حرف الجر الذي أشاع في ربوع المسلمين الخير !



( أذلة على المؤمنين )
لكلّ بنيان يشيده الإنسان ضمانة لتماسكه ؛ تمسكه أن يزول ، متمثلّة في الأساسات القوية التي قام عليها هذا البنيان ، وفي المواد اللاصقة التي تتخلّل لبنات هذا الصرح الظاهر للعيان ، وذلك مَثـَلُ بنيان الأخوّة الإيمانية الذي شادته إرادة الرحمن ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) (الأنفال:63) فإن إرادة المولى جلّ شأنه التي عقدت عقد الأخوّة هذا قد أرست ضمانة لتماسكه وصيانته وديمومته متمثلّة في إشاعة أجواء الصفح والعفو وخفض الجناح وتغليب نفسيّة التغافر بين ظهراني أفراد المجتمع المسلم ، فقال عزّ من قائل : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) الشعراء: ٢١٥ وقال سبحانه في وصف القوم الذين يحبّهم ويحبّونه : { أذلة على المؤمنين } فكما أن المودة والألفة تشدّان بنيان المجتمع وتجعلان لبناته مرصوصة بعضها إلى بعض ، كذلك فإن خفض الجناح وذلّة المؤمنين فيما بينهم يعدّان سياجاً أمنياً حافظاً لذاك البنيان من التآكل والانهيار ، فهما يصونان الصرح الأخويّ من عوامل التعرية المتمثلة في الضغائن والشحناء ، اللتين تتسلّلان إلى القلوب على حين غفلة من أهلها فتعشّشان فيها !
من أجل ذلك كانت النفس التي تحمل بين جنباتها قلباً صافياً نقيّاً ، ومن الأحقاد طاهراً خليّا ، لهي بحق نفس عليّة اجتباها ربّها وأحبّها وتفضّل عليها فكانت راضيّة مرضيّة تُحِبّ وتُحَبّ بشهادة ربّها تبارك وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) المائدة: ٥٤ فهذه الآية القرآنية الكريمة جاءت لكشف حال من اجتباهم ربّهم ، فأتت بهم المقادير الربّانية كنموذج بهم يُحتذى ، وبهم يُـتأسى ويُـقتدى ! فجاءت في طليعة صفاتهم ومناقبهم الخُلُقيّة أنهم { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } ومن تأمّل هذه الآية وجد شيئا بهيّا مفاده : أن القياس اللغوي أن يُقال ( أذلة للمؤمنين ) لا ( على المؤمنين ) كما يُقال : تذلّل لفلان لا عليه ! وكما في قوله تعالى : (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) الشعراء: ٢١٥ وقوله في باب برّ الوالدين : ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيرا) الإسراء: ٢٤ فلا يُقال تذلّل عليه ! للمنافاة بين التذلّل والعلوّ ، ولكنه عُدّي بـحرف الجر ( على ) لتضمينه معنى العطف والحُنُو المتعدّي بها ؛ فالذل هنا بمعنى لين الجانب وتوطئة الكنف ، وهو شدّة الرحمة والسعي للنفع ولذلك علّق به قوله { على المؤمنين } فلتضمين أذلّة معنى مشفقين حانّين عُدّي بـ (على ) دون اللام !
و( أذلة ) : جمع ذليل ولمّا كان ذلّهم هذا إنما هو الرفق ولين الجانب لا الهوان ، كان في الحقيقة عِزّا، فلذا أشار إليه بحرف الاستعلاء (على)مضمّناً له معنى الشفقة فبان أن تواضعهم عن علوّ منصب وشرف ( على المؤمنين ) .
ذلك أن المرء قد يتردّد في الصفح والعفو خشية أن يُنعت بالذل ، فجاء حرف الاستعلاء ليبدّد عنهم هذا الوهم ، وليقرّر بأنهم بعفوهم عن إخوانهم وخفض جناحهم لهم قد علت مرتبتهم الإيمانية ، وعلت منزلتهم على منزلة غيرهم جرّاء عفوهم وصفحهم الذي يوحي بتواضعهم لإخوانهم ، وذا تصديق وتحقيق لقوله عليه الصلاة والسلام : (وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) [مسلم] و قال عمر بن الخطاب – رضي الها عنه - على المنبر( أيها الناس تواضعوا فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول : من تواضع لله رفعه الله) [رواه الطبراني] وعن أبي هريرة مرفوعا : ( من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله ، ومن ارتفع عليه وضعه الله )[رواه الطبراني في الأوسط ] فقوله عليه الصلاة والسلام : ( رفعه الله ) أي : يرفعه في الدنيا ، ويُثبت له بتواضعه في القلوب منزلة ، ويرفعه الله عند الناس ، ويجلّ مكانه مع ما ينتظره من رِفعة درجة وعلوّ مقام في الآخرة .
وبعـد : فقد بان بأنّ هؤلاء المتواضعين العافين عن الناس أذلّة ، ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم بل ذاك التذلّل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضمّوا إلى علوّ منصبهم فضيلة التواضع ! وأنعِمْ بها من فضيلة من حازها فقد حاز حظاً من الخير وافرا ، وضرب من غنيمة الأجر والثواب والكرامة سهماً ظافرا .
حليمٌ إذا ما الحِلمُ زيّن أهله .......... مع الحِلمِ في عين العدوّ مَهيبُ
فـ ( على ) في هذا السياق كان هو حرفَ الجرّ الذي أشاع في ربوع المسلمين الخير ! فمن وعاه فآمتثله في خطاه .. وأشاعه بين الورى حَسُنَ متقلّبه ومثواه ، وحصد الخير الوفير .. ومَنْ حاد عنه فقد حاد عن صراط من البِرّ كبير !
من هنا : فأفراد الأمّة وجموعها إما أن ينحازوا إلى حرف الجرّ هذا فتحصل لهم في أنفسهم السكينة والاطمئنان ، ويشيع بين ظهرانيهم الأمن والأمان ، وإما أن ينجرّوا إلى أتون مشاحنات نفسية وضغائن قلبية ينفرط على إثرها عَقد أخوّتهم انفراطاً ما له من فواق...