صبرُ الشاميّين !



إذا ذبِحَ أهلُ الشام ذبِحَت مروءة أهل الإسلام !


لئن كانت شرعتنا الحنيفة أوصت عموم المؤمنين ، بامتثال قيمة الصبر ، والتحلي به فيما حَزبَهم من أمور ؛ كالصبر على المأمور والمحذور والمقدور ، فإنها خصّت المظلومين المستضعفين المقارعين للباطل وأهله بأحوال من الصبر المستبين ، فكان أن أوصتهم بالصبر : قبل نشوب المعركة ضدّهم واحتدام الصراع ، وبالصبر في خضم العدوان عليهم والنزال والقـِراع ، وبالصبر عقب حملة عدوانية نزلت بساحتهم وصار غبارُها الى انقشاع .
فهذه أحوال ومقامات من الصبر ينعقد بنواصيها حكم بالغة نيرة ، وثمرات طيبة خيرة .
أما الصبر قبل نشوب المعركة فأثبته قوله تعالى لسيد المجاهدين صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين ، بنص قرآني مبين: { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} [سورة الأحقاف آية35 ]
فالوصية بالصبر في هذه الآية الكريمة حملت بين طيّاتها لمسة تربوية بارعة ، مؤداها أنها تضبِط مشاعرهم ، وتهذب عواطفهم ، وتمحّص مواقفهم ، وتصوّب ولاءاتهم، وتصفّي نواياهم وطواياهم وسرائرهم ؛ فصولاتهم وجولاتهم التي يقارعون فيها الباطل لا تأتى من باب ردود الأفعال ، إنما من جهة إرضاء الكبير المتعال ، فهي ليست رهينة حظوظ النفس ، إنما من الظلم والظلام تقتص ، فدماؤها وأرواحها في سبيل الله ترخص ، إعلاء لراية التوحيد ، وتخضيدا لشوكة الباطل العنيد ، وذوْدا عن حياضها وحرماتها ، وانتزاعا للحرية المصادرة وإحياء للكرامة المهدورة.

وأما الصبر في خضمّ المعركة والعدوان الذي يشنّ عليهم فبيّـنه قوله تعالى :
{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } [ سورة آل عمران آية 200 ]
وقوله { ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } [سورة الأنفال الآيتان45، 46 ] .
فما حملته هذه الآيات الكريمة بين ثناياها من دعوة إلى التجلد وتجشم المشاق ، في وجه المنايا إذا فرضت عليهم بلا وجل ولا إخفاق ، فذا من شأنه أن يفرّج كربتهم ، وينهي - بإذن الله – غربتهم ، في حين يخضد لأهل الجرم والإجرام شوكتهم ، وقد قدمت غزوة حنين للبشرية في هذا الصدد أسمى عِظة ، صاغتها ثلة مجاهدة بصبر لحظة.
من هنا : فعلى المظلومين في أتون معركتهم المقدسة التي يذودون فيها عن حياض الأمة ومقدساتها وحرماتها .. يخوضونها بما أوتوا من عزيمة وإرادة حتى كتلكم الثلة المصابرة في أكناف بيت المقدس التي تخوض معركة مع سجّانها بأمعائها الخاوية ! عليهم ألا يقيلوا ولا يستقيلوا عن درب قدّموا فيه من الدماء والأشلاء والصبر والمصابرة ما يُعدّ ضريبة لا يستخف بها ولا يستهان على طريق نيل الحرية وتحقيق الاستقلال ....
وإن تعجب في هذا السياق فعجبٌ أن ترى أناساً يجنّدون بطونهم لخدمة أوطانهم ، وتكريس كرامتهم ، ومراغمة سجّانهم ، وفي الوقت نفسه تجد آخرين من دونهم يجنّدون أوطانهم خدمة لبطونهم ، وإشباعاً لشهواتهم المذمومة وملذاتهم المذءومة ! وآخرين يضحّون بشعوبهم حفظاً لكراسيّهم التي غاصت قوائمها بدماء رعاياهم ، وتخليداً لعروشهم التي طفت صروحها على بحيرة من نزيف دماء أبناء شعبهم وأشلائهم المتناثرة!
فعلى هؤلاء الصابرين المصابرين أن يتفطنوا دوما أن كوكبة الشهداء الذين قضوا نحبهم وجادوا من قبل ومن بعد بأرواحهم إنما شيّدوا منار هدى يهتدي به الحيارى ، فلا يليق بجموع أمتهم إلا أن تهبّ لرفع الضيم عنهم دونما أن تحيد أو تتوارى .. نعوذ بالله من الحور بعد الكور .
وأشد أحوال الصبر ومقاماته : الصبر عقب المعركة والعدوان ؛ إثر انقشاع جولة ، والفراغ من صولة، كشف ذلك قوله تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم } [سورة محمد آية 31] وقوله تعالى { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } [ آل عمران 142] ففي هذين السياقين أخّر الصبر عن الجهاد لأن الصبر المقصود هنا هو الصبر في أعقاب المعركة والعدوان الذي يُشنّ عليهم ، فيصبرون على لأوائه دونما انخزال أو انخذال !
ذلك أن غبار المعركة والعدوان سوف ينجلي عن دماء تنزف ، وأشلاء تتناثر ، وأرواح تزهق ، من فلذات الأكباد ، فضلا عما تخلفه وراءها من نساء ثكالى ، وأطفال يتامى ، وأبنية تتهاوى ، ومقدرات وثروات وخيرات ومزروعات ترى العدو يسارع في إتلافها ولا يتوانى ..!!
فهذا كله يتطلب من المظلومين ومن آزرهم ، استنفار جهود كثيفة ، واستفراغ طاقات حثيثة ، بغية تضميد الجرح ، وبلسمة القرح، وتوحيد الصفوف ، ولمّ الشمل على كلمة سواء ، وإعادة إلإعمار الإنساني قبل الإعمار البنياني ، لكيلا يتقاعس أحد يوماً ما عن الزحف نحو التحرير ، وانتزاع حق الحرية وتقرير المصير .
ومتطلبات هذه المرحلة تنوء بالعصبة أولي القوة ، إلا من رحم ربك ، فبثّ فيهم العزيمة والهمّة .
لذا تجد القرآن الكريم قد أعلى من شأن روّاد هذه المرحلة ، وأولاها عناية فائقة ، وتوجيهات سامقة ، ففي مثل هذه المرحلة وما شاكلها نزل قوله تعالى" من المؤمنينَ رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " [سورة الأحزاب آية 23 ] .
ذلك أن التبديل والتغيير إنما يزيّنة المرجفون شياطين الإنس والجن أجمعون حينما يُـثخَن الجسد بالجراح ، وتتناثر الأشلاء في الساح ، وتسيل بالدم البطاح .. عندها تتكثف جهودهم المذمومة ، وتنشط مساعيهم المحمومة ، وتتعالى صيحاتهم المسمومة ، لغزو النفوس بسوء الظنون ، واحرّقلباه !! فلهم في ذلك دروب وفنون .....والله المستعان !