وآلمَ كلَّ حُرّ !!


آلمني وآلمَ كلّ حرّ نزعُ الثقة من إرادة الشعوب وهي في أتون النزال والكرّ ، وكأنّ أقدار الشعوب أن تظلّ في حالة تقاعس وفرّ ، مسلوبة إرادتها ، مرهونة عزيمتها ، ليس لها من شيء من الأمر ! حتى إذا ما رأينا من شعوبنا حالة استنهاض ، ووقفات عزّ وعناد ، انبرى فئام من أبناء جلدتنا ممّن يتكلّمون بألسنتنا انبروا يمطرونها بالشبهات ، ويطعنون في مقاصدها والنيّات ، ويشكّكون في صدق الولاءات ، وراحوا يقذفون بالغيب من مكان بعيد إذ يتشدّقون بالقول : إن حركة الشعوب نحو تغيير واقعها المرير وتحقيق إصلاحات ، ليست بقرارات أصيلة من صنع الذات ،إنّما هي مخططات تُرسم لها وإملاءات.
وليس هذا بالشأن المستحدَث ، فالإرجاف والمرجفون حالة ما فتئت تتبدّى وتتكشّف ، كلّما لمع في أفق الأمّة شعاع من نور، يبث في النفوس الأمل لمحو الظلمة وإزاحة الديجور!

في ضوء ذلك : ألم تر أنه لمن الموافقات العجيبة ، والمغازي المهيبة ،أن تتبدى أحوالُ المرجفين ، وتتكشف للناظرين ، في غزوة مثل غزوة الأحزاب ! التي تنادى فيها أعداء الملة والدين ، فتحزّبوا وتكتبوا وتجيّشوا لاستئصال شأفة الإسلام والمسلمين ، إذ تأججت في قلوبهم الأحقاد الدفينة ، فيمّموا وجوههم شطر المدينة ، يبغون بالقتل محمدا وصحبه، ويرومون بالمساءة دينه..
ذلك أنه عندما يُتحزب ضد أمة الإسلام ، ويحاصرها عدوّها بإحكام ، تتكشف معادن النفوس ، فمنهم من يلبس للتصدّي والمرابطة اللبوس، وآخرون من دونهم يتسربلون سرابيل الخذلان ، ويتقمصون أقمصة النكوص ، يغشاهم الهلع ، ويخيم عليهم الفزع، لينقلبوا أعينا خئونة خلال الصفوف المؤمنة تجوس .. فيتضح وقتئذ ويفتضح أمر من اتخذ الدّيانة كلماتٍ طائرة ، وأماني مرفرفة ، من شعائر مجردة وطقوس ، فتراه يتحاشى النزال ومنه يتوارى ، وإذا ما سئل الفتنة ف
عن إتيانها لا يتوانى ، بل يغوص في ظلمات بحرها اللجيّ !
من هنا كشفت سورة الأحزاب أنّ الناس عند الزحاف على ثلاثة أصناف ، تجدها صورة مكرورة ؛ فما فتئت هذه الأصناف تتكرّر فتظهر في كلّ مرّة تهبّ فيها الشعوب تروم حالة استنهاض وتغيير للواقع الأليم ، وهذه الأصناف هي :
إما أهل أصالة وإنصاف ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليما ) [ سورة الأحزاب آية 22 ]
أوأهل خيانة وإرجاف (وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا )[ سورة الأحزاب آية 13] .
أو أصحاب عزلة وانكفاف (وإن يأت الأحزاب يودّوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ) [ سورة الأحزاب آية 20].
وكلا سنتلوا عليكم منه ذكرا ، ونقص من خبره عظاتٍ وعِبَرا …
أما أولئك الذين يخرون صرعى في معترك المواجهات يوم الزحف والتلاق ، فهم أشرف الخلق على الإطلاق ، ولا أدل على ذلك من أنهم اصطفوا لمجاورة الملك الخلاق ، لتسرج أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن ، لتجري عليهم الحياة والأرزاق ، فهم (أحياء عند ربهم يرزقون )[ سورة آل عمران 169 ] .
فقد خرجوا جهادا في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، لم ترهبهم غطرسة العدو عند ملاقاته ، ففي صدورهم إيمان بالله ورسوله، ويقين بما وعدهم ربهم في محكم آياته ، وإنهم وإن أجلب عليهم عدوهم بخيله ورجله وآلة البطش والحرب، ونشر الدمار والخراب في كل درب ، معتقدا أن سفك دمائهم قربان يُديم عليه ملكه ويحقّ له الأرَب ، كل ذلك لم يكن ليفت في عضدهم ، حتى وإن تداعت قوى الشرّ ضدهم ، فهم يواجهون مكر عدوهم المستطير ، يبغون بذا التحرر والتحرير ، فإذا ما تكالبت عليهم الأمم ، كانوا في ثباتهم كالطوْد الأشمّ ، وما قصر حالهم عما وصفهم به ربّهم الأعز الأكرم
( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليما ) [ سورة الأحزاب آية 22 ].
