[TR]
[TD="class: news_title"]دلني على السوق أ.د. محمود نديم نحاس
[/TD]
[/TR]
[TR]

[/TR]


أدخلت سيارتي الورشة لإجراء بعض أعمال الصيانة الدورية، وكان لا بد من استخدام سيارة أجرة للوصول إلى مقر عملي. ركبت مع مواطن شاب عمره دون الثلاثين، فراح يشكو لي من قلة الدخل الذي يأتيه من عمله رغم أنه يملك سيارته! فقلت: عجباً! ألا ترى سيارات الأجرة تملأ الشوارع وأكثرها يقودها سائقون وافدون لا يملكونها، وعلى الواحد منهم أن يعطي في نهاية اليوم مبلغاً معيّناً لمكتب الشركة مالكة السيارة، ويترك الباقي له؟ وتابعت: كلما ركبت مع واحد منهم أراه يحمد الله ويشكره على الدخل الجيد الذي يأتيه من عمله، لاسيما وأنه حر لا يتحكم في عمله أحد. ثم سألته: لماذا تشكو أنت؟ قال: يبدو أني لا أعرف كيف أجتذب الزبائن. وفي تلك اللحظة اقتربت من مقر عملي، فأردت أن أنهي الحديث معه بنصيحة وهي أن يتدرب على عمله بأرخص طريقة ممكنة، فيترك سيارته أمام بيته ثم يركب مع هؤلاء الوافدين ويسألهم، دون أن يشعرهم أنه سائق، عن طريقة عملهم وكيف يستطيعون اكتساب مبالغ معقولة لا يستطيع هو أن يكتسبها، فشكرني على هذه الفكرة، ثم ودعته وانصرفت.
وعندما أردت أن أقوم بعمل صيانة للشقة، ذهبت إلى بائع الدهانات، وقبل دخول المتجر استقبلني نحو ثمانية شباب، كلهم وافدون، كل منهم يعرض علي أن يقوم بالعمل الذي جئت من أجله، وهم لم يعرفوا ما هو بعد! وكانت النتيجة أن اتفقت مع اثنين منهم بأربعمائة ريال ظناً مني أن العمل سيستغرق يوماً كاملاً، لكني فوجئت بأنهم أنهوه خلال أربع ساعات. وبحساب بسيط فإنهما لو استطاعا أن يجدا عملاً آخر مشابهاً في ذلك اليوم فإن يومية الواحد منهما أربعمائة ريال، ما يعني أن الدخل الشهري لكل واحد يتراوح بين ستة آلاف واثني عشر ألف ريال.
ولم يختلف الوضع كثيراً عندما أتيت بالكهربائي وكذا السباك، فهذان عمل كل منهما لمدة ساعة وأخذ ما لا يقل عن مائة ريال. وهنا رحت أفكر أين المواطنون الشباب الذين يشتكون من عدم وجود عمل؟ وهل في هذه الأعمال شيء دوني؟
لكن الذي أخذ عقلي عامل من اختصاص آخر. فقد طلبت من صديق يعمل في إحدى شركات بيع الرخام والسيراميك أن يدلني على عامل ليقوم بإصلاح أرض بعض الغرف التي فيها قطع سيراميك مكسورة أو مخلوعة، فوعدني بأن يعطي رقم هاتفي لأحد العمال ليتصل بي. وبعد فترة اتصل بي العامل ودللته على البيت، ولما وصل لاحظت أنه وافد عمره دون الثلاثين وكان يقود سيارة مرسيدس، ليست جديدة، لكنها جيدة. ثم دخل الشقة وفحص الأرض بالطَّرْق على قطع السيراميك بيده، ومن الصوت استطاع أن يحدد قطع السيراميك التي تحتاج إلى لصق من جديد، أما القطع المكسورة فواضح أمرها من النظر. ثم عرض علي عدة حلول، تراوحت كلفتها بين ثمانمائة ريال وألف وخمسمائة ريال. الحل الأقل كلفة يستغرق يوماً كاملاً، والأكثر كلفة يومين! فقلت له: وهل تظن أني صاحب العمارة ومستثمر لها؟ إنني مستأجر! فأجابني: ولماذا أعمل عندك؟ لقد انتهيت لتوي من عمل في إحدى صالات الأفراح، وأخذت منهم ثلاثين ألفاً لعمل استغرق عشرين يوماً! وأنا ما تغربت عن بلدي إلا لأجمع بعض المال ثم أعود إلى أهلي!
ثم راح يشترط علي أن أشتري له كيساً من مادة كذا وآخر من مادة كذا، وأن آتي بهما إلى الشقة قبل مجيئه، فهو لا يحمل هذه الأكياس! فأشرت إلى لحيتي البيضاء وقلت له: وهل أحملها أنا؟ فخجل مني وقال: ادفع لي قيمتها وأنا أجلبها معي.
ورحت مرة أخرى أفكر: ما الذي يمنع المواطنين من العمل في مثل هذه الأعمال؟ إن قال قائلهم: ليس لدي خبرة، سأجيبه: وهل تظن أن هؤلاء يحملون خبرة عالمية؟ أم إنهم تعلموا هنا من أصحابهم الذين سبقوهم؟
وإذا كان الشباب بحاجة إلى خبرة فينبغي أن يكون هناك مراكز تدريب تعطي دورات تتراوح مدتها بين ثلاثة وستة أشهر يتخرج بعدها الشاب وهو قادر على أن ينافس في سوق العمل كغيره من الناس.
إن فكرة حافز فكرة حضارية رائعة يُشكر عليها رائدها، خادم الحرمين الشريفين، لكن أحب أن أقول للشباب هذا المثل الصيني: لا تعطني سمكة لآكلها، بل علّمني الصيد.
ولنا في الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أجمل مثل. فعندما هاجر إلى المدينة المنورة آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع رضي الله عنه، فعرض عليه سعد أن يعطيه شطر ماله وأن يطلق إحدى زوجتيه ليتزوجها، فكان جوابه: بارك الله في مالك وأهلك ولكن دلني على السوق!
وها أنا بدوري قد وصفت لكم السوق ودللتكم على الثروات الدفينة فيه، فلينظر أحدكم ما هو فاعل