مقدمة في فقه السياسة الشرعية:
ارتبطت كلمة السياسة في أذهان كثير من المثقفين والمنتسبين للعلم الشرعي بالنفاق والكذب والدجل والميكافيلية التي تبرر الوسيلة لتحقيق الغاية، حتى صار يعرف السياسي المحنك بأنه من يتقن التآمر على الخصوم، ويخادع الجماهير ويداعب خيالاتهم وتطلعاتهم بالوعود الكاذبة.
وبناءُ على ما سبق فقد نفر المنتسبون للعلم الشرعي من السياسة نفوراً كبيراً، بل صار بعضهم يحذر من العمل السياسي قائلاً: إن السياسة مقبرة الدعوة والعلم الشرعي، وينظر للأتباع أن الواجب فقط هو العكوف على العلم الشرعي، ويتعللون بأن الجماعة الفلانية التي اشتغلت بالسياسة ماذا فعلت وماذا حققت؟ بل انظروا إلى ماذا وصلوا من ترك الالتزام بالدين والتناقض والتنازل عن الثوابت.
إن الذين نأوا بأنفسهم عن السياسة ضلوا طيلة هذه الحقبة الزمنية يدعون لولي الأمر حتى وإن غيَّر وبدَّل وسن القوانين الوضعية التي تتصادم مع الشرع، وإن فعل ما فعل، المهم أنه لم يعلن كفره بالله، بل لو نحى الشريعة عن الحكم فيضل هذا الحاكم عندهم هو ولي الأمر، وإن ثار الشعب على الحاكم الظالم وصموا الشعب كله بأنه خارجي، واستمروا مع ذلك الحاكم فإن سقط وأتى غيره عادوا يرفعون أيديهم مرة أخرى يرفعون أيديهم يدعون للحاكم الجديد وهلم جرا.
إن ما يقوم به أولئك الحكام من الأعمال والتصرفات المصادمة للشرع ليست من السياسة الشرعية في قليل أو كثير، كما يقول الإمام السخاوي رحمه الله: "ومن أعظم خطأ السلاطين والأمراء تسمية أفعالهم الخارجة عن الشرع سياسة، فإن الشرع هو السياسة لا عمل السلطان بهواه ورأيه"(1).
معنى السياسة لغةً وشرعاً واصطلاحاً:
لفظ السياسة في المعنى اللغوي يدور على تدبير الأمور وحسن رعايتها وإصلاحها.

يقول ابن منظور(2): "والسياسة تدبير شئون الدولة، فالساسة هم قادة الأمم ومدبروا شئونها العامة".

ومن أجمع معاني السياسة في المعنى اللغوي ما قاله الكفوي(3): "استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل".
السياسة شرعاً:
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن بني إسرائيل كانت تسوسهم أنبياؤهم"(4) ومعنى تسوسهم كما يقول ابن الأثير رحمه الله: "تتولى أمورهم كما تفعل الأمراء بالرعية"(5).
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب إذا ساس أمرهم من لم يصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعالج أمر الجاهلية"(6).
السياسة اصطلاحاً:
هناك أقوال لمعنى السياسة في الاصطلاح، فمنها قول النبهاني:"السياسة: رعاية شؤون الناس داخلياً وخارجياً، وهي تعني نظام الحكم وجهاز الدولة، وتعني علاقة الناس وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم، وهو ما اصطلح على تسميته بالسياسة الداخلية والخارجية"(7).
وفي موضع آخر قال: "السياسة: هي أفكار تتعلق برعاية الشؤون سواء أكانت قواعد: عقائد أو أحكاماً أو كانت أفعالاً تجري أو جرت أو ستجري أو كانت أخباراً، وقد عرف العلماء السياسة بأنها: فن الممكنات أو فن الممكن. وهذا التعريف صحيح أي: الأفكار التي تتعلق بالواقع والأحداث الممكنة وليس المستحيلة أو المتخيلة أو الفروض المنطقية"(8).

ويقول عبد الوهاب خلاف: "إن علم السياسة الشرعية يبحث فيه عما تدبر به شئون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام"(9).
لكن أحسن الأقوال وأجمعها ما ذكره العلامة ابن القيم نقلاً عن ابن عقيل الحنبلي إذ قال: "السياسة ما كان من الأفعال، بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا نزل به وحي"(10).
