رمضان شهر الحرية , هذه حقيقة إسلامية بلا منازع فيما أعتقد , فإذا كنّا نتوق للحرية نقية من كلّ الشوائب التي تنحرف بها عن مسارها , لتصبح أيقونة نفع للعباد , تحقق التوازن بأدق معاييره بين حقوقهم وواجباتهم ورعاية مصالحهم الدنيوية والأخروية على سواء دونما تعارض أو تفريط بشيء منها على حساب الآخر . أقول : شهر رمضان بما احتواه من الفضائل الكبرى والمعاني الرّاقية هو الطريق الأوحد لنيل هذه الحرية . بيد أني أؤكّد جزماً أن هذه الحرية نادى بها القرآن الكريم , فمن وعى نداء القرآن وأدرك غايته أيقن أن الحرية في تضاعيف كلماته الربانيات , وأما من مرّ بهذا النداء مروراً عابراً ليس غير فلا ولن يقترب من أسوار حصن الحرية هذا ألبتة .
نداء الحرية : يقول الحق عزّ وجلّ : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . ) البقرة (185) . في تلافيف هذه الحروف , وراء أسوارها الشاهقات يتردد نداء الحرية بأنصع صورها وأرقى معانيها , فهي الحرية المنشودة بحق , لا تلك الحرية الجوفاء التي ينادى بها النفعيون هنا وهناك لتحقيق ما تصبو إليه نفوسهم وتشبع شهواتهم وما هي في حقيقتها إلاّ مجرّد فخ لاستعباد الناس , وإطلاق العنان للأهواء ,حتى نصل إلى الإباحية والفوضى . تعال معي أخي في الله .. وأنت أيضاً أختي في الله نصغ بعمق وتأمّل لنداء الحرية المنبعث من وراء الكلمات وصدى الحروف النيرات .
( فمن شهد منكم الشهر فليصمه .. ) شهود الشهر هو الخطوة الأولى , أرى هلال رمضان أو تبلغني رؤيته بوسيلة إعلامية, وأنا كامل الأهلية, صحيح البدن , سليم العقل , سديد التفكير. أي أنا مهيّأ إذاً لأن اضع قدميّ على الطريق ومعي زاد وافر هو استجابتي لأمر الله بالصوم,فالطريق التي سأمضي فيها ليس لها مثيل أو نظير من بين تلك الطرقات التي مضى عليها غيري من الناس , بل هي الوحيدة . زادي ليس الطعام والشراب وما لذّ وطاب , وإنما زادي في السير في هذا الطريق , زاد آخر , هو العزم على التخلص من سطوة النفس وتنقيتها من كدورها التي جعلت منها نفساً أرضية تمسكت بحطام الدنيا وانحرفت عن منهج ربها , فأصبحت فاقدة للحرية وحرمتني منها فبت عبداً لنفسي لا عبداً لربي , وهذا حال الناس اليوم , إنهم عبيد أنفسهم فحسب , ولا تهولنك هذه الحقيقة , ألق نظرة على واقع العباد اليوم هنا وهناك ترى ما يؤكّد هذه الحقيقة . وإليك ومضات من ذلك :
1- من يفرّط بفريضة الصلاة كسلاً وتهاوناً , ترى أهو عبد لنفسه أم لربّه ؟
2- من يجاهر بالإفطار في رمضان متحدياً ربه وضارباً بمشاعر الصائمين عرض الحائط , هازئاً بهم , متهكماً عليهم , أهو عبد لنفسه أم لربه ؟
3- الّذي يشرب الخمر أو يزني أو يقتل الأبرياء بلا ذنب ويدمّر ويخرب أهو عبد لنفسه أم لربّه ؟
وهكذا كلّ من نراه من المعاصي يؤكّد أن الناس عبيد نفوسهم لا عبيد ربهم , لأنهم فعلوا ما فعلوه تحت إغراءات النفس ورعوناتها . (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . ) يوسف (53) .
إذاً الحرية التي مضيت على طريقها في رمضان كامنة في امتلاك قدرتك على تهذيب نفسك وتنقيتها من الزغل , لتعود من جديد إلى فطرتها التي فطرها الله عليها نفساً ربّانية مطمئنة إلى ربها راضية مرضية , عندئذ تكون حرّاً , لأنك استطعت أن تتخلّص من سلطان النفس عليك , فتصبح عبداً لله بكل ما تفرزه العبودية من راقي المعاني وعظيم الفضائل , وأعلم أن قمة الحرية هي في تحصيل العبودية لله ربّ العالمين . وصوم رمضان هو الطريق إلى ذلك , لأنه قهر للنفس وتحدّ لها , وحدّ من شهواتها , والمضي بها على طريق الطاعات لترقى وتشرق وتصفو من عكر الدنيا.فيكون شهر رمضان غنيمة لك حيث ظفرت بحريتك وأطعت ربك وتحررت من سلطان نفسك . ولنعلم جميعاً أنّ عبد نفسه لا ولن يكون حرّاً مهما طال عمره , ومهما نادى بالحرية , فنداؤه صرخة جوفاء لا تأتي بفائدة أبداً.