فهم أهل أصالة وإنصاف ، أنصفوا دينهم وأمتهم ومقدساتهم من أنفسهم، أولئكم سلام عليهم في العالمين .
بيد أنه في خضم كلّ صراع ، يطلع علينا فئام من الناس ، تتباين مواقفهم عمّن سبقهم ، فليس لهم في ساحات الوغى بلاء ولا مراس ، إنما يجنحون لتحقيق مآرب سرعان ما تتكشف لكلّ ذي لبّ بلا التباس ، فلهم في الجهاد وأهله وأنصاره أغراض وأعراض ، لا تنمّ إلا عن نفوس عششت في قلوب أصحابها الفتنُ والأمراض ، حسبك أنه إذا ما داهم الأمة خطر ، جَدّوا في إشاعة أجواء الخوَر ، واستشرفت أنفسهم للمخادعة والغرَر ، يبغون بذا الفتنة والضرر ، فهم أهل عمالة وإرجاف. وحالهم هذا مفهوم ، ومن قديم الزمان معلوم ، وقد شخصت غزوة الأحزاب نموذجا يحكي حال هؤلاء الذين فقدوا الرّشد والصواب ، فمّما جاء بحقهم في آي الكتاب : (وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا )[ سورة الأحزاب آية 13 ].
ففي قولهم
(يا أهل يثرب) انسلاخ من الأصالة ، ومغازلة لأهل الزيغ والضلالة، ودليل كونهم أهل خيانة وعمالة ، وأنهم إذا ما حزبهم أمر استحالوا حثالة، ذلك أن المصطفى صلى الله عليه وسلم نهى عن تسمية المدينة بيثرب ، مبيّنا بلسان عربي مبين ، أن هذا من صنيع المنافقين ، فقال : ( يقولون يثرب وهي المدينة ) [ متفق عليه ].
ذلك أن مُسمّى يثرب من الثرب وهو: الإفساد ، أو من التثريب وهو : التعيير والاستقصاء في اللوم والتوبيخ، ومنه قول يوسف عليه السلام لاخوته
(لا تثريب عليكم اليوم)[ سورة يوسف الآية 92 ]. وهذا المعنى لا يليق بدار هجرته ، وموطن نصرته ، ومغرز رايته ، ومنبت دعوته صلى الله عليه وسلم ، والمؤمن الصادق إنما يتشبث بمبادئه ، ويستمسك بثوابته ، ويستعصم بأصالته ، إذا ما حفته المكاره ، ونزلت بساحته الفوازع ، في حين يحيد عنها في مثل هذه الظروف كل منافق مُخادع ، أو مستسلم مُستكنّ مُوادع ، كأولئك المنافقين الذين كان الأوْلى بهم أن يتنادوا للجهاد ، ويتواثبوا على الاستشهاد ، ذوْداً عن العباد والبلاد، فيوصي بعضهم بعضا أن (تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) لكنهم تقاعسوا ، فإذا بهم يصدعون بقولهم (لا مقام لكم فارجعوا)
واعجباه ! فمن أي مراتع الجبن رتعوا ؟!ومن أي مراضع الهون رضعوا ؟!
ولا جرم أن الأمّة على مر عصورها – لا سيما في واقعنا المعاصر – تبتلى بأمثال هؤلاء المرجفين الذين يجدّون في توظيف ما يطرأ من شتات في الصف ، وهيمنة لعوامل الضعف ، لدى أمة المصحف والسيف ، لتمرير حلول ، وتهيئة القبول ببنود ، تستساغ بزعمهم نظرا لطبيعة الظرف الموجود ، في حين أغمضت أبصارهم ، أو عميت بصائرهم ، عن البشائر المنعقدة ، بنواصي همم الشعوب المتقدة ، فأولئك هم المرجفون فآحذرهم ! ولا تأبه لدعواهم بل ذرهم ، فمواقفهم ساعة الزحاف أفتك في جسد الأمة من السمّ الزعاف .
