حواري مع جريدة "خليجسك " الكويتية .. / الصحفي السوري " آلجي حسين "

4/ 3 / 2012م

كانت غاطسة في عالم مضمخ بالضجة ليلى البلوشي: مشروعي الفكري لا مدى له




“هل تحبينني.. هل تحبني.. هل تحبونني.. هل تحباني..؟”

تتساءل ليلى البلوشي في قصتها القصيرة (هل تحبونني). وفي قصة (الرجل الذي سيعقد قرانه عليّ)، تقول: “ومرة أخرى الأسئلة تجرني خلفها وتطبق بأظافرها الشرسة عنق صمتي المحموم”. أما في قصة (صاحبة الابتسامة الساحرة): “اقتعدت على كرسي مترهل الجلد بلا ظهر ولا أذرع”. رغم ذلك، هي تقول: “وصوت حنجرتي تبصق سؤالاً لم أجد له تفسيراً في معاجم العالم كلها.. لمَ أشتعل مع هذا الرجل وكأني أشوى على فوهة بركان ثائر؟!”.

تكتب وتكتب، وفي كتاباتها تتلمس ذلك النزق إلى الخروج، إلى حيث الفضاء، لكنها تعلن دائماً انتصار القيم.. ففي كل قصة أو مقال ثمة ما يؤرقها، وعلى الأغلب إنسانياً.. هي ذلك المخلوق الخارج من مجتمع يطمح مجتمعاً آخر أكثر رحابة.. وهي من كاتبات الإنترنت المعروفات.

ليلى البلوشي، كاتبة عُمانية مقيمة في دولة الإمارات، تخرّجت من جامعة الإمام محمد بن سعود عام 2004 حاملةً درجة البكالوريس في اللغة العربية، كما تحمل دبلوماً في البرمجة اللغوية العصبية، وهي الممارس المعتمد في البرمجة اللغوية العصبية من الأكاديمية البريطانية لتطوير الموارد البشرية.

تكتب البلوشي القصة القصيرة والمقال والخاطرة، وهي ناقدة في مجال أدب الطفولة، فضلاً عن زاويتها الأسبوعية في جريدة الرؤية العمانية. وتكتب الكثير في مدونتها الإلكترونية “أتنفس بهدوء”.

ومن إصداراتها كتاب بعنوان (أدب الطفل في دولة الإمارات)، نشر مشترك بين المجلس الأعلى لشؤون الأسرة، إدارة مراكز الأطفال والفتيات، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2007. وكذلك مجموعة قصصية بعنوان (صمت كالعبث)، نهر النيل للنشر، القاهرة 2008. وقصائد مترجمة إلى لغات عدة تُوّج بعضها في إصدارات ورقية. ومؤخراً وقّعت البلوشي كتابها (تحليقات طفولية في فضاء الكتابة الإبداعية/ دراسة تحليلية فنية لقصص أطفال)، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2011.

وفي هذا الكتاب تحليل لأربع قصص للأطفال كتبها أطفال وبناء شخصياتها وتفصيل الصراع والحبكة ودراسة كافة عناصرها الأخرى، وذلك في القصص: (النسر المغرور)، للقاصة الطفلة علياء عبد الله الزعابي، وقصة (سمير سارق الأمير)، للقاصة الطفلة ريم راشد الطنيجي، وقصة (مرآة الصداقة)، للقاصة الطفلة ميثاء محمد عبد الله، وقصة (الفرح المخبأ)، للقاصة الطفلة شيخة عتيق.

“كائنات تحت الصفر”، عنوان إحدى زواياكِ الأسبوعية في صحيفة الرؤية العُمانية، تطرحين فيه قضية الـ “بدون”، ما الذي تعانينه على الصعيد الشخصي من هذه المسألة؟

مسألة البدون بالنسبة لي هي مسألة إنسانية؛ فعلى الصعيد الشخصي لست من فئة البدون، ولكن أعيش في مجتمع تفشت فيه ظاهرة البدون. فمنذ وعيي على هذه الدنيا وأنا أسمع لفظة البدون، ومع الأيام تعوّدنا كما تعوّد المجتمع بكافة قطاعاته على وجودهم، لكن التسميات وحدها كانت تستحدث من بدون إلى عديمي الجنسية إلى لا يحمل أوراق ثبوتية، بينما حقوقهم الإنسانية وحدها كانت تتقلص من سيء إلى أسوأ.

ويبدو أن دولة الإمارات حسمت أمرها أخيراً تجاههم، وذلك بإصدار أوامر رسمية بحصولهم على جوازات جزر القمر، وهم ملزمون بهذا القرار؛ لأن جلّ أمورهم الحياتية معطلة وأبسطها تجديد ملكية السيارة.

أنا أضم صوتي لمعاناتهم. هنا وفي الكويت وفي كل مكان.. وجاءتني ردود كثيرة عن المقالة من أماكن لم أتوقع بوجود البدون فيها، وهناك من طلب مني الكتابة عن حياتهم الشخصية ومعاناتهم الأسوأ وهم خائضون في دوامة البدون منذ سنوات.

