مأساة الكتب المدرسية...بقلم آرا سوفاليان
ـ كل الطلاب المنقولين من المدارس الخاصة لا يحق لهم الحصول على كتب مجانية وعليهم شرائها من مستودعات الكتب المدرسية هذا ما قالته لنا الموجهة يا بابا
ـ بسيطة بابا اسألي الموجهة ان كان بالامكان شراء هذه الكتب من المدرسة واذا كان جوابها نعم ادفعي ثمنهم للموجهة سأضع في محفظتك ألفي ليرة سورية.
في اليوم التالي كان الجواب لاءءءءء مع بهدلة...وذهبنا في تلك الرحلة الشاقة للبحث عن الكتب...قالوا لي ان البيع يتم عبر نافذة البيع في مبنى الكتب المدرسية في منطقة المزرعة وذهبت واستطعت بصعوبة بالغة ركن السيارة ووصلت الى النافذة المعدنية السوداء التي تشبه نوافذ السجون يجلس خلفها موظف لا يجيبك عن اي سؤال حتى ولو جذبت يده اليك وقبلتها وامام النافذة حشد مروع من أولياء الأمور رجال ونساء وفوضى مرعبة وقلة أدب حيث تجد من يقفز فوقك وتجد من يخترق الدور ويذهب مباشرة الى النافذة يرسم على وجهه خطوط يتعمد ان يرعبك بها ويوهمك انه هو من هو وانه لا وقت لديه للوقوف مع الاجراء وحثالات البروليتاريا أمثالنا...ويقفز آخر مخترقاً الدور ويصل الى النافذة بشق النفس يدفعه من يدفعه ويرفسه من يرفسه ويصرخ في وجهه من يصرخ في وجهه "بالدور يا أخونا ثم بالدور يا....ويتحمل الشتيمة ويصل الى النافذة السوداء ليهمس في اذن الموظف في مناشدة تبدأ بمغازلة رقيقة ثم بمغازلة عاتبة ثم بمغازلة تعنيف ثم بمشاجرة وتسمع تهديد ووعيد وشتائم تخرج وتدخل عبر هذه النافذة التي اقل ما يقال عنها بأنها لا تصلح لتندرج في اي معيار حتى ولو كان في آخر درجات الحضارة.
ساعة من الزمن ضاعت في المزاحمة والدفش والنعر والروائح ليتبين ان النافذة اليتيمة التي اقف عندها مخصصة لبيع كتب البكلوريات فقط فخرجت من الدور وفَرِحَتْ جموع الجماهير الكادحة لأن الدور نقص واحد...سألت الموظف: سيدي انا اريد شراء كتب الثامن ارجو من سيادتك ان ترشدني الى المكان الذي اجد فيه ضالتي؟...نظر الرجل بإتجاهي بقرف ودخل الى الرفوف يبحث عن طاقية الإخفاء!...وتبرعت سيدة تقف في دور النساء وهو دور كانت له بداية فصارت له ثلاثة بدايات ثم تحول الى خبيصة...قالت لي: كتب الثامن تجدها في مبنى الكتب الثاني خلف جامع الايمان...وشكرت الله على نعمه لأن جامع الايمان هو في منطقة المزرعة وهذا يعني عدم تحريك السيارة...وصلت الى النافذة وكانت كسابقتها نافذة يتيمة وخلفها موظف عدد1 يعاونه آذن عدد1 يجلب الكتب من الرفوف والموظف عدد 1 يتولى تدقيقها وجمع اثمانها على الآلة الحاسبة وتقاضي الثمن والتشاجر من أجل الفراطة "ما معي كملّك وما معك تكملّي...ويا سيدي مسامح بالباقي" ليعود ولي الأمر وهو مكسور الخاطر...يا سيدي هذه الكتب للصف العاشر وانا قلت لك طقم كامل صف تاسع...هات الكتب...حسوب حقهم من الجديد خود مصرياتك...ما في تاسع...تعى بوكرا.
