مركزية القدس والأقصى
وعد بلفور ثمرة فكر القبالاه اليهودية (الثانية عشرة)
مصطفى إنشاصي
اليوم هو الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر ذكرى إرسال ذلك الوغد وزير الخارجية البريطانية السير (جيمس آرثر بلفور) في مثل هذا اليوم من عام 1917 رسالته إلى اللورد اليهودي البريطاني (روتشيلد)، التي باتت تُعرف بـ(وعد بلفور)، وكل عام نكتب ويكتب عنه الكتاب وغالباً ما تكون الكتابة تقليدية ومكررة ولا جديد فيها! وقد حاولت أن أَسرع في نشر الحلقات التي أكتبها حتى تأتي (الحلقة السادسة عشرة) منها متوافقة مع ذكرى الوعد ولكن للأسف لم يسعفني الوقت، ولأن الحلقة ذات علاقة وطيدة بالخلفية الدينية التوراتية للوعد، الذي جاء استجابة ضرورية لفكرة حركة الاسترجاع النصرانية البروتستانتية التي جعلت من عودة اليهود إلى فلسطين شرطاً لعودة المسيح آخر الزمان، ليسمح لي القارئ الكريم أن أقدم هذه الحلقة وأجعلها (الحلقة الثانية عشرة).
سأل صديقي الدكتور مستنكراً؛ فما قلته (في الحلقة السابقة) عن النشأة الأولى للولايات المتحدة التوراتية وعن هيمنة اليهود عليها اليوم؛ لأن ما قلته إن كان لدي عليه دليل يقلب مفاهيمه وبحثه الذي يكتبه رأساً على عقب: أنت من أين تأتي بهذه الأفكار؟! وما هو دليلك على ذلك؟!
أجبت: على رسلك، وأضفت مازحاً: لا تقلب وجهك ألم أقل لك في بداية حديثي: أن كثير أو بعض الكتاب عند قراءة بعض الكتب لا يقرأ الكتاب كاملاً أو يبحث فيه فقط عما يريده أو يوافق وجهة نظره، لذلك يفوته الكثير وتبقى وجهة نظره ورؤيته للموضوع الذي يكتب عنه خاطئة كلياً أو جزئياً؟ يا سيدي: جزء كبير مما قلته وسأقوله أيضاً موجود في كتب أنت أطلعت عليها ومثبتها مراجع في رسالة الدكتوراه الخاصة بك ولكنك لم تنتبه إليها، إما لأنها لم تكن من صلب رسالتك أو لأسباب أخرى، مثل محمد السماك، جارودي، روجينا الشريف، وغيرهم. هذا بالنسبة للمراجع ودليلي على ما سبق، أما ما قلته الآن انتظر.. وذهبت قلبت في بعض أوراقي على تلخيص لكتاب ديفيد ديوك بترجمته العربية، وقلت خذ اقرأ.
أما من أين آتي بهذا الأفكار؟ فهذا عائد لي، قد أتقاطع فيها مع بعض المفكرين والكتاب وقد اختلف، فأنا من كثرة ما قرأت وجدت دائماً أنه هناك وجه آخر للحقيقة والمسلمة التي قدمها لنا الكتاب العلمانيون عن حقيقة وأبعاد الصراع مع اليهود والغرب الصليبي، وأن لدى الكثير ممن كتبوا في ذلك موقف مسبق يرفض أسلمة المفاهيم والصراع، لذلك لووا عنق الحقيقة في كثير من كتاباتهم إلى درجة تعارضها مع العقل والمنطق فضلاً عن الرؤية القرآنية للصراع.
وفي أحيان أخرى قرؤوا الحقيقة قراءة انتقائية، فذكروا المعلومة أو الحدث الخاص بالغرب الصليبي الذي ظاهره استغلاله لليهود من أجل تحقيق أهدافه وأخفوا المعلومة التي تكمل حقيقية المشهد، وتكشف زيف قراءاتهم وتثبت أن اليهود هم الذين بادروا سراً إلى دفع الغرب لتبني هذا الموقف أو ذاك تجاه اليهود.