من الصعب أن تغدو كائناً تحت الصفر بلا حقوق وبلا أي شيء، وهؤلاء للأسف موجودون وحاضرون في عالمنا اليوم، وكأن الرحمة كانت ورقة في شجرة الحياة وسقطت حين آن موتها.

أنت مهتمة بأدب الطفل ودراسة ما يختلج في رأسه الصغير، وتتطرقين لهذه المسألة من خلال دراسات أدبية وفنية للطفل، ما هي صعوبات أدب الطفل؟

مأساة أدب الطفل أنه لا يُفهم. ولا يحاولون توظيفه كواقع.

أدب الطفل يعني مجموع أدبيات مختلفة تهيّء كل الطفل: عقله، قلبه، حواسه، أخلاقياته، طريقة تعامله مع الحياة وأكثر وأكثر.

لكن بتدوير النظر إلى المناهج المدرسية من خليجنا إلى محيطنا لا نجس شيئاً حقيقياً يهيّء الطفل لزمنه ولحاضره؛ وهذا ما اكتشفته الأمة العربية مؤخراً في ربيعها الثوري؛ ففي تونس ومصر وليبيا واليمن المناهج الدراسية عتيقة وعفا عليها الزمن، وقد تناولت هذا الموضوع في مقالة مطولة، قارنت فيها ما بين تعليم وطننا العربي والتعليم الغربي، فقد قرأت في خبر قصير أن أمريكا حوّلت حركة “احتلوا وول ستريت” إلى مادة دراسية يدرسها الطلاب في جامعاتهم، ومن ضمن المنهج مشاركة نشاطات مجموعات الناشطين، ولكن الحال عندنا متأخر ومزرٍ وتعليمنا لا يساير عولمة العصر ولا انطلاقه الزمني، وفي مقطع من مقالة قلت: “بالنظر إلى كل من الدول التي شهدت حركات الربيع العربي تونس ومصر وليبيا واليمن. بالنظر إليها سوف نرى أن مستوى التعليم فيها متردٍ ومتأخر وعلى حاله منذ سنوات عتيقة.

فالمناهج التونسية كما هي مذ زمن زين العابدين ولعل أطفالها يرددون مآثره الغابرة في نشيد وطني. وأطفال مصر على – ما يبدو – ما زالوا يقلّبون تلك الصفحات التي تعظّم رئيسهم المخلوع حسني مبارك. بينما صغار ليبيا يرددون شعارات زعيمهم معمر القذافي.

كأنما دمج الحركات الثورية في منهاج المواد الدراسية سيغدو حلماً عربياً آخر يضاف إلى مجموع أحلامهم المشرعة في فوهة التاريخ”.

مشكلة أدب طفلنا العربي أنه غير مجسّد سوى كحالة طارئة في الكتب وفي المهرجانات الطفولية. أما عن وجوده الكلي كواقع وتطبيقه كمشروع حيّ فهو ما يزال حلماً يسبر خيال أوطاننا.

هل استطعتِ توظيف البرمجة اللغوية العصبية كعلم في المجال الأدبي، وكيف؟

علم البرمجة اللغوية العصبية هو علم روحانيات، علم داخلي، يُعنى بقاع الإنسان، في تلك الأعماق السحيقة غرفة صغيرة هي جلّ عالمنا.. عالمنا الحقيقي، الأكثر صدقاً وحساسيةً وانتباهاً ليقظة الكون. و”كافكا” أشار إلى هذا المعنى الشبيه حين كان يردد: “في داخل كل منا غرفة”.

قطعاً هناك توافق ما – نوعيّ – فيما ننقله إلى عالم أوراقنا؛ الكاتب في النهاية إنسان ينقل إنسانيته كما إنسانية الآخر.

“صمت كالعبث”، عنوان مجموعتك القصصية، ثمة نزوع واضح للشباب وما يدور في هذا العالم، ماذا أردتِ أن تقولي في هذه المجموعة؟

لا أدري بالتحديد، أو ربما لا يمكنني الجزم بهذا الشيء بالتحديد، ربما لأن أقوالي أو نظرتي للمجموعة وما جاء فيها يختلف عن الآخر”المتلقي”.

فهنا لا أريد أن أقول شيئاً ثم عن لا وعي ألصق رغبات أو أفكار ما أقوله على عقل قارئي. أعتقد هنا تعمل – البرمجة اللغوية العصبية – بشكل واضح: أن أترك انطباع القارئ يسري بحرية وطلاقة بعيداً عن انطباعاتي الشخصية ككاتبة للعمل.

باعتبارك من كاتبات الإنترنت، ولديك حركة نشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، ماذا منحكِ هذا العالم الافتراضي؟

منحني الكثير: أصدقاء / تواصل اجتماعي / التعرّف على ثقافة الآخر / إلغاء الحواجز / القدرة على التقاط معاناة الآخرين وجس نبضهم عن قرب. هذا العالم مع التواصل والأصدقاء استحال إلى بيت إلكتروني، وفي كل يوم وفي كل ساعة يضيء أحد الضيوف عزلتك ويعايش حدثك اليومي، يعبرها بامتنان خلاّق.

