يقول مثل شهير: سكت دهرا ونطق "كفرا"..

وأنا أستخدم هذا المثل للتعبير المجازي، وليس لاتهام أحد بالكفر، فهذا الحكم ليس من اختصاص البشر.. إنها فقط ضرورات التعبير واستخدامات اللغة، فلسنا نتحدث إلا في السياسة، وفي السياسة كلنا إخوة ومواطنون مهما اختلفنا وتعارضت وجهات نظرنا..

25 أكاديميا، منهم 5 سبقت أسماؤهم ألقاب "الأستاذ الدكتور"، والـ 20 الباقون سبقتها ألقاب "الدكتور"، يؤصلون إلى ثقافة العصبية بكل تداعياتها العشائرية والقبلية، بأكاديميتهم التي يفترض أن تكون المدخل إلى ثقافة الفكرة ومتطلباتها، وليس إلى ثقافة العصبية وتداعياتها، في رسالة رفعوها إلى الملك..

ومع اعتزازنا بالمطالب الإصلاحية الخجولة والمتدثرة بدبلوماسية ورزانة الأكاديمي عندما ينتقد، والتي وردت في الرسالة التي رفعها هؤلاء إلى الملك، إلا أننا لا نملك إلا أن نُبدي استغرابَنا الشديد من البند الغريب الذي ختم به هؤلاء الأكاديميون رسالتهم..

فقد جاء في البند السابع والأخير ما يلي:

سابعا: إننا بحاجة كأردنيين إلى ميثاق تطرحه العشائر الأردنية ينبثق عنه مؤتمر وطني نلتزم به في بناء الدولة الأردنية الحديثة..
وفي الوقت الذي نعترف فيه بوجود مكونات أُخرى للمجتمع، لكننا نعتبر هذه المكونات لها تطلعاتها وبرامجها ومن يمثلها ويطرح باسمها..
ونود أن نُذكّر بأن مستقبل القضية الفلسطينية لا زال غير واضح، حل الدولتين أصبح أكثر بعدا، ما يستدعي مواجهة صلبة لمشروعات التوطين وتعزيزا أقوى للوحدة الوطنية لإحباط هذه المشاريع التي تستهدف الشعبين الأردني والفلسطيني معاً.

وما يهمنا في هذه الخاتمة الغريبة المريبة هو فقرتيها الأوليين، متجاوزين ما ورد في فقرتها الأخيرة من إعادة اجترار لفكرة التوطين بالشكل الممل الذي لم تعد له أيُّ قيمة في ظل التحليل الدقيق للتاريخ المشبوه لهذه الفكرة الأسطورة، منذ زرعها "عدنان أبو عودة" في عقول الأردنيين عام 1970..

فهؤلاء الأكاديميون الذين خبروا الحياة والعلم والعلماء والفكر والمفكرين والمعرفة والفلسفة، وعرفوا قوانين علم الاجتماع، وقواعد حركة التاريخ – أو هكذا نفترض بموجب أكاديميتهم – يدعون وبمنتهى الصراحة والوضوح إلى إعادة إنتاج الأردن من منطلق عشائري وبإرادة العشائر وبرؤيتها لما يجب أن تكون عليه الدولة ومستقبلها..

لا بل إنهم يجعلون حاجة الأردنيين كافة، هي مبرر دعوتهم إلى مؤتمر وطني عشائري يتم الالتزام بمخرجاته في بناء الدولة الأردنية الحديثة..

(عشائرية وقبلية وحداثة!!!!!!!!!! في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، معادلة غير مفهومة على الإطلاق)..

أي أنهم اختزلوا الوطن والدولة والاقتصاد وأزمة الهوية وشكل النظام المدني.. و.. و.. في رؤية عشائر الأردن لما يجب أن يكون عليه المستقبل..

ويتعطف هؤلاء بالاعتراف بطريقة توحي بالانتقاص والتقاليَّة، بوجود مكونات أخرى للمجتمع، لكنه وجود لا يشير من خلال أسلوب الاعتراف به المفعم بروح الاهانة والتتعالي، إلى أن له قدرة أو حق التأثير على كون المستقبل هو ما سيقرره ذلك المؤتمر الوطني العشائري وحده!!!!!