وقلت: وأوضح مثال على لي كثير من الكتاب لعنق الحقيقة في كثير من كتاباتهم إلى درجة تعارضها مع العقل والمنطق، فضلاً عن الرؤية القرآنية للصراع،إجماعهم على أن رؤية حركة الاسترجاع النصرانية هي نفسها رؤية حركة القبالاه اليهودية! ورغم ذلك يقولون: أن الحركة الصهيونية نشأت في الفكر النصراني! إن كانت حركة الاسترجاع اليهودية سبقت حركة الاسترجاع النصرانية بقرون، فمن التابع، السابق أم اللاحق؟! عجياً مالكم كيف تحكمون! إن أولئك الكتاب يذكروني بإنكار الله تعالى على اليهود في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (آل عمران:65).
الخلاص المسيحاني في فكر القبالاه اليهودية
كان القباليون قبل الطرد من أسبانيا يصبون اهتمامهم حول كيفية بداية الخليقة، محاولين الوقوف على مكوناتها الأولية وجذورها الأساسية. وكان الخلاص عندهم هو معجزة خارقة تؤدي إلى خلاص العالم عندما يظهر المسيح ويشع بضوئه على العالم بأركانه الأربعة. وقد كان مصير الشعوب والأمم الأخرى في فكر القبالاه هو نفس ما تحدث عنه الأبوكالبيس (كلمة يونانية تطلق على المؤلفات التي تهتم بالكشف عن الأشياء الغامضة التي تقع فيما وراء الطبيعة الخافية عن العين البشرية) وأحبار التلمود من استعلاء والرغبة في تدمير كل ما هو من غير بني إسرائيل، ولكنه يظهر لنا في القبالاه بطريقة عكسية حيث تدعي القبالاه أن كافة شعوب الأمم الأخرى يتلقون ضيائهم في هذا العالم دفعة واحدة إلا أن ذلك الضوء ينسحب عنهم تدريجياً حتى تقوى إسرائيل وتدمرهم. وعندما تذهب روح الدنس عن العالم ويشيع نور الرب على إسرائيل حينئذ ستعود كل الأشياء إلى أصولها الأولى في حالة الكمال التي كان عليها الكون في بداية الخليقة. ثم توجهت لصديقي الدكتور، وقلت له: فسر لنا هذا النص بأسلوب نفهمه.
فقال بتأثر وضيق ظاهر: إلى الآن موقفهم من المسيح هو الموقف التقليدي الذي نعرفه وتأخذه أنت ـ يقصدني ـ على من يقولون بعلمانية الحركة الصهيونية استناداً له. وواصل حديثه: ولكن حقدهم الظاهر على العالم، ونيتهم المبيتة لإبادة كل ما هو غير يهودي هو الخطير في هذا النص، يا رجل هؤلاء مجرمين، هؤلاء يُمنون أنفسهم بالسيادة العالمية على العالم، وفي عقيدتهم أن قوة غير اليهود في تراجع وقوة اليهود في تصاعد، وستبقى كذلك إلى أن تعود ـ كما يعتقدوا ـ السيادة لليهود على الكون ويستعبدوا غير اليهود. فسأل أحد الأخوين: برأيك يا دكتور هذه الثقة الظاهرة في النص على ماذا تعتمد وهم كانوا ضعفاء؟ أجابه: هذه الثقة بتقديري نتيجة ما كانوا يشعرون به من نجاحات وتقدم في عملياتهم اختراق عقائد الشعوب الأخرى وتدميرهم لبنيانهم ونظمهم الاجتماعية. فقال الآخر: قصدك ما قامت به الماسونية اليهودية وغيرها من جمعيات وحركات يهودية في السيطرة على الثقافة والفكر اليوناني والروماني ومن بعدهم النصراني؟ فقال: هيك شي. ثم قال موجهاً الحديث لي: واصل.
واصلت: أما بعد الطرد من أسبانيا فقد فسرته القبالاه كما فسر (حزقيال) أحد أنبياء السبي البابلي وأول من وضع أسس العقيد اليهودية الحالية وربطها بالعودة إلى فلسطين، فقد اعتبر أن الابتلاء بالسبي هو فلسفة (يهوه) إله اليهود في تطهير (شعبه المختار) قبل إعادته إلى فلسطين. وكذلك القبالاه اعتبرت الطرد من أسبانيا بدايات آلام مخاض المسيح التي ستنهي التاريخ وتبشر بالخلاص، وأن الطرد هو أسلوب الرب (يهوه) في تطهير (شعبه المختار). إلا أن فكرة الخلاص أخذت تزداد أهميتها وحاول القباليون الأسبان البحث عن تفسير صوفي للطرد من أسبانيا وعلاقة ذلك بمرحلة الخلاص. وقد جاء ذلك التفسير فيما بين (عامي 1540 – 1580) على يد (إسحق لوريا) أحد القباليين الأسبان الذين تمركزوا في مدينة "صفد" بفلسطين. وأصبحت تُعرف قبالاه باسم (قبالاه لوريا أو قبالاه أري). وقد وضع لوريا تفسير لكيفية بداية الخلق التي خلص فيها إلى معرفة الكيفية التي سيحدث بها الخلاص. والتي سيلغي فيها دور المسيح اليهودي وإن كان سيُبقى على رمزيته. وسوف تضع الأسس الأولى لعقيدة الاسترجاع، والتفت إلى صديقي الدكتور مبتسماً، وقلت: التي أطلنا عليك يا دكتور في الوصل إليها. فقال ضاحكاً: وأخيراً؟.