والمقصود أن أي سياسة تنبني على العدل فالشريعة تقرها، وإن كانت ظلماً فالشريعة ترفضها، ولا يشترط في القضايا السياسية أن ينزل فيها وحي، بل إن السياسة يقصد بها رعاية الآداب والمصالح.
تعريف علم السياسة الشرعية:
يقول الشيخ عبد العال عطوة: "هو علم يبحث فيه عن الأحكام والنظم التي تدبر بها شئون الدولة الإسلامية، والتي لم يرد فيها نص، أو التي من شأنها التغير والتبدل بما يحقق مصلحة الأمة ويتفق مع أحكام الشريعة وأصولها العامة"(11).
ومعنى ذلك أن كل نظام أو قانون يتعلق بشئون الدولة ويحقق المصلحة، واتفق مع الأحكام الشرعية والقواعد الأصولية والمقاصدية فهو من السياسة الشرعية، وما لم يحقق المصلحة أو خالف الشريعة فلا يعد من السياسة الشرعية لا من قريب ولا من بعيد.
العلاقة بين علم السياسة الشرعية والفقه:
علم السياسة الشرعية جزء من علم الفقه، فعلم الفقه أعم، وعلم السياسة الشرعية أخص.
فائدة علم السياسة الشرعية:
علم السياسة الشرعية يظهر شمول الشريعة الإسلامية لاحتياجات ومطالب البشرية وما فيها من المرونة والسعة ومواكبتها للتطورات العصرية يظهر في الواقع صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في كل زمان ومكان، سواء كان ذلك من خلال الأحكام الشرعية أو القواعد الفقهية والمقاصدية كما يبرهن هذا العلم أن الإسلام دين ودولة.
يقول الماوردي رحمه الله: "ليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه وطمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة ولكل عصر في وهيه أثر"(12).
وصدق رحمه الله فإن سلفنا الصالح لما كانوا ملتزمين بالنظام السياسي الإسلامي كان الدين قوياً وأحكامه محفوظة، ولما تخلى السلاطين عن الدين شيئاً فشيئاً وهي النظام السياسي وافترق السلطان عن القرآن فذل المسلمون؛ لأنهم تخلوا عن شيء من شريعة الله، وتحاكموا عوضاً عن ذلك إلى آراء السلاطين وأهوائهم؛ حتى وصل الحال في زماننا إلى تبديل الشريعة بقوانين وضعية، فأصيبت الأمة بمقتل وآلت إلى الخذلان.
خصائص النظام السياسي الإسلامي
1- أن السيادة العليا في هذا النظام للشرع المطهر، فلا توجد سلطة أخرى تساويه أو تدانيه (13) قال تعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء:65].
وقال: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" [الأحزاب:36].
2- غاية هذا النظام العليا صلاح الدنيا وعمارتها، وفلاح الآخرة وعمارتها؛ وذلك أن السياسة سياستان: سياسة الدين وسياسة الدنيا، فسياسة الدين ما أدى إلى قضاء الفرض، وسياسة الدنيا ما أدى إلى عمارة الأرض.
3- أن الحاكم في النظام الإسلامي بمثابة الأجير لدى الأمة في عقد الإمامة، ولا يتولى عليها إلا بإذنها واختيارها.
4- أن التشريع في النظام الإسلامي حق خالص لله لا ينازعه فيه أحد.
5- لا استبداد في النظام الإسلامي، وأن من مارس الاستبداد في التاريخ الإسلامي لم يكونوا يمثلون النموذج الإسلامي الرفيع الذي تقره الشريعة.
6- النظام الإٍسلامي لا يرفض التعددية الدينية، بل إن التسامح هو روح النظام الإسلامي في جميع مجالات الحياة.
7- أن الأمة هي صاحبة السلطة، وهي التي تختار الحاكم وتراقبه وتحاسبه وتحتسب عليه، وتعزله عند وجود المقتضي.
8- أن النظام الإسلامي يعتمد على الشورى قال تعالى: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" [الشورى:38].
9- أن النظام الإسلامي يقوم على أداء الأمانة إلى أهلها، والمقصود أن التعيين في الوظائف يتم على اختيار الأكفأ. قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" [النساء:58].