فالمؤتمر العشائري الذي تتم الدعوة إليه هو الذي سيحدد ما يجب على الأردنيين أن يلتزموا به، رغم الاعتراف بهذه المكونات الأخرى وبرامجها ورؤيتها، مادام هذا الاعتراف لم ينتج لدى هؤلاء الأكاديميين الداعين إلى المؤتمر ما يبرر إشراك هذه المكونات الأخرى في تحديد مستقبل الوطن جنبا إلى جنب مع العشائر التي ستعقد المؤتمر!!!!

لن أعلق على غرابة أن يصدر كلام مُفعم بالعصبية والعشائرية وتقسيم المجتمع وإقصاء الآخر المعترف به من أفواهٍ أكاديمية محترمة، يعقد عليها الناس آمالهم في رسم مستقبل مشرق للوطن..

ولا على الاستعلاء الكامن في اختزال الأردن إلى رؤية عشائرية في مؤتمر عشائري يحدد مستقبل الوطن ويتم الالتزام به من قبل جميع الأردنيين في عملية ضرب لكل الرؤى الأخرى بعرض الحائط..

ولا على الأسلوب المَعيب عند التحدث عن المكونات الأخرى للمجتمع بشكل يوحي بأنه موجودة وفقط، وكأن وجودَها هذا ليست له أيُّ قيمة في تحديد مستقبل الوطن، أي أنها مكونات أخرى ليست إلا صفرا على الشمال..

ولن أعلق أيضا على توقيت هذه الدعوة المريبة لمؤتمر عشائري وطني يهدف إلى تحقيق تلك الغايات الاختزالية والإقصائية على أسس عصبية لا يمكنها أن تؤسس لدولة مدنية على الإطلاق، بقدر ما تمهد للصدام والاعتراك الداخلي..

ولكني سأكتفي بالتذكير بأن نوعا شبيها جدا بهذه الدعوة، انتشر على نطاقٍ واسع في الفترة التي سبقت أيلول من عام 1970..

ومن يعود إلى تلك الفترة سيكتشف أن مؤتمرات عشائرية مثل مؤتمر "سحاب" ومؤتمر "صويلح" وغيرها، كانت هي المعاول التي زرعت الأسافين بين مكونات الشعب الأردني ليظهر فيه من يدافع عن وظيفية التحالفات الطبقية الحاكمة وبرامجها المشبوهة، باسم العشيرة الأردنية التي بدل أن تكون سيفا للحق في وجه الباطل، استخدمت سيفا للباطل في وجه الحق..

كان الأجدى بتلك الثلة من الأكاديميين المحترمين أن تدعو إلى مؤتمر وطني تشارك فيه كل فئات وفعاليات وقوى الشعب الأردني، لوضع الخطط الجادة والسلمية والآمنة لإجبار النظام على تنفيبذ إرادة الشعب وتحقيق المطالب التي جاءت في البنود الستة الأولى من الرسالة، كي يتم ضمان التوافق الوطني والوحدة الوطنية الحقيقية، وتجنب الانزلاق إلى ما لا تحمد عقباه من توترات وانفجارات مجتمعية غير مأمونة النتائج، في مواجهة الاستعلاء الوظيفي والتغول الأمني..

ولكن على ما يبدو أن للوحدة الوطنية وللوطن وللمواطنة عند هؤلاء معانٍ ومفاهيم أخرى، تصب في خدمة أجندات تثير القلق، أعاذنا الله من شرها، وعافانا من مغبة انخداع الشعب الأردني بها وانزلاقه إليها..

كم نتمنى أن نكون مخطئين، وأن تكون صياغة تلك الرسالة على ذلك النحو في بندها السابع الأخير الذي أفقد بنودها الإيجابية الأولى قيمتَها الوطنية، مجرد كبوة حصان وهفوة عالم وزلة قلم من غيور حريص، خانه التعبير فقط، ليعود عنه ويعدله نحو الأصوب عندما يجد من ينبهه إلى زلته..