حاولت تنظيم الدور ولكن كان يتم دفعي الى الخلف ليتقدم من يدفعني الى الأمام فأتذكر مسرحيات دريد لحام وافطن الى ان المرض ليس مرض اليوم ولا علاقة له بما يجري اليوم فالمرض هذا قديم و قديم ومستشري كالسرطان ومتزايد وهو في مجمله نفوسنا المريضة وعدم احترام الانسان وعدم احترامنا لأي شيء حضاري وعدم تقبلنا للنظام والدور وتمسكنا بالأرث العثماني المتخلف...ولأنه مكره أخاك لا بطل وقفت كالطود احتمل كل الرفس والدفع والنعر وانا أنشوي تحت الشمس...وتبرع أحد المدرسين لتنظيم الدور فأخرج جدول كتب فيه الأسماء واعطاه للموظف لكي ينادي على الأسماء ولكن الموظف تركه ولم يهتم له لأن النداء على الأسماء يؤدي الى صرف سعرات حرارية وجهد اضافي فأهمله وجاء سفيه أمسك بالجدول وجعلكه بين يديه ورماه في الأرض وحدثت مشاجرة بين الجماهير الغفيرة وهرب المدرس صاحب فكرة الجدول ونفذ بريشه...وأصلحنا ذات البين ووصلت بمعية الدور الجديد "دور ما بعد المعركة" الى النافذة في تمام الساعة 12:30 علماً بأنني كنت في تمام التاسعة امام النافذة السوداء الأولى السابق ذكرها والتي يقف خلفها موظف لئيم...قلت للموظف: سيدي وتاج رأسي مطلبي بسيط وليس فيه تعقيد أريد طقم كتب كامل صف ثامن والديانة يا سيدي الكريم مسيحية...قال لي سأعطيك الموجود ...فذهب معاونه للبحبشة بين الرفوف وعاد برزمة صغيرة وقال لي هذا هو الموجود اليوم...ووضع الكتب امامه وعزف على الآلة الحاسبة وأعطاني رقم واعطيته وفي خطوة استباقية قلت له "ما معي فراطة اقطع على كيفك وحتى لو قطعت رقبتي مسامح" وركضت احمل ربطة الخبز الى سيارتي وعندما تفقدت الأرغفة تبين ان كتاب العربي غير موجود والفرنسي والانكليزي شرحو وتقانة المعلومات شرحو والتربية الدينية ليست مسيحية والحساب كلو على بعضه خطأ وفي غير صالحي كما يحدث دوماً...وعدت الى النافذة ورجوت الشباب أنه: الله وكيلكون وكيل السماء والأرض بدي بدّل كتاب الديانة بس شغلة تبديل والله العظيم ما بدي آخد دور حدا ولا عيني على كتب حدا الله وكيلكون شغلتي بس تبديل كتاب الديانة...فصرخ واحد من الجماهير كلنا شغلتنا كتاب واحد...واشفق عليّ الموظف فمد يده من خلف نافذة احتقار الإنسان وقال لي: هاتو هاتو حتى بدلك ياه...ولحسن الحظ كان سعر الكتاب المراد تبديله مماثل لسعر الكتاب الثاني فانقضت العملية كالبرق وعدت الى السيارة مسرعاً فلقد وضعت الكتب على المقعد الأمامي وخفت ان يكسر أحدهم النافذة ويأخذ كنوز الملك سليمان من على المقعد ولكن كان كل شيء في مكانه والحمد لله.
وصلت الى البيت واعطيت الكتب لأبنتي وقلت لها تدبري أمرك يا حبيبتي مع الموجهة فهذا ما استطعت انتزاعه وبشق النفس...في اليوم التالي قالت لي معلمة تسكن في حارتنا قالت لي: هناك مستودع كتب مدرسية في جرمانا خلف مدرسة شنان مواجه مطعم ومنتزه الضيعة اذهب اليه أصلحك الله تترك جرمانا وتذهب الى المديرية في المزرعة؟؟؟!!!......وذهبت وقابلت امين المستودع وكان دمثاً ومهذب يضع قطعة شاش على يده اليمنى ويعمل مستخدماً يده اليسرى فقط فسألته عن يده فقال لي : حرق ولكن شديد...وعاونت الرجل في التسليم والعد والحمل وفوجئت بأنه يسلم اعداد كبيرة ويقفز فوق الكتب ويتجادل مع المعلمات ويعطي قوائم ويأخذ قوائم ويحلف...فاكتشفت بأنه يسلّم المدارس وقال لي: لأنك ساعدتني ارجو أن تعود في الساعة 3 لأعطيك ما تريد...وعدت في الساعة الثالثة بعد الظهر وكانت الأبواب موصدة والرجل منهمك بالجرد لا يرد ولا يريد فتح الباب: وتذكرت كلمة السيد المسيح (اقرعوا يفتح لكم) وقرعت وقرعت وقرعت وقرعت فملّ الرجل وانطوش وفتح لي...فسألته عن يده...فتذكرني...وذهبنا معاً لجلب النواقص ودفعت وتمنيت له الشفاء العاجل...وذهبت الى البيت بالجزء الثاني من كنوز الملك سليمان وفرحت ابنتي كثيراً...وفي اليوم الثاني جاءت حزينة وقالت لي: أين كتب الأنشطة يا بابا...لم يقل لي السيد امين المستودع ان هناك كتب انشطة أيضاً مع انني ساعدته وحملت معه وحسبت له بآلتي الحاسبة وكان شريفاً معي في الحساب وكان معه فراطة وكمالة ولكن لم يقل لي ان هناك كتب انشطة وكذلك لم يقولوا لأبنتي في المدرسة ان هناك قائمة عددها كذا كتاب وأسماؤهم كذا وكذا وكأن المسألة معلومات سرية يجب البحث عنها واكتشافها...قلت لأبنتي: قولي لمعلمتك ان البابا لن يذهب الى المستودعات من جديد حتى ولو صدر قرار بشنقه حتى الموت.