عقيدة الاسترجاع اليهودية
قلت: وتصل "قبالاه لوريا إلى ذروة الاستعلاء والعنصرية وذلك حينما تربط مصير الكون كله بمصير بني إسرائيل. مدعية أن العالم الحاضر يقع في حالة من الشتات وأن ذلك مرتبط بشتاتهم ... وبالتالي يجب على بني إسرائيل أن تصلح ذلك الصدع الكوني وهو شيء يمكن أن يقوم به كل يهودي وذلك بإتباع التوراة ووصاياها ... وادعى أولئك القباليون أن الشتات رسالة ضرورية فبعد إصلاح حالة الشتات يقوم بنو إسرائيل بإعادة الومضات إلى مكانها الصحيح في الكون". وقلت: هذا هو أصل ما يزعمون أنه عقيدة الاسترجاع النصرانية!.
فقال أحد الأخوين: أين هي؟ لم أراها في النص! فقال له الدكتور مازحاً: أنا رأيتها. فقال له سريعاً: أرني أين هي؟ فقال الدكتور: إن أصل رؤيا الاسترجاع النصرانية التي سبق أن تكلم عنها أبو بلال، وهي ربط النصارى البروتستنت عودة المسيح عليه السلام مرة ثانية لخلاص العالم من الشرور التي يعيشها بشرط عودة اليهود إلى فلسطين، موجود في ربط قبالاه لوريا مصير العالم بمصير اليهود واعتبار أن السبب في جميع هذه الشرور هو شتات اليهود في جميع أنحاء العالم وابتعادهم عن فلسطين، وأنه لا يمكن إصلاح الخلل الحادث في الكون إلا بإعادة اليهود إلى (وطنهم). فرؤيا الاسترجاع النصرانية أخذت من قبالاه لوريا أنه لا يمكن أن يتحقق خلاص العالم على يد المسيح قبل أن يعود اليهود إلى فلسطين، ولذلك أصبح واجباً على كل مؤمن نصراني بروتستنتي بالذات أن يعمل من أجل إعادة اليهود إلى (أرض الميعاد)، لأنه شرط:
عودة المسيح وبداية الألفية السعيدة
هززت رأسي مبتسماً وسألت: أليس معي حق عندما أنفعل وأرفض التفسيرات التي لا يقبلها العقل أو المنطق، عندما يقول لنا كثير من الكتاب: أن رؤيا الاسترجاع النصرانية هي نفس رؤيا الاسترجاع عند القبالاه اليهودية، ودون أن نعرف متى أصبح الأصل فرعاً أو المتبوع تابعاً أو كيف حدث ذلك، نجدهم خلصوا بنا إلى القول: أن الفكرة الصهيونية نشأت في الفكر النصراني، وأن الغرب الصليبي هو الذي استغل اليهود لتحقيق أهدافه في وطننا، وأن اليهود لم يفكروا يوماً في العودة إلى فلسطين قبل مجيء المسيح الذي عند عودته سيعيدهم إليها سلماً؟! أضفت: كما أن عقيدة الاسترجاع اليهودية، والنصرانية الصهيونية أيضاً هي عقيدة عنصرية، فالقبالاه زادت من فكرة العنصرية والاستعلاء اليهودية على الآخر عندما اعتبرت أن رمز خلاص إسرائيل هو خلاص للعالم أجمع، واسترداد إسرائيل في المحكمة المسيحانية كما لو كان استرداد للعالم وللكون كله ووصوله إلى مرحلة الإصلاح والكمال النهائي.
