
محمود محمد شاكر