رؤية نقدية لرواية القادمون من الآفاق/للأديب الكبير نزار أباظة
أديب كبير يعمل بصمت وبعيدا عن الأضواء يحمل مخزوننا ثرا من الثقافة العربية العميقة ذات الأصول الملتزمة والخلفية اللغوية الأكاديمية الداعمة.
وبعد:
نادرا لما تجذبني رواية ما, ولايهم أكان هذا لكاتب كبير أم حديث عهد , المهم ماذا يريد الراوي أن يقول؟ وبأي طريقة يدخل عقولنا؟وكيف كانت عملية دخول عقله .
فكثيرة هي المرات التي ماأكملت قراءة رواية ما,ذلك بسبب تجاوزها المنطق السليم أو إسهاب بلا داع ٍ ولا سبب سوى الإطاله والسباحة في خيال المؤلف وخصوصياته الفكرية والعاطفية ,التي لاتهم أحد أحيانا,
و ربما تدخل المؤلف بأحداثها لحد لم يعد فيه مقنعا أبدا...
لكن في رواية القادمون من الآفاق , كان فكر المؤلف الكبير معروضا كالكف المفتوح ,يقدم بضاعته بكل أريحية وبساطة وصدق وعفوية..وفي كل مشهد تتابعه , لكنه لم يكن فظا و لا مباشرا جدا فيها, غنما ترك أبطاله تتفوه بما يعرف بطريقة سلسة مرنة.
وبأسلوب مشوق وبطريقة منطقية وواقعية قريبة من الفكر العربي والغربي على السواء وتلك ميزة لا تمتلكها ناصية معظم الروايات الشرقية للأسف.
لقد قدم لنا بمجهره المكبر فسيسفساء عالمنا العربي ومرحلتنا الراهنة التي وصلنا إليها من قريب وبعد اجتياح العراق بمراحل, ينطلق منها لوجهة نظر خاصة به وبمن حوله بموضوعية ومحبة واضحة للقارئ,
ويحاول بطريقة ما أن يضع مسارا للخلاص من مشاكله التي يغص بها ويتألم.
لقد قرأتها بكل حماس وتفاعل وشاهية كما ترد تلك الكلمة في الرواية ,وبكل متابعة حثيثة لأرى إلى أين يمسك بنا ويتجول فينا في أفكار الأبطال؟ وإلى أي عمق وصل؟...
قد لايكون محقا في بعض وجهات نظر..لكنه كان على جانب كبير من الحقيقة المرة , كبرها لدرجة الوجع يقلبها أمامنا ويقلبنا معها,وربما قلنا بعد ذلك هل يرجع نهر للوراء؟ فلننطق من المرحلة التي وصلنا إليها للخلاص.
لقد قدم بكل مهارة وبراعة أفكاره الهامة , مؤكد لم تكن رواية كتبت بين عشية وضحاها ذلك لأنك ترى الكم الحاشد من المعلومات التاريخية , أو الإسقاطات على خصوصيات النماذج العربية والعالمية , التي عكست بيئتها بكل صدق
وتجرد لتكاد تصدق أن ما تراه وتسمعه وتقراه شخصيات من لحم ودم , فمن يدري , فرغم محاولة اكلاتب التمويه من خلال النافذة التي فتحها لنفسه مع شخصية نبيل, إلا أنه وبرغم المساحيق الخفيفة التي وضعها على وجه كل شخصية ,
تجدها واضحة المعالم تحبها رغما عنك لأنها كانت صادقة وهذا وحده كان خيطا هاما ربط جميع الشخصيات برباط متين , أنت تشفق عليها رغم زلاتها وعثراتها..هي بشر..هي نماذج إنسانية برتها الأيام وشكلتها بكل مافيها من سيئات وإيجابيات:
************
فالبطل نبيل يسافر لمعرض الكتاب في فرانكفورت في ألمانيا لمهمة من خلال عمله , ويظهر مافيها من حسنات ترجح عن السيئات برؤيته الخاصة, ويقدم بكل صدق تفرق أهوائنا كعرب ومساراتنا التي اتفقت على ان تختلف ,
تفرق حالنا في كل مجال, ورغم هذا نجد حبلا رقيقا يمسك بكل الشخصيات اسمه العروبة والإسلام...
