متحف الطب والعلوم عند العرب
مفخرة من مفاخر دمشق قدم العلاج للفقير والغني

محمد عيد الخربوطلي

يعتبر مبنى البيمارستان النوري من أهم المباني التاريخية بدمشق، وهو أحد ثلاثة بيمارستانات شيدت فيها (الدقاقي والنوري والقيمري).
والبيمارستان من مفاخر العمارة العربية الإسلامية، وهي كلمة فارسية الأصل مكونة من (بيمار) ومعناها مريض و (ستان) بمعنى دار فتكون دار المرضى، ثم اختصرت في الاستعمال فصارت مارستان.
وكانت بمثابة مستشفيات ومدارس للطب، وقد عرفتها دمشق منذ عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك 88هـ / 706م، وجعل فيها الأطباء وأجرى عليه الأرزاق، ويذكر المؤرخ الطبري: "أنه أعطى كل مُقعد خادماً وكل ضرير قائداً".
وفي عهد الدولة الأيوبية أصبحت دمشق مدرسة للطب، بعدما شهدت عصرها الذهبي في عهد نور الدين زنكي، الذي أنشأ بيمارستانه المعروف باسمه، فكان بحق أول وأعظم جامعة طبية في ذلك العصر وفي الشرق كله، وتقول المصادر التاريخية أنه بناه بالمال الذي فدى به نفسه أحد ملوك الفرنجة، وذلك حوالي 549هـ / 1154م. ثم جدد بناؤه بعد مئة سنة ووسعه الطبيب بدر الدين بن قاضي بعلبك، عندما كان رئيساً للأطباء الجراحين فيه، فأضاف إليه دوراً كانت حوله ليستوعب عدداً أكثر من المرضى، كما تشير بعض الكتابات التاريخية المنقوشة فيه إلى أنه قد تم ترميم بعض أجزائه في العصر المملوكي أيام السلاطين الظاهر بيبرس قلاوون وابنه الناصر محمد في أواخر القرن 7 هـ، وبقي يقدم رسالته حتى عام 1317هـ / 1899 إلى حين بناء مشفى الغرباء بدمشق كما يذكر محمد كرد علي في خطط الشام، وحُوِّلَ إلى مدرسة للبنات، ثم جُعل في عام 1937 داراً لمدرسة التجارة الرسمية ثم إعدادية، ثم متحفاً للطب والعلوم عند العرب ومازال كذلك إلى اليوم.

دور البيمارستان:
خرج من البيمارستان الأطباء الكثيرون، فقد كان مركزاً لمعالجة المرضى ومركزاً للتعليم، وكان يعالج فيه كل أنواع المرض حتى أن أطباءه اهتدوا إلى المعالجة بالموسيقى، وقد وفروا لنزلاء البيمارستان الكتب في مختلف العلوم، وكان يماثل القصور الملكية بترفه ووسائل الراحة المتوفرة فيه، وأنواع الطعام الفاخر الذي يقدم للمرضى، وكان العلاج فيه مجاناً للفقراء والأغنياء ويمنحون لدى خروجهم ثياباً ونقوداً تكفيهم للعيش دونما اضطرار للعمل.

وصف البيمارستان:
يعتبر بناء البيمارستان النوري من الأبنية الأثرية المتكاملة التي تقدم نموذجاً يمثل فن العمارة السلجوقية، من حيث مخططه وطراز بنائه وعناصره المعمارية والزخرفية.
وقد بني على مرحلتين:
1- تضم البناء الأساسي في عهد نور الدين في حوالي 549 هـ/ 1154 م.
2- توسعة الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك 637هـ.

