التنقيح المطّرد



د. محمود نديم نحاس
في دورة تدريبية خاصة بإدارة المشاريع ذكر المدرب تعبيراً بالإنجليزية وشرحه بالعربية، ثم ذكر بأن الترجمة الرسمية له هي "التنقيح المطّرد". فشعرت بأن الحاضرين، وكلهم عرب، استغربوا العبارة. في حين أني لم أستطع أن أعرف ما الغريب فيها. فأصل الفعل "نَقَحَ" الشيءَ أي خلص جيده من رديئه، ونَقّح، صيغة مبالغة، والتنقيح هو التهذيب والإصلاح، وكثيراً ما نرى الكتب التي يُعاد طبعها يُكتب عليها "طبعة مزيدة ومنقَحة". أما كلمة "مطّرد" فهي من الفعل "اطّرد" أي تتابع وتسلسل، ومنه دعاؤنا لمن وُفِّق في أمر: نسأل الله لك اطّراد النجاح، أي تتابعه واستمراره.


تُرى لماذا صارت اللغة العربية غريبة على مسامعنا؟ هل بسبب قلة زادنا من المطالعة الإضافية والثقافة العامة؟ أم بسبب بعض وسائل الإعلام التي صارت تستسهل اللغة العربيزية (العربية المطعّمة بالإنجليزية)، حيث تدمج كلمة من هنا وأخرى من هناك؟ أم إن التعليم في المدارس لا يستخدم الفصحى؟ وهل يُسمح لأستاذ العلوم أن يستخدم العامية بحجة أنه ليس أستاذاً للغة العربية؟ أم إن البيت والشارع لا يجيدان العربية ؟


نعم هناك كلمات أسهل من غيرها، وهناك كلمات تستسيغها الأذن أكثر من سواها، فتنطق بها الألسن، فيشيع استخدامها، وربما انزوى غيرها لقلة استخدامه فصار غريباً، أو قد يبدو أنه ليس من العربية. ومما قرأناه في كتب الأدب قول الشاعر صفي الدين الحلّي :


إنما الحيزبون والدردبيس ... والطخا والنقاخ والعلطبيس


لغة تنفر الأسماع منها ... حين تُروى وتشمئز النفوس


وَقَبيحٌ أَن يُذكَرَ النافِرُ الوَحــشِيَ مِنها وَيُترَكَ المَأنوسُ


أين قولي هذا كثيب قديم ... ومقالي عقنقل قدموس


والحلّي (نسبة إلى مدينة الحلّة في العراق) إنما عاش في القرنين السابع والثامن الهجريين (675-750هـ)، أي بعد سقوط بغداد بيد المغول، وتدمير حضارتها على أيدي الغزاة الأعاجم، ويبدو أنه لاحظ ما أصاب اللغة العربية في تلك الفترة فنظم قصيدته التي اخترتُ منها الأبيات، وأشار فيها إلى بعض الألفاظ التي صارت لغة غريبة منفِّرة ودعا إلى استخدام المأنوس. وبالمناسبة فالحلّي هو الذي نظم بيتا لكل بحر من بحور الشعر، سُميت مفاتيح البحور، ليسهل حفظها على الطلاب ويميزها الشعراء، فللبحر البسيط مثلا :


إن البسيط لديه يُبسط الأمل ... مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعل ولا أحد ينادي اليوم بأن ندرّس طلابنا معاني الكلمات الواردة في قصيدته، إلا أن يكون الطالب متخصصاً بالأدب أو اللغويات. لكن تعبيراً مثل "التنقيح المطّرد" لا أظنه بهذه الغرابة، فهو مازال على الألسن. وبالمناسبة فإن التعبير الإنجليزي المقابل له هو Progressive Elaboration، فأيهما أسهل : العربي أم الإنجليزي؟ وأيهما أجمل : الإنتلجنسيا أم أهل الفكر، وأيهما آنس : الشيزوفرينيا أم انفصام الشخصية ؟ ومثلها معظم أسماء الأمراض. وقد أعلمني صديق أن مجمع اللغة العربية في دمشق أقر كلمة الشابكة للتعبير عن شبكة الإنترنت. وأظنه تعبير جميل، فما المانع من استخدامه ؟.


عندما لم تكن الشابكة موجودة ولا القنوات الفضائية كانت مصادر التلقي محدودة، فكان ضبط اللغة أسهل ، ومازلت أذكر البرنامج الإذاعي : "لغتنا الجميلة". أما الآن فإذا لم تتخذ وزارات الإعلام العربية قراراً يمنع استخدام الألفاظ الدخيلة والمهجنة فلا ندري ما هي اللغة التي سيستخدمها أحفادنا. وأخيراً وليس آخراً، فقد حدثني غير واحد ، أنهم التقوا عرباً غير مسلمين يحفظون القرآن الكريم أو يجيدون قراءته ، وذلك من أجل إتقان اللغة العربية. فهل في هذا درس ؟.