مشروعية العمل السياسي:
المقصد من تنصيب الحاكم هو إقامة الدين وسياسة الدنيا به، ولم يزل الخلفاء يقومون بهذا الواجب حتى حدث الإخلال بهذا الواجب من قبل بعض الحكام؛ بسبب تحكيم الهوى؛ والبعد عن الشرع، ومعلوم أنه إذا أقيم الدين استقامت الدولة، وإذا لم يقم الدين اختلت الدولة، وبهذا الاختلال تختل واجبات دينية كثيرة، وكان لزاماً على المصلحين أن يسعوا لإصلاح تلك الأوضاع من خلال العمل السياسي حتى تعود الأمور إلى نصابها.
وقد استدل القائلون بمشروعية العمل السياسي بأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية، والقواعد الفقهية والأصولية والمعقول:
أولاً: من القرآن الكريم
قول يوسف عليه السلام لملك مصر: "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف:55-56].
قال الآلوسي رحمه الله (14): "في الآية دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء الأحكام الشريعة، وإن كان من يد الكافر أو الجائر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقفت على ولايته إقامة واجب مثلاً وكان متعينا لذلك".

وقال الشيخ السعدي رحمه الله (15) وهو يتكلم عن الفوائد المأخوذة من الآية: "ومنها أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، وقد يعلمون بعضها، وقد لا يعلمون شيئاً منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم وأهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها وجعلهم عَمَلةً وخدماً لهم، نعم، إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم".
ومما لا شك فيه أن المشاركة السياسية تحقق بعض المكاسب للدعوة ومنها حماية الدعوة والدعاة من الاضطهاد والاستبداد؛ لأن الدعوة إلى الله إذا كان عندها برلمانيون أو قادة في المجالس المحلية أو غيرها من المجالس فسيكونون -بإذن الله- سبباً في الدفاع عن الدعوة وفي تراجع أولئك الطغاة عن سجن الدعاة أو سحقهم.
ثانياً: من السنة النبوية
استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(16).
وقوله: "إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع"(17) فدل الحديثان على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك القيام بهذين الواجبين عبر البرلمان لأنها هي الوسيلة الفعالة ولا شك.
كما استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: "مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة"(18) فوصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رجل صالح، وأنه من المسلمين، وأمر بالصلاة عليه مع أنه كان ملكاً لأمة كافرة، وكان لا يحكم الشريعة رغم إسلامه، وقد وصفه الحافظ ابن حجر فقال(19): "كان ردءاً للمسلمين نافعاً".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(20): "والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماماً، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا بشرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها".
ثالثاً: القواعد الفقهية الحاكمة.
كما استدلوا بقواعد فقهية كثيرة منها:
القاعدة الأولى: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع".
الدليل والتعليل لأن السياسة هي كل فعل كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه النبي صلى الله عليه وسلم أو نزل به وحي، ومما يشهد لذلك:
1- نفي عمر رضي الله عنه لنصر بن الحجاج:
وقد قال القرافي رحمه الله: "واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفاً للشرع، بل تشهد له القواعد الشرعية من وجوه ذكر منها:
2- كثرة الفساد وانتشاره مع نفي الضرر في الشريعة ورفع الحرج:
فتجوز الأحكام التي لم ينص عليها لتحصيل هذه المصلحة.
3- المصلحة المرسلة:
وهي ما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاء، وبها عمل الصحابة ومن بعدهم ومن أمثلتها:
- كتابة المصحف.
- ولاية العهد لعمر.
- تدوين الدواوين.
- اتخاذ دار السجن.
- عمل السكة.
- التاريخ الهجري.
- تضمين الصناع.
4- تحريق عثمان رضي الله عنه للمصاحف:
ومما سبق نرى أن هذه السياسات لم يرد فيها نص شرعي ولا مثال سابق، وبالرغم من ذلك قام الخلفاء بتلك السياسات مما دل على أن رفع الظلم وتحقيق العدل والمطالبة بذلك لا يشترط في وسائله أن يرد فيها دليل شرعي، ومن ذلك المشاركات السياسية بجميع أشكالها، والشرط في ذلك ألا تصادم هذه الوسائل نصاً جزئياً ولم يعترضها أصل كلي.
القاعدة الثانية: "تحصيل أعظم المصلحتين، ودرء أعظم المفسدتين عند التعارض"
فإذا كانت المصلحة لا تتم إلا بمفسدة، أو كانت لا تتحقق إلا بتحقيق فوات لمصلحة أخرى، أو كانت المفسدة الأكبر لا تندفع إلا بارتكاب مفسدة أصغر، فإن القاعدة الشرعية تحصيل أكمل المصلحتين ودرء أعظم المفسدتين.