أقسام البيمارستان:
يتألف البيمارستان من باحة سماوية (20 × 15 متراً) تتوسطها بحرة ماء مستطيلة (7 × 8.5 متراً) وهي مبنية من الحجر المنحوت، فيها عنصر زخرفي شاع في العهد السلجوقي والأيوبي (للزوايا من الداخل حنايا نصف اسطوانية) وتحيط بالباحة أبنية يتوسطها في كل جهة إيوان وعلى جانبه غرفتان، والغرف بعضها مربع الشكل وبعضها مستطيل وكلها مسقوفة بالعقود المتقاطعة.
أما بابه وهو في الواجهة الغربية فله مصراعان من الخشب مصفحان بالنحاس ومزخرفان بالمسامير النحاسية المفرغة على أشكال هندسية، كتب عليها في الأعلى بالخط النسخي، والمصراعان مزخرفان من الخلف بالحشوات الخشبية المنقوشة بالزخارف النباتية، كما يوجد للباب ساكف مؤلف من حجر واحد منقول من بناء قديم يرجع إلى العهد الروماني، ويعلو الباب واجهة من الزخارف الجصية الجميلة من عصر نور الدين، تتألف من صف المحاريب من ذات الأقواس المفضضة، وصممت من تسعة مداميك من المقرنصات التي تعتمد على شكل الورقة المجوفة وهذا نوع تشكيلي جديد في دمشق جاء به السلاجقة.
ومن أجمل غرف المبنى الغرفة التي تلي الباب وهي (5×5 متراً) وزخرفتها رائعة، وتقوم مقام الدهليز لأنها تقع بين الباب الخارجي والباب الداخلي، ولها إيوانان صغيران وزخرفتها تشبه زخرفة الباب ويعلوها قبة تغطيها المقرنصات من الداخل والخارج وتعد من النماذج الفريدة.
أما الإيوان الغربي فيقع في نهاية المدخل الرئيسي للبيمارستان يعلوه عقد مدبب، مزخرف بالمقرنصات ويدخل منه إلى قاعتين مستطيلتين، والإيوان الجنوبي يمتاز بكسوته الرخامية، فيه محراب مسطح في صدره لوح رخامي منقوش بالزخارف النباتية، ويحمل المحراب عدة زخارف، والإيوان الشرقي يعد أكبر الأواوين (8×5×7 متراً) وهو المكان المخصص لعقد جلسات الأطباء ولإقامة المحاضرات، وكان في صدره خزانتان جداريتان كانتا مليئتان بالكتب، ويزين جدرانه لوحات الرخام القديمة المليئة بالكتابات القرآنية.

البيمارستان (المتحف):
ولأهمية هذا البناء قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميمه وجهزته ليكون مقراً لمتحف الطب والعلوم عند العرب وقد افتتح رسمياً عام 1978، ويعرض فيه اليوم أهم المساهمات والابتكارات والأدوات والكتب التي قدمها العلماء العرب والمسلمون في مجال الطب والصيدلية والفلك والرياضيات والجغرافيا والموسيقا وغير ذلك.
وقد قسم المتحف إلى ثلاث قاعات رئيسية واحدة للعلوم والثانية للطب والثالثة للصيدلة، بالإضافة على قاعة للكتب.
ومما يضم المتحف اليوم في قاعة الطب خزانة فيها أدوات طبية أثرية قديمة تعود بتاريخها إلى عهود مختلفة تبدأ من العصر الروماني وتنتهي بالعهود العربية المتأخرة، وفيها مخطوطات طبية قديمة منها مخطوطة بعنوان (تحفة الملوك) طبية ألفها زين الدين الحلبي وتعود إلى أواخر القرن 18 م كما تضم إحدى الخزائن عشرات الأدوات الطبية التي تعود إلى أزمنة مختلفة، وقد زين سليمان قطاية جدران قاعة الصيدلة بلوحات فنية لأشهر الصيادلة مثل أبو الوليد بن رشيد وابن زهر والبغدادي وابن البيطار، أما المكتبة فتضم عدداً جيداً من المخطوطات النادرة والكتب العلمية المتخصصة.
إنها دمشق التي كان مرضاها يحظون بأهمية عالية من العلاج في عيادات متخصصة شديدة المراقبة من قبل أناس أدُّوا ما أتمنوا عليه بحق.






المصادر:
1- تاريخ العلوم عند العرب – د. مطيع الحافظ – جامعة دمشق ط1- 1988.
2- من البيمارستان إلى المستشفى – د. سليم الحسنية – ط وزارة الثقافة – دمشق 1998.
3- متحف الطب والعلوم عند العرب – د. علي القيم.
4- العلوم عند العرب – قدري حافظ طوقان – ط القاهرة 1977.
5- أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوروبية – أحمد علي الملا – ط 2 دار الفكر دمشق 1981.
6- تاريخ البيمارستانات في الإسلام أحمد عيسى بك.