السلام عليكم وخير السلام على خير الأنام وبعد:
يطالعنا في عالم الأدب مظاهر عدة من ولادات أدبية , إن جاز لنا اعتبارها كذلك,تستقي من منبع أصيل لتصل لمرفأ إبداع جديد فهل كان فعلا؟
ربما كان بتقارب كبير بينها, أو بحضور قواسم مشتركة ,قد نجد فيها توفيقا بدرجة معينة ,وربما لا ويبقى السؤال إلى أي مدى يمكن للمتلقي قبول هذا الولادة الجديدة؟
تنحصر تلك المفاهيم مابين القضايا الأدبية التالية:
التشطير, الكنية, الاقتباس المعنوي للنص.
ولكل قضية مستقلة قد نفرد لها شرحا نتمنى أن يلهم الأدباء الإضافة لها على ضوء تجاربهم الخاصة.

************
نعلم تمام العلم بأن هناك فرق مابين التخاطر والاقتباس الشعري فالأول غير مقصود أما الثاني فله علاقة إلى حد ما با لتناص, لكن ما نقصده هنا التطابق بالمعنى مابين الشعراء المتأخرين والمتقدمين .

مثال:
يقول الدكتور مصطفى علي الجوزو[1]
حيث يطرح قضية نحوية لأبيات لشعراء كان هناك شبه تطابق في معانيها حتى لتحسبها من مصدر واحد لو رتبناها تاريخيا وقد طرح وجهة نظر الرافعي فيها وهي:
بيت للشاعر الكبير احمد شوقي:
وإن أتاه خليل يومَ مسألةٍ=يقول , لا غائبٌ مالي ولا حرمُ
يتساءل عن رفع جواب الشرط هنا وعن فكرة هامة: هل سلطان الشعر أقوى من سلطان النحو؟
وبيت آخر لشوقي يتناسب مع أبي تمام كمعنى:
ما تراها تناست اسمي لما=كثرتْ في غرامها الأسماءُ
وعند أبي تمام:
أتيت فؤادها أشكو إليه =فلم أَخلص إليه من الزُحامِ
وعند أبو فراس الحمداني:
تسائلني من أنتَ؟وهي عليمةُ=وهل لفتي مثلي على حاله نكرُ؟
فقلتُ كما شاءت وشاء لها الهوى=قتيلكِ .قالت ْ : أيهمُ فهم كثرُ؟
فنرى أن بيت أبو فراس الحمداني هو أقرب الأبيات للنفس وأكثرها سلاسة على الأذن والقلب.
وفي قضية المعاني يبقى الأمر متاحا مادام هويته انزاحت لخصوصية المعنى عند الشاعر فبات الأمر مقبولا جدا ما لم يتطابقا وعندها يكون للحديث مسار آخر..
********
أما عن قضية الكنية فالأمر مختلف جدا لأن السؤال ومحوره سيكون مختلفا تماما:
هل حقق صاحب اللقب المذكور والمرتبط بكنية أصيلة الهدف ذاته؟ وهل له صلة ما مع سابقه؟لنستعرض تلك الألقاب إذن كنموذج:
الأخطل الكبير-الأخطل الصغير-الأخطل الجديد –والأخطل الحمصي-الأخطل الأخير
الأول أموي والثاني لبناني وبقية الأسماء من سوريا!!.وربما لو قدمنا رؤية للأول والثاني يعطينا صورة وافية دون أن نفند البقية.
فالأول شاعر عربي أموي:
هو غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة التغلبي الوائلي ويكنى أبو مالك ولد عام 19 هـ، الموافق عام 640م، وهو شاعر عربي ينتمي إلى بني تغلب بن وائل بن ربيعة، وكان نصرانياً، وقد مدح خلفاء بني أمية بدمشق في الشام، وأكثر في مدحهم، وهو شاعر مصقول الألفاظ، حسن الديباجة، في شعره إبداع. وهو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل عصرهم: جرير والفرزدق والأخطل.[2]يقال أنه كان أمويا وطالب شهرة وطالب مال[3]
من شعره:
لعن الله بين يهود عصابة بالجزع بين صلا صل و صرار
قومٌ إذا هدر العصير رأيتهم حمرا عيونهم كجمر النار
ذهبت قريش بالمكارم والعلا واللؤم تحت عمائم الأنصار
فذروا المعالي لستم من أهلها وخذوا مساحيكم بني النجار
يقول في قصيدة:
عقدنا حبلنا لبني شئيم ٍ
عقدْنا حبلَنَا لبني شئيمٍ فأضحى العزُّ فينا واللواءُ
وأضحتْ عامرٌ تعتادُ دوْساً كما اعتاد المطلقة َ النساءُ [4]
يُطِفْنَ بها وما يُغْنينَ شَيْئاً وقَد يُبنى على الصَّلَفِ الخِباءُ
هو شاعر هجاء بالدرجة الأولى فلم يتكنون به وهم ليسوا من أهل الهجاء؟ هل لنصرانيته الواضحة في شعره؟ أم لأمور لا نعلمها؟ وهل كان على مستوى الأخطل كل من أتى بعده؟ربما أجاب الأخطل الصغير عنا:
*********
الأخطل الصغير:

بشارة عبد الله الخوري المعروف بالأخطل الصغير ولقب أيضا بشاعر الحب والهوى. وسبب تسميته بالأخطل الصغير اقتداءه بالشاعر الأموي الأخطل التغلبي.

ولد في بيروت عام 1885، وتوفي فيها بتاريخ 31 يوليو 1968.
تلقى تعليمه الأولي في الكتاب ثم أكمل في مدرسة الحكمة والفرير وغيرهما من مدارس ذلك العهد.

ديد في الشعر العربي المعاصر ويمتاز شعره بالغنائية الرقيقة والكلمة المختارة بعناية فائقة.[5]
من شعره:
بـكـي ويـضـحـك لا حـزنـاً ولا فـرحـا كـعاشقٍ خـطَّ سطراً في الهوى ومحا

من بسمة النجم همس في قصائده ومـن مـخالـسـه الـضّـبـي الذي سـنحا

قـلبٌ تــمـرس بــاللـذات وهــو فـتـى كـبـرعـم لـمـسـتـه الريـح فـانفتحا

مـا لأقاحية السـمراء قـد صـرفت عـنّـا هـواهـا؟أرق الـحسن مـا سمحا

لو كـنت تدرين مـا ألقاه مـن شـجن لـكنت أرفـق مـن آسـى ومـن صفحا
********
هو شاعر الحب والهوى ولم يكن هجاء!!!فأين التشابه بينهما؟ رغم أننا نرى قوة في شعر الخوري مبنى ومعنى.وقد كحلت فيروز شعره بعنائها ...
لذا فقد توقفنا هنا علنا نكمل في فرصة أخرى ولكن لنظهر مدى افتراق المنحيين فهل أصاب بشارة الخوري في كنيته : الأخطل الصغير؟ ولم الارتداء وكل مستقل بثوبه الشعري؟ربما لم نعد ننتظر جوابا والشاعر قد رحل..لكن مؤكد هو استطاع دخول قلب محبيه وانتزع الكنية بقوة . فهل تطابق هذا مع بقية الشعراء؟ربما سيكلفنا هذا دراية أخرى لكن دراستنا كانت مثال بسيط فقط للاستشهاد.
**********
حقيقة يمكننا بعد متابعة ما سلف أن نقول ليس التكني بهذا الكنية ميزة بل مسؤولية خاصة لو لم تملك الخواص والقواسم المشتركة بقوة.
ما عن قضية التشطير فنراها كذلك , عبارة عن مسؤولية , تضع القائم بها أمام امتحان غير سهل لإبراز عضلاته الشعرية :
نقدم نموذجا بسيطا منه:

أبيات للشاعر الكبير محمد ذيب سليمان من قصيدة أشواق الخريف:
مـاذا عسـاني في هـواك أقـول = من بعد عمـرٍ قـد كسـاه ذبـول
ولّى من القلب الشـباب ولم يعـد = يدنيه من سـحر الشـباب سـبيل
فكأنمـا لـم يحْـسُ يومـاً طلَّـه = وكأنمـا الأحـزان منـه تسـيل
وبدت به الأيـام أثقــالاً وقــد = أضحـت بأرجـاء الفـؤاد تجـول

التشطير وتشطير التشطير( القوس المزدوج للشاعرة زاهية بنت البحر والقوس غير المزدوج للأستاذ خشان):
ماذا عساني في هواك أقول =((ولسانُ حالي بالغرامِ ثقيلُ
يالهفَ شعري قد جفاهُ بوحُهُ))=والقول في هذا المقام جميلُ
ويحول دون الرد أني محرجٌ=((متوردُ الخدينِ منك خجولُ
كم كانَ حرفي بالمشاعرِ مزهرًا))=مــن قبلِ عـمـرٍ قــد كـسـاه ذبــول
ولّـى مـن القلـب الشبـاب ولـم يعـد=((لي فيهِ رجعٌ للصِّبا مأمولُ
والعشق فيه قد خبتْ دقاتُهُ))=(هيهات يأذن بالرجوع أفولُ
ضلت به سبل المشيب ولم يعد)=((يُخشى بحربٍ إنْ غزاهُ عزولُ
مستسلمٌ لخريفِ عمرٍ حيثُ لا))=يدنيـه مـن سـحـر الشـبـاب سبـيـل
فكـأنـمـا لـــم يـحْــسُ يـومــاً طـلَّــه=((بشراهةٍ في رشفهِ التحليلُ
مستبسلا بهيامِهِ لايرعوي)=(فطبت به نحو الحسان خيول
واليوم لا طلٌّ ولا خيلٌ له) =((مهزوم نفسٍ والفؤادُ عليلُ
والدمعُ بالأنَّاتِ فجَّرَ نبعَهُ)=فكـأنـمـا الأحـــزان مـنــه تـسـيــل
وبـــدت بـــه الأيـــام أثـقــالاً وما =((تُلقي عليه بالعذابِ كفيلُ
حملٌ لكهلٍ إن يكن يُرمى بما))=( يأتي به الحدثان فهو ثقيل
ويحي وقد سلّا علي خناجرا)=((مسنونةَ الأنصالِ حيثُ تصولُ
كالسيفِ تطعنني بألفي طعنةٍ))=أضـحـت بـأرجـاء الـفـؤاد تـجــول
*************
سنجدها تجربة ممتعة ورائعة وتفتح آفاق الاجتهاد بقوة ولكن السؤال هنا هل هذا يفتح للشعراء بابا في هذا السبيل يسمح لهم الكتابة هكذا تشطيرا ولإخراج قصيدة جديدة ؟
يقول هنا في هذا المجال الأديب الكبير عدنان كنفاني وهو قاص وروائي قبل أن يكون شاعرا ما معناه:
لا أشير بذلك أبدا ولا أنصح به الشعراء,فالأصل يبقى أصلا والفرع يبقى فرعا...
وقد تابعت قصيدة في هذا الصدد أرجعها القراء لأصلها عند قراءتها يجعلنا نؤيد فكرة الأديب كنفاني.ولنا في عالم القصائد الملحنة مثال عبر تجربة الغناء المقلد ,رغم ضيق المجال المستشهد به مقارنة بتجربة الشعر.
ومن هنا نقول استنتاجا : تبقى تجربة عروضية جديرة بالخوض دون أن نفتح باب الاجتهاد على مصراعيه .
من هنا نقول أن التجارب المنفردة والتي تعبر عن خصوصية الشاعر وتفرده هي الأبقى دوما وليس بالضرورة أن يحصل من حاول بتلك الطرق انتزاع ما يبحث عنه , ولنا في شعراء موقعنا فرسان الثقافة المثل والقدوة.
ريمه الخاني 2-3-2012



[1] تجده في:
مجلة العربي العدد 639 في بحث: بين قيد النظم وحرية اللغة والتجديد