ومن تطبيقات هذه القاعدة ما يأتي:
- سفر المرة من دار الحرب إلى دار الإسلام بدون محرم على بقائها بدار الحرب.
- قبول بعض الولايات التي تتضمن شيئاً من المخالفات كالظلم ونحوه تخفيفاً للظلم الأكبر، وتحصيلاً للعدل الأرجح لما في تحقيق هذه المصالح من المنافع وإن شابها بعض المفاسد.
ومن التطبيقات المعاصرة:
ترجيح المشاركة السياسية على المقاطعة مع وجود بعض المفاسد؛ وذلك لابتناء الشريعة على تحقيق أكمل الخيرين ودفع أعظم الشرين.
القاعد الثالثة: اعتبار الذرائع.
فالوسائل لها أحكام المقاصد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فالمقاصد ما يشمل المصالح والمفاسد والوسائل هي طرقها المفضية إليها ووسائلها الموصلة إليها، وكما تسد ذرائع الحرام تفتح ذرائع الحلال الموصلة إليه، فكيف إذا كان ذلك من الواجب الذي به إقامة الدين، وتحصيل مصالح المسلمين.
رابعاً: الأدلة من المعقول
1- المشاركة السياسية سبيل من السبل التي يمكن من خلالها الوصول إلى تحكيم الشريعة، وإقصاء القوانين الوضعية؛ لأن المرشح الإسلامي يستحيل أنه يريد تطبيق غير الشريعة الإسلامية بينما العلمانيون يريدون تنحيتها مما يجعل الشعب يقف مع الإسلاميين كون الشعوب متدينة.
2- أن الأمة مأمورة شرعاً بتنفيذ أحكام الشرع وسياسة الدنيا بموجبها، وبما أنه يتعذر على الأمة كلها القيام بذلك الواجب، فلا بد أن ينوب عنها من يتولى امتثال ذلك الأمر، ولا يتم ذلك إلا من خلال انتخاب هؤلاء النواب، فعلى الأكفاء أن يعرضوا أنفسهم على الأمة لتنتخبهم وتختارهم للنيابة عنها في هذا الواجب، وعلى الأمة أن ترشح الأكفاء يقومون نيابة عنها بذلك الواجب.
فتاوى العلماء المعاصرين:
فتيا مؤتمر علماء الشريعة في أمريكا الشمالية المنعقد في نوفمبر 1999م في مدينة ديترويت ولاية متشجن، حيث حضر في هذا المؤتمر أكثر من ستين عالماً من علماء الشريعة، وعلى رأسهم الشيخ الدكتور/ يوسف القرضاوي، والشيخ الدكتور/ وهبة الزحيلي، والشيخ الدكتور/ عبد الستار أبو غدة، وقد صدر عن هذا المؤتمر الفتيا الآتية:
"الأصل مشروعية المشاركة السياسية في جميع المجالات التي يتحقق بدخولها نفع عام للمواطنين والمقيمين بمن فيهم من المسلمين مثل: الانتخابات والترشيح للمجالس والحكومات المحلية وممثلي الشعب والإدارات التنفيذية والمؤسسات الإغاثية والدولية لما في ذلك من حماية مصالح المسلمين في الداخل، وتوضيح صورة الإسلام الحضارية بطرق وممارسات عملية، ودعم القضايا الإسلامية والإنسانية العادلة"(21).
وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية نصه: "هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها؟ مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله؟
فكان نص الجواب: لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين، ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على النظام الحاكم على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية"(22).
هذا وقد أفتى الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله بالجواز لما سئل عن الترشيح لمجلس الشعب واستخراج بطاقات انتخابية؟
فكان نص الإجابة: "إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل؛ لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخابات الدعاة الصالحين وتأييد الحق وأهله".
ولما سئل الشيخ العلامة ابن عثيمين عن حكم الدخول في المجالس النيابية كان جوابه رحمه الله: "ادخلوها أتتركوها للعلمانيين الفسقة".
وفي أسئلة الباب المفتوح قال رحمه الله: "أنا أرى أن الانتخابات واجبة، يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً؛ لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر أو الناس السلبيون الذين ليس عندهم لا خير ولا شر أتباع كل ناعق، فلابد أن نختار من نراه صالحاً.. إلى آخر ما قاله رحمه الله".
