فما طيّباتُ الحِلّ مِثلُ الخبائثِ !!




إنّ الذين أشربوا في قلوبهم بغض الإسلام ونبيّ الإسلام وأهل الإسلام ، لن يستنزلوا طائر خصومتهم له ، على الرغم من أنّ محمّدا - صلى الله عليه وسلّم - وصحبه قد سطّروا للبريّة المآثر ، وأنجزوا للبشريّة العزة والمفاخِر ، وحشدوا طاقات أجيالها نحو المناقب ، ونأوا بها عن التردّي في النقائص والمثالب ، وفي سبيل ذلك أخلصوا النوايا ، وصانوا القضايا ، ودفعوا عن الأمم البلايا ، ودرءوا عنها الرّزايا ، حتى صدّق فيهم الخُبْرُ الخَبَر ؛ إذ صدقوا في القول ، وساسوا بالعدل ، وأتوا في كلّ معضلة بالقول الفصل !
ومع ذلك لم يكن هذا كلّه ليُتقبّل منهم عند أولئك الخصوم ، الذين غطت غماماتُ الحقد والغيظ عقولَهم فسدّت عليهم منافذ الفهوم ، فخرجوا بذا عن العادة الجارية في النفوس السّويّة ؛ عادة السّكون إلى الإنصاف ، والرّجوع إلى الحق والاعتراف ، فهم قوم تحت وطأة أحقادهم ينزعون جلابيب المروءة عن أنفسهم ، وينسلخون من دثار الإنصاف والنّصَفَةِ في أحكامهم ، فيبيتون يتعقبون بالشكّ والتشكيك كلّ سبيل يسلكه المصلحون ، ويحفّون بالنّقص والبخس كلّ إنجاز يحقّقه غيورون ، ويتربّصون الدوائر بمن عملوا على استنهاض أمّتهم ويعملون ! وليس لهم في تقطّعهم في عداوة الإسلام ونبيّ الإسلام وأهل الإسلام من مستند ولا حجّة ولا دليل ، إنما حاصلُ أمرِهم : تزييف وتدجيل وتخييلٌ وتمويهُ أباطيل!
فغدونا نرى في دأب هؤلاء عادة جاهليّة مكرورة ، كشفها قول الحقّ جلّ شأنه : { إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيّئة يفرحوا بها } ( آل عمران 120) فالحسنة هنا: الحالة التي تحسُن عند أصحابها ؛ من ظفر في صولة ، وانتصار في جولة ، ووحدة كلمة ، ولمّ شملٍ ، وتحقيق إنجازات ، وما شابهها من حسن المآلات ! والسيئة : الحالة التي تسوء صاحبها ! من إصابة العدوّ منكم ، أو فرقة تجوس خلال صفوفكم ، أو عَطب في نفوسكم ، ونقيض السابق في الحسنة كلّه ! فتأمّل في هذا السياق فرْط عداوتهم وعظم شنآنهم لأهل الحق من خلال قوله تعالى { إن تمسسكم حسنة تسؤهم } فالمسّ أقلّ من الإصابة ، فهو أقلّ درجات الإصابة ! ليضحي المعنى أنّ القوم يستاءون بمجرّد أن تلوح في الأفق بوادر حسنة ستحط رحالها في ربوع أهل الحق ! فكيف إذا ما غمرتهم ؟! الأمر الذي يؤجج الأحقاد في أنفسهم فيتقطعوا في مناكفة الحقّ وأهله ...
في حين قال جلّ شأنه في سياق السيئة : { وإن تصبكم سيّئة يفرحوا بها } فعبّر بالإصابة ! دلالة على قوّة شرّها ، وشدّة وقعها ، وحدّة ضرّها ! فهم لا يشفي غليلهم أن تمسّ السيّئة الجسدَ الإسلاميّ ، بل حتى تنخر فيه فتصيب منه مقتلاً أو تكاد ! وذا كلّه يشي بتقطّع القوم في خصومتهم لأهل الحق ! إنّه انسلاخ من الأصالة ، وانغماس في حمأة التربّص والجهالة !

