عزائمُ الأسرى ... بشائرُ للمَسرى


الكرار هم أصحاب القرار!
بموازين القسط والعدل قامت السموات والأرض ، فما يحيد عنها بعد ذلك إلا كلّ فتان ذي ضلالة أو خوّان ذي غرض ، أو امرؤ ذو هوى استحكم في قلبه مرض ، فليس يعبأ بعد ذلك إن هو تاجر بعذابات أبناء أمّته لقاء أرب رخيص وعَرض…
من هنا : فتلكم الكوكبة الرابضة خلف القضبان التي تصنع من أمعائها الخاوية قناديل لأمتها تنوّر لها المسالك ، وتهديها سبلها إذا ما اكتنفتها الظلمات الحوالك ، وتربأ بها أن تنزلق في متاهات توردها موارد المهالك، هؤلاء ينبغي أن تقتفى آثارُهم، وتتبعَ خطواتهم ، ويُسمعَ صدى لصيحاتهم … أليس من استنفر همّته واستجمع قوّته يروم السّمُو ، لا يبغي الفساد في الأرض ولا العلو ، إنما هدفوا نحورهم للعدو ، نصرة لمبادئ امتثلوها ، ولحقوق مسلوبة همّوا أن ينتزعوها ، وأرض مغصوبة عزموا أن يحرروها ، ومقدسات مدنسة تقاسموا أن يطهروها ... أليسوا حقيقين بأن يكونوا لدى أبناء أمتهم أهل حلّ وعقد؟ وجديرين بأن يكونوا أهل تقييم ونقد ؟ لا سيما إذا بلغ السيل الزبى بين الأشقاء الفرقاء وآنت ساعة الجِد والجَد ّ ، بالتالي فكل صوت من شأنه أن يقدم بين أيديهم ، أو من دائرة صنع القرار يستثنيهم فهو ردّ . كيف لا - وبهذا الصدد- قد قضت سنّة الباري جلّ شأنه بأنّه أيّما ثلّة مرابطة هذا ديدنها ، وهذه مقاصدها ، وتلكم وجهتها ، كافأها العزيز الغفار بأن أسند إليها القرار ، بعد أن حباها بملكات ، وحفها بنفحات ، وخصها بفتوحات ، تمكنها من حلّ المعضلات ، والخروج بمواقف نيّرات ، في خضم الفتن والأزمات ، حيث قال جل شأنه (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وٍإن الله لمع المحسنين)[ سورة العنكبوت69 ] لذا قال سفيان بن عيينة – رحمه الله تعالى - : ( إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور ، فان الله تعالى يقول (لنهدينهم سُبلنا) )[ تفسير القرطبي 13/242 ] . فالمجاهدون وأهل الثغور هم المهديّون ، فإذا ما اختلفت الآراء وافترقت السبل، فالهداية في ترسّم خطاهم ، واقتفاء آثارهم ، والنزول عند رأيهم ، ذلك أن لأهل المرابطة والمراغمة والجهاد من الهداية والكشف ما ليس لأهل المجاهدة ، ممّن هم في جهاد الهوى والشيطان ، لأنه لا يُوَفق في جهاد العدو الظاهر إلا من هو لعدوه الباطن قاهر ، من هنا يكون المولى عز وجل ( قد علّق الهداية بالجهاد ، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا ، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل منه ) [ ابن القيم – الفوائد 59 ] . وقد فطن السلف الصالح – رضوان الله عليهم – لهذه الأمور ، فها هم جهابذة علمائهم يحيليون على أهل الثغور ، ما أشكل عليهم من مسائل ونزل بساحتهم
من معضلات الأمور ، وحسبك في هذا قولُ ابن المبارك والأوزاعي – رحمهما الله تعالى - : ( إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر – يعني أهل الجهاد – فان الله تعالى يقول
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا)[ ابن القيم – مدارج السالكين 1/510 ] .
قال السعدي – رحمه الله تعالى - : ( هذا كله يدل على أن أولى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد ) [ تفسير السعدي 636]. فإذا كان ذلك كذلك ، توجّب المسير إلى أهل الجهاد من أسرانا البواسل ، للوقوف على وجهات نظرهم ، لنتلقفها منهم ، فيكون عليها التجمع والتلاق ، إذا ما عجّت الساحة بالجدل والشقاق، وخيمت على الأمة أجواء التنازع والشقاق .. أما أصحاب الهوى وأهل الأهواء فلا انجراف وراء آرائهم ولا انسياق ، إذ لا يعقل أن يُستمع الىالفُرّار ، في حين يصيب الآذانَ وقرٌ إذا ما تكلم الكُرّار ! إنّ مَن يصوغون بأمعائهم الخاوية القرار ، وهم مرابطون يحرسون شرف الدار ، ويخطون لأمتهم دروب العزة والفخار ، لهم آمن على مصالح الأمة ، وأقدر على محو الثلمة ، وأصدق في كشف الغمة ،من فِئامٍ يختصمون على كراسيّ لاصطناع كيانات هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا ترفع عن الأمة شيئا من الذلة والخنوع!