هذا وقد تكلم المتقدمون من العلماء الأعلام حول مشروعية العمل السياسي بكلام واف وشاف، ودونك كلمات بعضهم:
يقول الإمام الماوردي: "والإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع"(23).
وإذا كان عقد الإمامة واجباً بالإجماع كما يقول الماوردي رحمه الله: فهذا أعلى درجات المشروعية.
ويقول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: "أجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات، فإن الولاة المقسطين أعظم أجراً وأجل قدراً من غيرهم؛ لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل.. وعلى الجملة فالعادل من الأئمة والولاة والحكام أعظم أجراً من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام"(24).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس؛ لأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجب من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة"(25).
وقال أيضاً: "فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل القربات"(26).
ولما كان تقلد منصب الخلافة من أفضل القربات لما فيه من إقامة الدين والعدل ورفع الظلم، تنافس في طلبها الصحابة رضي الله عنهم، وأما النهي عن طلبها فيتنزل على من كان ضعيفاً وغير متأهل لها.
قال الإمام النووي رحمه الله وهو يشرح حديث "يا أبا ذر! إنك ضعيف"(27): "هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لاسيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائفها، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلاً لها، أو كان أهلاً ولم يعدل فيها، فيخزيه الله تعالى يوم القيامة، وأما من كان أهلاً للولاية وعدل فيها، فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة، كحديث: "سبعة يظلهم الله في ظله.. إمام عادل"(28) وإجماع المسلمين منعقد عليه"(29).
وهذا يدل على مشروعية العمل السياسي من حيث الأصل، غير أن مفاسد ومشاكل عدة تكتنف هذا العمل في الواقع المعيش، منها ما يتعلق بنظم الحكم والإدارة، ومنها ما يتعلق بواقع الدعوة والدعاة، مما يجعل العمل السياسي من خلال الأحزاب السياسية المعاصرة والمجالس التشريعية القائمة في بلاد المسلمين اليوم يدور في فلك القضايا السياسة الشرعية القائمة على ترجيح المصالح والمفاسد، والتي تختلف فيها أنظار العلماء بحسب الزمان والمكان.
أهداف العمل السياسي الإسلامي المعاصر:
لا شك أن للعمل السياسي الإسلامي المعاصر أهدافاً عدة يمكن إجمالها فيا يأتي:
1- استئناف الحكم والتحاكم لشرع الله:
وذلك بسبب تنحية الشريعة منذ فترة ليست بالقصيرة، وصارت البرلمانات تقنن قوانين تتصادم مع شرع الله عز وجل، والله جل وعلا يقول: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء:65].
والواجب على المسلمين أن يرفضوا العمل بتلك القوانين، وأن يعملوا من خلال العمل السياسي البرلماني على إلغائها "فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(30) و "إنما الطاعة بالمعروف"(31).
وقال أبو بكر الصديق في خطبته الشهيرة: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"(32).
فطاعة الحاكم ليست طاعة مطلقة بل هي مقيدة بقيد تحكيمه للشرع يقول عليه الصلاة والسلام: "اسمعوا! وأطيعوا! وإن تأمر عليكم عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله"(33).
وفي رواية عند مسلم: "لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له! وأطيعوا!" يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: "الإمام واجب طاعته ما قادنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره"(34).
وعليه فإن من أبرز أهداف العمل السياسي المعاصر هو إقامة ما يمكن أن يقام من أحكام الشرع والحفاظ على ما تبقى من التشريعات حتى لا تتبدل.
2- حماية الحقوق والحريات الفردية والجماعية:
فلا يجوز للسلطة أن تقوم بتعذيب أو اضطهاد فرد أو جماعة لمجرد كونها تعارض النظام، كما لا يجوز للسلطة أن تمنع من الانتماء إلى أي حزب أو طائفة سياسية تطرح برامج إصلاحية أو تسعى للوصول إلى السلطة بطريقة سلمية، وليس للسلطة كذلك أن تمنع الإنسان من فعل أي عمل ما لم يكن محظوراً شرعاً، أو مضراً بالغير أو المصلحة العامة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان، ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن"(35) ومن واجبات الدولة أن تحقق العدل والمساواة بين الناس في القضاء والعطاء، وتؤمن الضروريات والحاجيات لجميع الرعايا مسلمين كانوا أو كفارا، ولا يجوز للسلطان أن يتصرف بالمال العام بحسب هواه، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ليس لولاة المال أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء وليسوا ملاكاً"(36).