فبينما أهلُ الحق محمّدٌ وأصحابُه وأتباعُه يشيدون بنيانهم على أسس التواصل والتوادّ ، فإن أولئك الخصوم الأنداد يشيدونه على التناحر والترادّ !
وفي الوقت الذي يقيم محمّدٌ – صلى الله عليه وسلم – وأمته كيانهم على دعائم المرحمة والتصافي والائتلاف ، فإن أولئك الألدّاء يقيمونه على الملحمة والتنابذ والاختلاف !
وما ذاك إلا لأن أولئك أباعد أباغض ، سرعان ما يتضح كذبهم ويفتضح تدليسهم !
وسرّ ذلك كلّه يكمن في أنه : مَنْ غُذّي بطعام قوم ، غُذّي بفكرهم ، وتسرّب إليه مكنون ما في قلوبهم ، ومَنْ تسرّب إليه مكنون ما في قلوبهم صار من أضرابهم ، وآل إلى مُنقلبهم ، فحذا حذوهم ، وتشابهت قلوبهم في مناكفة الحقّ وأنصاره ! وقد غذّيَ المسلمون أهلُ الحق بزاد التقوى { وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى } ( البقرة 197) في حين غذّي أندادهم وخصومهم بلقمات تنزع منهم الولاءات ! وبتمويلات تحرف لديهم البوصلات ! وبمناصب زائلات تكرّس في نفوسهم تجاه الحقّ وأهله العداوات والتربّصات ! فغدا الصّادّ عن الحق وأهله منهم قاهراً لظاهر عقله وقويم فطرته الأولى ، برجاسة نفسه واعوجاج طبعه !
وكان الأجدر به النزول عن مساوئ العناد ، إلى مبادئ الانقياد ، وإلا ظلّ في قصورٍ عن الصّعود في مَراقي السّداد ! وتقفّي آثارِ الهداية والرّشاد !

ومع ذلك : فلا خوف على أهل الحقّ من ذلك كلّه ما أخذوا بنواصي سنّة ربانيّة جارية بيّنها قوله تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لايضرّكم كيدهم شيئا إنّ الله بما يعملون محيط } ( آل عمران 120) فهو سبحانه يُعِدّ لكلّ كيدٍ ما يُبطله ! إن في صورة قياداتٍ مُخلَصة ، أو جماهيرَ مُخلِصة ، أو أبواب فرج مُخلِّصَـة ، أو مَحكّات مُمَحِّصـة ، تترك وراءها عبراً مُستخلَصة ، ينفي الله تعالى بها عن الأمّة كلّ خلّة مُردية ومَنقصة !

وهكذا تستمر هذه السنة الرّبانيّة في أخذ مَداها حتى إظهار الحقّ وتمكينه ، ليرجعَ الطاعنُ فيه الظاعنُ عنه حسيراً معلولا ، والمُناصِبُ العداوة له خائباً معلولا !
وبعد
: فما عساك ترتجي من أقوام قد سيقت إليهم الحجج إنْ بواقع الميدان ، أو حُسن البيان ، وطِيب الكَلِم ، فشردوا شرود النّادّ المُغْتَلِم ! ورضوا بصدودهم هذا لمعالم الإنصاف في أنفسهم أن تُخدش وتنثلم !

وإن أنت لفتّ وعيهم إلى اللطائف ، وطيّب المواقف ،
لا يصدّهم عن المكابرة تذكيرٌ ولا بعثُ باعث ، بل تراهم يهرّون هَرِيرَ الْمُجْحَرَاتِ اللواهِث ، وكلٌ منهم لأعراض الأحرار الأبرار شاعِث ، فيا تُرى هل ثَمَّ ثمرة تُرتجى من كلّ معاند مُكابِرٍ عابث ؟!
فرحم الله خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبا بكر الصديق – رضي الله عنه - حين قال بحقّ القوم المناوئين المعاندين :
فإن يرجعوا عن غيّهم وعقوقهم... فما طيّبات الحِلّ مثلُ الخبائثِ !
(السيرة النبوية لابن كثير 2/327)