واستطردت: ذلك ما له علاقة بعقيدة الاسترجاع، أما اتهام الحركة الصهيونية بالعلمانية والإلحاد واستغلها للدين، لأنها أعادت اليهود إلى فلسطين بالقوة والفعل البشري ولم تنتظر عودة المسيح ليقوم بذلك سلماً! إن ذلك واضح في النص ـ المذكور في الحلقة السابقة ـ فقبالاه لوريا إلى جانب تأكيدها على العنصر الديني في فكرة الخلاص أي لم تنفي ظاهراً دور المسيح في ذلك، إلا أنها رأت أن الخلاص يتحقق عن طريق خلاص الأرواح وأتباع الوصايا، ما يعني أن عودة المسيح ليست شرطاً لتحقيق الخلاص. ويبدو أن الأخوين الجالسين معنا بدءا يريدان أن تكون مشاركتهما أكثر إيجابية لذلك طلب أحدهما أن أعيد قراءة النص فأعدت قراءته. فقال مازحاً مع الدكتور: هذه المرة رأيتها يا دكتور. فرد عليه الدكتور هو الآخر مازحاً: أريني إياها يا شاطر. فقال ضاحكاً: أن القبالاه جعلت على كل يهودي واجب إصلاح الصدع الكوني من خلال إتباع التوراة ووصاياها.
قلت: صحيح؛ وأن ما لا تراه القراءة الانتقائية لدى كتابنا العلمانيين، هو أن قبالاه لوريا أدخلت إلى القباليين فكرة جديدة تقول: أن كل إنسان قادر على إصلاح روحه وروح جاره أيضاً وذلك من خلال التحول الذاتي. وهو التحول الذي يمثل حالة شتات الأرواح الداخلي. وأن هذا التحول يمثل عنصراً أساسياً لا سبيل للتخلص منه. وقد أدت هذه الأفكار إلى تطور بالغ في مفهوم الخلاص ميزها عما ورد من قبل. فهي جعلت من الكون كله عنصراً حيوياً في جلب الخلاص، وجعلت اليهودي مشتركاً فيه ـ في تحقيق الخلاص ـ ولكل شيء في الكون دوراً أساسياً يجب تأديته في مرحلة الخلاص, وهكذا أصبحت مهمة الخلاص موكولة إلى كل مخلوق وكل فرد لإصلاح روحه والوصول إلى الخلاص. ولم يعد دور المسيح الذي سيأتي من نسل داوود أكثر من رمز لاكتمال الخلاص، ويرجع سبب الاحتفاظ بشخصية المسيح عند القبالاه أن القباليين أنفسهم كانوا متحفظين في تناول التراث، ولأن التراث كان يتناول شخصية المسيح عند الحديث عن الخلاص.
ثم التفت إلى صديقي الدكتور وقلت: أيوة يا دكتور، باقي في النص نقطة ثالثة يحتج بها العلمانيين على علمانية الحركة الصهيونية.
وقبل أن أكمل حديثي، قال: أعد قراءة النص. فأعدت قراءته. فقال: تقصد ادعاء أولئك القباليون أن الشتات رسالة ضرورية، وأنه بعد إصلاح حالة الشتات يقوم بنو إسرائيل بإعادة الومضات إلى مكانها الصحيح في الكون. قلت له مازحاً: نعم، ولمزت ألم أقل لك .. فقاطعني سريعاً، قائلاً: بعينك، أنا لو لم أقتنع ما وافقتك على ذلك. وضحكنا جميعاً.
وللأسف الشديد أنه في الوقت الذي لم يُصب فيه كتابنا العلمانيين قراءتهم لوعد بلفور القراءة الصحيحة أصاب في ذلك باحثاً ومفكراً يهودياً صهيونياً؛ فقد وصف (د/ ج ز في بلوفسكي) (وعد بلفور) وصفا بالغ الدقة، فقال: "لقد كان (وعد بلفور)، بمعنى بالغ العمق، وثيقة (مسيحية) أو لنقل قول العابر المتعجل. (وثيقة بروتستانتية)[.
.... يُتبع
الثلاثاء 2/11/2010


[1] د/ ج ز في بلوفسكي: بنو إسرائيل وأرض إسرائيل "، من كتاب أمن الفكر الصهيوني المعاصر" مجموعة من الكتاب الصهاينة، مركز الأبحاث، م.ت.ف، بيروت، سلسلة كتب فلسطينية(11) شباط /فبراير 1968.ص29.