وبناء على ما سبق فإن تحصيل الحقوق، وحماية الحريات الشرعية، ودفع الظلم عن الناس أو تقليله من مقاصد ممارسة العمل السياسي الإسلامي المعاصر.
3- انتشار الدعوة إلى الله وحمايتها:
إن انتشار الدعوة إلى الله تعالى في كل مجال مطلب أساس من مطالب الدعوة ولا يجوز بحال من الأحوال يتاح فيه منبر جديد للدعوة أن يهمل، وخاصة منابر المؤسسات السياسية، كمجالس النواب والشورى والمجالس المحلية والنقابات وما شابه ذلك، قال الله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [آل عمران:104].

وإن الصدع بكلمة الحق في مثل هذه المنابر وكشف الفساد السياسي والعبث بالمال العام وبمقدارت الأمة لهو من الجهاد في سبيل الله تعالى.
وإن استغلال هذه المنابر يمهد للمطالبة بحرية أكبر للدعوة والدعاة إلى الله تعالى، ويمهد لأجواء أفضل لممارسة الدعوة، ويقطع الطريق على أولئك الحاقدين الذين يبثون الدعايات والشبهات حول الدعاة إلى الله عز وجل، كما تعين المشاركة في هذه المنابر على إيجاد الكوادر القادرة على القيام بأعباء هذا العمل خاصة وأن البرلماني يعطي حصانة تمكنه من الصدع بالحق وهذا ما لم يتح لغيره، ولا شك أن مواجهة العلمانيين، وكشف حقيقتهم ومخططاتهم، وتقليل سوادهم في هذه المجالس خير من تركهم وحدهم يعيثون فساداً، ويقننون القوانين التي تتصادم مع الشريعة الإسلامية، ثم لا يستطاع بعد ذلك إلغاؤها إلا بشق الأنفس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ:90.
(2) لسان العرب: (6/ 107).
(3) الكليات: (808).
(4) رواه البخاري: (3455) ومسلم: (1842).
(5) النهاية في غريب الحديث: (2/ 1031).
(6) رواه الحاكم في المستدرك: (4/ 428).
(7) مفاهيم سياسية لحزب التحرير: (1).
(8) السياسة والسياسة الدولية.
(9) النظم الإسلامية لحسين الحاج: (ص44).
(10) إعلام الموقعين: (4/ 372).
(11) المدخل إلى السياسة الشرعية: (ص47).
(12) أدب الدنيا والدين: (ص115).
(13) انظر تحطيم الصنم العلماني لمحمد شاكر الشريف: (ص49).
(14) روح المعاني: (13/ 5) بشيء من التصرف.
(15) تيسير الكريم الرحمن للسعدي: (ص389).
(16) رواه مسلم من حديث أبي سعيد: (49).
(17) رواه مسلم من حديث أم سلمة: (1854).
(18) رواه البخاري: (3877) ومسلم: (952) عن جابر رضي الله عنه.
(19) الإصابة في تمييز الصحابة: (1/ 215).
(20) مجموع الفتاوى: (19/ 218-219).
(21) مشاركة المسلمين في الانتخابات الأمريكية للدكتور صلاح سلطان: (ص67).
(22) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (23/ 406).
(23) الأحكام السلطانية: (ص5).
(24) قواعد الأحكام: (1/ 120-121).
(25) السياسة الشرعية: (ص217).
(26) السياسة الشرعية: (ص217).
(27) رواه مسلم: (825) من حديث أبي ذر.
(28) رواه البخاري: (660) ومسلم: (1031) من حديث أبي هريرة.
(29) شرح صحيح مسلم: (12/ 210-211).
(30) رواه أحمد: (1/ 131) من حديث علي رضي الله عنه.
(31) رواه البخاري: (7145) ومسلم: (1840) من حديث علي رضي الله عنه.
(32) رواه عبد الرزاق في المصنف: (11/ 336).
(33) رواه أحمد: (4/ 70).
(34) الفصل في الملل والنحل: (4/ 176).
(35) مجموع الفتاوى: (20/ 54).
(36) السياسة الشرعية: (ص47).