وبالطبع لم أكن باراً بوعدي فذهبت وكان صاحبي في مهمة توزيع خارجية على المدارس وعدت في اليوم التالي فلم أجده قالوا لي انه اجازة...وأمام طاولة الرجل موظف آخر وحشد من الناس زحمة وتدافع وقلة قيمة وصراخ وبهدلة وطابور يصل الى الشارع وكوكبة من الجماهير تحيط بالطاولة فتذكرت مسرحية لدريد لحام ومشهد تسليم القمح للدولة تذكرت المشهد عندما يسارع ابو احمد الى طاولة الموظف فيحملها ويضعها في مكان آخر...فضحكت لوحدي وربما أعتقد أحدهم أنني أجدب...واقترحت على الموظف بأن يستلم قصاصات ورق من جماهير أولياء الأمور عليها الطلبات والأسماء بحيث يتم وضع الورقة الجديدة في الأسفل...فحدثت مشاجرة وقال لي أحدهم : جاي تنظّر علينا وانت توا جيت...وحدث تدافع وهجم عليّ بروليتاري يلبس عباية بيضاء ويضع على رأسه عقال...ورأيت ان الهريبة تلتين المراجل وبقيت ابنتي بلا كتب الأنشطة.
طيب الله يعطيكون العافية فوق تعبكن ونحن والله شاكرين ومقدرين وعندي في هذا المعرض سؤال بسيط...كيف استطاعت سيريا تيل ان تعاملنا نحن الجماهير الكادحة بمنتهى الانسانية وهل سيرياتيل هذه تعود لدولة أخرى لا تندرج تحت الديالكتيك الماركسي المتعلق بنا يعني جَلَبْ؟؟؟!!!...طيب هل من المعقول ان توضع نافذة واحدة في مواجهة ألف انسان وعليها موظف واحد يجرد ويدقق ويحسب ويقبض ويقطع ويرجع والله هذا ظلم مو طبيعي...قلّة موظفين عندكم يشمّون الورد حتى تخصصوا موظف واحد لخدمة الف انسان وهل في ذلك شيء من الانسانية؟؟؟!!!...هناك مئات المؤسسات الاستهلاكية الحكومية التي لا يدخلها أحد والتي يستهلك موظفوها العاطلين عن العمل ومن في صفّهم معظم ميزانية الدولة هذه المؤسسات التي لا تحوى على رفوفها إلاّ البضائع الغير قابلة للبيع...سلموا هذه المؤسسات طقومة الكتب المدرسية واسمحوا لهم بأن يضيفوا 5 ليرات سورية رقم ربح على كل كتاب...هل هذا صعب...صدقوني ستجدون لهم طريقة اخرى يبددون فيها وقتهم أفضل من التسكع وشرب الشاي والقهوة والاجازات والتمارض والنوم حتى انتهاء الدوام...وبعد هذا وبعد كل هذا...لن ادخل مستودع الكتب المدرسية مرة اخرى ابداً أما ابنتي فبإمكانكم طردها من مدرستها ومن كل مدارس سوريا لأن والدها يتذاكى عليكم ويترك ابنته بلا كتب.
آرا سوفاليان...دمشق 24 09 2012
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
arasouvalian@gmail.com