نجد هذا الخيط غضا طريا على لسان البطل نبيل الذي يقدم لنا الشخصيات العربية المشاركة والتي أتت من مختلف البلاد العربية ويظهر مدى اخضرار قلب مفعم بالمحبة ينظر نظرة المتفرج دون ان يكون مباشرا في آرائه:
جوان العراقية الكردية المتحررة بجدية المرأة القوية الشكيمة.
أشرف وفؤاد المصريان ومطبات جرت لهما..
علوي المغربي والذي أطلق عليه المغولي وكررها في الرواية كثيرا رغم أننا حاليا وبعد فوات الوقت تأكدنا من أن الأمازيع قوم عربيوا الدم والأنساب( أثبتها الباحث السوري الدكتوربهجت قبيسي).
نور الهدى السوداني والشيوعي القديم والذي يقلب الغين قافا والقاف غينا..
حسين السعودي الملتزم المتذمر من كل شيئ...
تعد تلك الشخصيات محورية نوعا ما مقارنة بالبقية التي تمر بالرواية , وقد كانت عبارة عن رحلة سياحية ثقافية بمجملها , يستغل المؤلف تلك المناسبة ليقدم فكره على طبق من ذهب...فكريهمنا جميعا يضع قضايانا على محك النقاش ليخرج نواة حل هامة وموضوعية ترتبط بعقيدتنا جميعا..
وتبقى طريقة التقديم هي الأهم هل نجحت في عبور فكر المتلقي أم لا..وهذا مرتبط ببقية العناصر:
اللغة:
كانت اللغة قوية هادرة بألفاظها المعجمية الجزلة,والتي ساعدت على رفع مستوى الرواية الأدبي واللغوي ويدعمها, دون غموض ولا صعوبة رغم مصاحبتها للألفاظ العامية التي يستخدمها الأبطال:
مثال:
مدأب كهربائي:مثقاب ومحفار
وهذه تعد مثلبة وأمر هام يضع نقطة مضيئة في لغتنا العربية والتي لم يعد أدبائنا مهتمين بجديد المصطلحات والتي نحتاج لتعريبها كل يوم.
وإن تمازج لغة الحوار حسب اللهجة لكل بلد, أحيانا قد نراها متنافرة مع نسيج الروايات عموما لكننا وجدناها متناغمة معها بشكل لافت وناجح جدا ,لنها قدمت الصورة الحالية التي نعيشها بدقة متناهية,
جعلتنا نرى الوطن العربي كله أمامنا بطريقة واقعية جدا ,وكأنه لحم ودم يتحرك أمامنا و بلغته ولهجته الحقيقية,وحتى لهجة ماريا الدليل السياحي ذات اللهجة العربية السيئة كانت تظهر حميمية الموقف والرحلة.
بكل الأحول فإن تفرق اللهجات رغم أنه كان في الأصل نسيج واحد فرقته السياسة والمحدثات بشكل مفزع وقبيح, إلا أنه أظهر مدى تلاحم الأصول ومحبتها الغامرة داخليا بطريقة لافتة فعلا.
كان المؤلف حاضرا بقوة وبذات الوقت لم نشعر بأنه يفرض علينا فكره بديكتاتورية خاصة أنه استعرض الرأي والرأي الآخر, وهذا قلما تجده بموضوعية في الروايات الشرقية عامة.
هل يحق لنا السؤال عن مدى جواز الحوار العامي الذي فرضته الرواية بطريقة مقنعة. وهل هذا يفتح الباب للمنتصرين للغة العربية أن يقبلوا بذلك رغم أنه يقدم واقعا موجودا وليس مصطعنا؟
بكل الاحوال المؤلف استعرض الواقع العربي وكأنه كرة طيعة يقلبها إعلاميا وسياسيا واقتصاديا ثقافيا واجتماعيا , وهذا مايهمنا كقراء ,و ألزم نفسه عدم التعرض للنقد الحاد وترك الأمور كعرض فقط .
رواية من الحجم المتوسط ذات 237 صفحة كان الملخص في آخرها يقول مامعناه:
شاب في الثلاثين يصطدم مع أفكار أشخاص كانوا معه في رحلته, وانقسموا لقسمين ملتزم متفلت وكان سؤاله الكبير عبرها:
لماذا تأخر المسلمون وتقدم الغربيون؟
شكرا لك أديبنا العزيز , لأنك احترمت عقولنا , وشكرا لأنك عربي حقيقي.
إننا فعلا بحاجة لروايات كتلك.
ريمه الخاني 23-2-2012

http://bks5.books.google.com/books?id=qdKCQgAACAAJ&printsec=frontcover&img=1&zo om=1