إنه عالم انتشل الكاتب من أسطورة العزلة وهمشها، عالم ساحر ومدهش. فقديماً، كان القارئ يرى العالم من عين الكاتب ورؤيته وفكره وحواسه، ولكن اليوم مع الفعل التواصلي غدا الكاتب يرى العالم من عين القارئ وفكره وحواسه، ويحدث أن يتشاطر كلاهما التقاط تلك الرؤى والأفكار في أعمال تجس نبض المتلقي وتثير فكر الكاتب.

ليلى البلوشي ككاتبة وصحفية، كيف تحددين موقعك في جغرافية كُتاب وصحفيي العالم العربي؟

هذا السؤال صعب للغاية.

مازلت أشعر بأني صغيرة عليه كتابياً، وما يزال دربي غير مكتمل، ربما عندما تكتمل مشاريعي في هذا الصدد، ربما حينها أحاول أن أحدد موقعي الجغرافي أو التاريخي.

ولكني أضيف بيقين موقعي الحقيقي: من وإلى الكتابة.

والشعر، ما الذي يربطك به؟

لي حكاية غريبة مع الشعر.

معظم نصوصي الشعرية تُرجمت إلى عدة لغات، وتصدرت أكثر من كتاب مشترك مع كتاب آخرين في ترجمات مختلفة.

هناك شعر زاخم في داخلي – رغم انقطاعي – عن كتابة الشعر، بل أعترف أن النثر غلب الشعر في عوالمي، لكن هناك شعر زاخم من داخلي كما قلت آنفاً، وأتوقع هيجان شيطانه يوماً ما. نحن نغادر بعض الأشياء أو نوهم أنفسنا بذلك؛ لكن نفاجئ بها في وقت وزمن غير متوقع.

ربما لهذا لا أحب أن أودع الأشياء ولا أن أكون البادئة في التوديع؛ لأنني أؤمن من أن تلك الأشياء الغائبة أو التي هجرتنا سوف تعود إلينا بشكل وبآخر.

هل تعتبرين نفسك صحفية أم أديبة؟

أحب الاستقلال.. أن أكون حرة.. الاستقلال حتى على مستوى الألقاب..

وهذا على صعيد الكتابة أيضاً، وقد جاءتني عدة فرص جيدة للكتابة في صحف عديدة والالتزام معها كصحفية تابعة للجريدة ولكن رفضت معظمها؛ لأنني أبغض الالتزام وأحب الأدب المستقل. أن اكتب ووقت ما أشاء أرسل ما أكتبه إلى إحدى الصحف للنشر دون أن أكون مطالبة بتاريخ معين أو زمن معين.

ومن ضمن تلك الصحف اكتفيت بصحيفة واحدة وتعنى بالسياسة وهذا الالتزام على نقيض أحببته؛ لأنني كلما نأيت عن السياسة توجعاً بالأوضاع وجدتني مسحوبة إليها بمعنى تجعلني على دراية بالأوضاع وما يحدث في العالم بالساعة وتجعلني متابعة جيدة؛ لأن المقالة بالتحديد السياسية منها ابنة وقتها.

مع الكتابة الأدبية أنا حرة. أستطيع اعتزال زمني وعالمي نائية عن تفاصيل الحياة، ولكن مع الكتابة السياسية فالوضع مختلف والاعتزال الشخصي غير وارد مهما طعنتني رؤية الدم الإنساني المراق بإغلاق التلفاز أجدني راجعة إلى وجعه، أرفع الصوت كي أتابع بكل انفعالاتي المتصاعدة الأحداث، فأسجل تفاصيل أوثقّها في مقالة.

مازلت أفكر في وسيلة لجعل السياسة وعوالمها أقل قسوة وأكثف إنسانية.. مازلت.. مازلت..

ما الذي تودّين قوله في مشروعك الفكري؟ وما هو مدى هذا المشروع؟

الخيال مشروع اختراع، وكم حرّضنا “أينشتاين” على التبحر في الخيال حين عوّل نجاح المشاريع عليه: “الخيال أهم من المعرفة، بالخيال نستطيع رؤية المستقبل”.

وهذا ما أفعله بالتحديد مذ كنت طفلة أسرح في عالم خيالي، ولهذا كنت ومازلت ميالة إلى الصمت حتى إنني أسميت أول عمل أدبي لي “صمت كالعبث” وأهديت المجموعة إلى العبث الذي علمني العبور إلى الحكاية بلذة الصمت. والعبث أعنيه هنا الخيال، أن تعبث مع خيالك وتستفزه وتشحنه بطاقات خلاقة وتكهرب تفاصيله.

والطريف في سرحان هذا الخيال أن معلّماتي كنّ يثنين على تأدبي في فصولي الدراسية، ولكن ما فات معرفتهن حقاً هو أنني كنت غاطسة في عالم مضمخ بالضجة.. هائل الضجة.

وعليه، مشروعي الفكري لا مدى له؛ لأن الخيال بلا مدى.

حوار: آلجي حسين – دبي