رسـائلُ التطميناتِ الرّبانيّـــة



( التطميناتُ الفكريّة 3 )


ومن باب إتمام الفائدة وإثراء العائدة في باب التطمينات الفكرية أسوق هذه التطمينات لتنخرط في سلك ما قد سبق ، وعساه يحصد ثمراتها من صدّق وصدَق :
* ثَمَّ (قدٌر مُحكَمٌ وأمْرٌ مُبْرَمٌ) أنّ الغلبة لله ورسوله على من تولى وأجرم، قرر ذلك قول الأعز الأكرم: { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} ( المجادلة 21)
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: (قد حكم الله وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لايخالف ولايمانع ولايبدل، بأن النصر له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، وأن العاقبة للمتقين ... فهذا قدر محكم وأمر مبرم) (تفسير ابن كثير8/53،54)
وقال الطبري ـ رحمه الله تعالى ـ: (قضى الله وخط في أم الكتاب لأغلبن أنا ورسلي من حادّني وشاقّني) (تفسير الطبري 28/26) وفي ذلك قد (كتب الله كتاباً وأمضاه) (الدر المنثور للسيوطي 6/274) كما قال قتادة رحمه الله.
* ما جعل الله لأهل الشرّ والغواية من سبيل لاستئصال شأفة أهل الحق والهداية ؛ أذاع ذلك قول المولى عز وجل: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (النساء 141) ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (ذاك يوم القيامة) (تفسير ابن كثير2/436)
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : (ويحتمل أن يكون المراد {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} في الدنيا؛ بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإنّ العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} (غافر51) (تفسير ابن كثير 2/436)
وقيل: (إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل، ولا تاركين للنهي عن المنكر ، كما قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى 30) قال ابن العربي : وهذا نفيس جداً ؛ وقيل: إن الله لايجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً ، فإن وجد فبخلاف الشرع) (فتح القدير للشوكاني 1/673)
* الباطل وأشياعه إلى اضمحلال وبوار ، والحق وأعوانه إلى ثبات وقرار؛ نوّه بذلك قول الواحد القهار: {قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (الرعد 16،17) ، قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: في قوله {كذلك يضرب الله الحق والباطل}، (أي إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولادوام له، كما أن الزبد لايثبت مع الماء ، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار بل يذهب ويضمحل) (تفسير ابن كثير/447) بمعنى (كما اضمحل هذا الزبد فصار جفاء لاينتفع به ولا ترجى بركته ، كذلك يضمحل الباطل عن أهله، كما اضمحل هذا الزبد ، وكما مكث هذا الماء في الأرض فأمرعت هذه الأرض وأخرجت نباتها، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي هذا الماء في الأرض، فأخرج الله به ما أخرج من النبات) (تفسير الطبري13/136) فـ (هذا مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه) (تفسير الكشاف للزمخشري 3/345)
* شرفُ أمّة العرب يشرق باتباعها كتاب ربها، وإلا أفل وغرب ؛ أبدى هذه الحقيقة قول الحق تبارك وتعالى: { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون } (الأنبياء 10) فقوله: {فيه ذكركم} أي: (شرفكم) قاله ابن عباس وجماعة (تفسير الطبري17/6،وتفسير ابن كثير 5/334، وتفسير فتح القدير للشوكاني3/501، وتفسير القرطبي 11/29، والدرالمنثور للسيوطي 4/563) قال الثعالبي: (شرفكم آخر الدهر) (تفسير الجواهر الحسان للثعالبي4/82) وتقديم الجار والمجرور (فيه ذكركم ) لإفادة الحصر والقصر ؛ اي : لا ذكر لأمّة العرب إلا بذلك !
ولقد استطرد صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ عند هذه الآية فكان مما قال: (ولقد كان ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرّقوا بها وغرّبوا، فلم يكن لهم قبله ذِكر ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم ، وتذكرهم به، ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب ، وقادوا به البشرية قروناً طويلة ، فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب، حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية، وانحط فيها ذكرهم ، وصاروا ذيلاً للقافلة يتخطفهم الناس، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون! وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد، وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة ، فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم ، لأنها تجد عندهم ما تنتفع به، فأما إذا تقدموا إليها عرباً فحسب بجنسية العرب، فما هم؟ وما ذاك ؟ وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب ؟ إن البشرية لن تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة .. لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب، فذلك لايساوي شيئاً في تاريخ البشرية ، ولا مدلول له في معجم الحضارة ! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته ، وهذا أمر له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة!) (في ظلال القرآن ،سيد قطب 4/2370)
قلت: هما يومان للعرب في التاريخ ؛ يوم عزّوا فيه وسادوا، ولغيرهم من الأمم والشعوب قادوا! ويوم ذلوا فيه واضطهدوا على أيدي الصليبيين والذي هادوا! أما اليوم الأول : يوم العزة والغلبة والكرامة فحينما اتخذوا القرآن لهم دستوراً، واما اليوم الثاني: يوم الحسرة والندامة ، فحينما ولوا على أدبارهم نفوراً!.
وعليه فكل من عنده مسكة من عقل يدرك أنه لايصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، والمجيء بقوله تعالى: {أفلا تعقلون} في خاتمة التنويه بالشرف الذي خص به العرب يشي بأن كل من أجرى مفارقة ومقارنة عقليّة مجرّدة من الهوى والتعصّب بين أحوال العرب وتقلباتهم في الدهر فسيقف على عظيم نعمة الله هذه وصدقها .
وإذا كان ذلك كذلك فثم مسؤولية تترتب على هذه النعمة كما قال سبحانه {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} (الزخرف 44) أي: (وسوف تسألون عنه يوم القيامة ، وعن قيامكم بحقه، وعن تعظيمكم له، وشكركم على أن رُزِقتموه وخصِصتم به من بين العالمين) (تفسير الكشاف للزمخشري 5/446) .