وفي خضم الزحاف يطلع علينا صنف آخر من أهل الإرجاف ، يزيّنون لحلولٍ يلبسونها لبوس النصر والظفر ، ويحيطونها بهالة من الفخر ، على أنها مكاسب أنجزت ، وحقوق انتزعت ، فلا تذهب النفوس بعدها حسرات على ثورة الشعوب إن هي أخمدت، إذ يخيلون للعوام أن نفرة الشعوب قد حققت الهدف المنشود ، وأحرزت الغرض المقصود ، معوّلين على ما قطع لهم من وعود ، ومواثيق أشهد عليها وعهود ، يرومون المخادعة ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ، لأن أهل الجهاد حفتهم عناية رب العباد ، كما نوّه القران بذا وأفاد ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [ سورة العنكبوت الآية 69] قال سفيان بن عيينة : (إذا رأيت الناس قد اختلفوا، فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول :(لنهدينهم سبلنا) [ القرطبي 13/378].
فحذار حذار! من دعاوى هذا الصنف الذي يؤسس بنيانه على شفا جرف هار ، لا يلبث أن ينهار..
ومنهم صنف أقحم نفسه في غبْنٍ مستطير ، وواقعهم يفجر في النفس الأسى الكبير ، إذ تجدهم بدل أن يكرسوا وقتهم ، ويستفرغوا جهدهم لتفعيل الصمود ، وتعزيز سبل المرابطة والمراغمة ، ويوصّدوا في وجه عدوهم أبواب المساومة ، جنحوا إلى تبادل العتاب والملاومة ، مع مؤسسات وهيئات دولية ، يطرقون أبوابها بصفة يومية، لاستصدار قرار واستخلاص تقرير ، يدين العدو ويظهر أنه المعتدي الشرّير ، وكأن العدو يقيم لتلك القرارات أو المؤسسات وزنا – إلا ما أشرب من هواه – وكأن إدانتها له تقوّم مسارَه وممشاه ، وكأن هذا التقرير سوف يُسمن الشعوب المنكوبة ويغنيها من جوع ، ويضمد جرحها النازف ويكفكف لثكلاها الدّموع ، ويبعث الأمل لدى البراعم الشموع، ويطفئ لهيب القلب الموجوع ، جرّاء فراق أهلٍ وأحبةٍ عاشوا بين ظهرانيهم في أحضان التلال والرّبوع ، غيّبهم تحت الثرى فتكُ غاشم ، وبطشُ ظالم .. وكان الأجدى بهم بدل أن يشكوا الظلم للظلاّم ، أن ترتفع أكفهم لذي العز الذي لا يضام ، ويستفيقوا من أحلام اليقظة والمَنام ، ليدركوا أن من يستجيرون بهم سوف يمرّون على مآسيهم مرور اللئام ..

وأما أهل الانكفاف
فقوم نأوا بأنفسهم عن الأحداث ، فلم يولوا قضايا أمتهم أي اكتراث ، حتى وإن تحزبت الأمم على أمتهم وأطبقوا عليها الالتفاف ، أو مورس عليها التعذيب والبطش والتنكيل والإبادة والاجتثاث ، أو صلى العدو بحرابه أمتهم صليّا ، سيتخذون ذلك كله وراءهم ظهريّا ، ويعيشون عن الأحداث في عزلة نفسيّة وحسيّة ، ولن تجد من أقلامهم أو جهدهم أو أموالهم ما اتخذ لنصرة القضية سُخريّا ، فلم يواسوا بما أوتوا مَنْ أقعدته الأحداث جثيّا، ولم ينفعوا بها من المرابطين إنسيّا ، لذا جازاهم القرآن بأن جعلهم نسيا منسيّا ، فأخمد ذكرهم ،وحط شأنهم ، ولم يعبأ بمصيرهم، إلحاقا بهم بأشياعهم وأضرابهم ممن جاء في سورة الأحزاب التنديد بهم ( وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم )[ الآية 20 ] أو في سورة الأعراف من إغفال لمصيرهم (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون ، فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون )[ الأعراف الآيتان 164، 165]
فبينت الآيات مصير الناهين عن انتهاك الحرمات ، ومآل من اجترح السيآت ، في حين أهل الانكفاف كان أن لفّتهم أزمنة النسيان ، وتجاوزتهم عناية الرحمن ، فأغفل القرآنُ ذكرهم ، ولا يخفى ما في هذا الإغفال من امتهان لهم وخذلان ...

وبعد : فسيظل هذا الإغفالُ حظ المتوارين عن ساحة الإصلاح ونصيبَهم ؛ إذ ستخلو من تخليد ذكرِهم وذكراهم صحائفُ الزمان، ولن يكون لهم لسانُ صِدْقٍ في الآخِرين ، فبذا جرت سنة اللهِ ربّ العالمين ...