وبهذا الصدد : فقد استودع أسرانا البواسل الشعبَ الفلسطينيّ بكافة أصنافه وأطيافه استودعوه وحدة الصف ، ولمّ الشمل ، ووحدة الكلمة ، فتلكم مطالب نيّرة من ثلّة خيّرة لا يسع أحداً من أبناء الشعب الفلسطينيّ جهلُها ، أو الالتفاف عليها ، فقد غدت مطالبهم هذه أمانة في أعناقنا ، وما كان لقادة الفصائل الفلسطينية والذين يهتفون لها ، ومَنْ يلتفون حولها ، ويسيرون وراءها ، ويكثرون سوادها ، ما كان لهم أن يتجاوزوا هذه المطالب التي غدت معاقد عزّ ، ولوحات كرامة رسمها أحرار جنّدوا بطونهم خدمة لأوطانهم ، في الوقت الذي نجد فيه آخرين من دونهم جنّدوا أوطانهم خدمة لبطونهم !! فهل يستويان مثلا ؟!ولمّا كان لا جزاء للإحسان إلا الإحسان فقد توجّب على شعبنا الفلسطينيّ قيادة وقاعدة أن يستجيب لمطالب أسرانا البواسل هذه ، التي ما فتئوا يصدعون بها على مسامعنا ، لا أن نتثاقل عن ذلك كما يتثاقل سجانوهم عن الاستجابة لمطالبهم !فهؤلاء الأسرى الأبرار من حقهم إن تكلّموا أن يُصغى لقولهم ، وإن أشاروا أن يُمتثل لإشارتهم ، حتى إذا ما وَصّوا كافأناهم بالمسارعة إلى تنفيذ وصاياهم ، وإذا ما تساءلت أيها القارئ الكريم عن مضمون وصاياهم وتوصياتهم أجبتك قائلا : ها هي وصاياهم يخطّونها بلسان الحال لا بضجيج الخطابات والأقوال ... فمن رَمَقَ حالهم وجدها لا تعدو كونها :
انصهاراً في
الشحوم
:
فلا أقلّ من أن نكافئ شهامتهم هذه بـأن نصهر ركام التربّص ببعضنا بعضا ... لنخرج من قطيعة ذات البين وما جرّته على شعبنا من غموم ...
وذوباناً في اللحوم : وتضامننا معهم يكمن في أن نواكب حالتهم هذه بإذابة كلّ الحواجز النفسيّة والحسيّة التي تحول بين هذا الشعب وبين إعادة لحمته كخطوة أولى على طريق تفريج كربته ونصرة قضيته !
وغثياناً واستفراغاً
: وتضامننا معهم في حالتهم هذه يشخص بأن نكافأهم باستفراغنا ما لعقناه خلال سنوات الفرقة العجاف من غيظ وشنآن وسخائم في القلوب! باتت جمراتٍ يلفح هجيرُها وجوه أحرار الأمّة ومُخْلصيها !
وضعفاً في دقّات القلوب : وردّنا لمجازاتهم على جَلَدهم هذا بأن نسَرّي عن شعبنا الكروب ، بقلوب تقوى فيها دقات الوحدة والتمام الشمل والكلمة !
وصداعاً في الرؤوس
: وتسليتنا لهم من حالتهم هذه تكون بأن نكرمهم على شموخهم واصطبارهم بنفض حالة البؤس التي خيّمت على سائر أحرار شعبنا جرّاء ما نزل بساحته من فرقة شعواء انخرط على إثرها الفرقاء في سلك حملات إعلامية نكراء ! ما أن تهدأ زوبعة حتى تنشط أخرى...
وهزالاً عامّاً : ووفاء لحالتهم هذه يتوجّب علينا الخروج من حالة الهزال العام التي غططنا فيها لسنوات ... تزاحمت جرّاءها في ساحتنا العاديات، وقرعت أبوابنا النازلات !
وليس من نافلة القول أن أستطرد
في هذا المقام لأصدع بكلمة حقّ تدوّي في آذان الأشقاء الفرقاء – فتح وحماس - أقول لهم فيها : لقد رسم واقع الانقسام الأليم معادلة واضحة على الأرض يستشعر حقيقتها من رصد الواقع بوعي وإنصاف ، هذه المعادلة تقول لحركة حماس : ( عمارُ غزّة خرابُ الضفة ) وتقول لحركة فتح : ( عمارُ الضفة خرابُ غزّة) ؛ فما تكسبه كلّ حركة في بقعة من شطر الوطن تخسره من برنامجها ومشروعها في الشطر الآخر من الوطن ، وأيّما استنهاض فكريّ أوشعوريّ أوتربويّ أوحركيّ يشعر أحدهما بأنّه أنجزه في الجزء الذي يفرض عليه سيادته من الأرض تجده يفقده في الجزء الآخر ، ليبقى لكلّ منهما جَناحٌ مَهيض مكسورٌ ، ولن يصفّق طائر ولا يطير فضلا عن أن يحلّق في سماء الوطن وفضاء الحريّة إلا بكلا جناحيه ! فهل من مُدّكر ؟!

وبعد
: فإذا كانت المواقف البطوليّة البهيّة ثمرة ناجمة عنتضحيات نفوس زكيّة يجود بها من خلف القضبان مرابطون بررة ، فأيّ عدالة تسوّغ أن يرتهن القرار ؛ قرار الوحدة ولمّ الشمل وجمع القلوب وإنهاء الانقسام المشئوم ، ليظلّ رهين حسابات ضيّقة ، في حين يجرّد من البتّ فيه مَنْ نذروا حياتهم لعز أمتهم ، وباعوا لله أنفسهم لتحرير أولى قبلتهم ومسرى نبيهم – صلى الله عليه وسلم -؟!فإن لم يكن بذل النفس مخوّلا لتبوّء مقعد اتخاذ القرار والإدلاء بالرأي ، وحجة دامغة تلجم مَن يريد أن يستأثر به من أهل الزيغ أوالغيّ أوالبغي .. فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ وبأيّ حجّة بعدها يُحاجّون !