حول مفهوم العروض....هيثم الريماوي
الموضوع طويل جدا لذا سأحاول الاختصار قدر الإمكان مع تذييل المشاركة بأسماء بعض المراجع التي تم الاستناد إليها ، وذلك لأهمية الموضوع وحساسيته

1-
ظهور العروض لم يكن ابتكاراً بالمعنى الحرفي للكلمة ، فقد كانت أسسه معروفة ومفهومة عند العرب وإن لم يكن بالمنهجية التي جاء بها الخليل وهنالك أدلة كثيرة على ذلك نورد منها :
أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا : أنه شعر ؛ فقال الوليد بن المغيره منكرا عليهم : لقد عرضت ما يقرؤه محمد على قراء الشعر ، هزجه ورجزه وكذا وكذا ، فلم أره يشبه شيئا من ذلك ، أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف الشعر،

يقول ابو بكر محمد القضاعي (( تكاد تجزئة الخليل تكون مسموعة من العرب ، فإن أبا الحسن الأخفش روى عن الحسن بين يزيد أنه قال : سألت الخليل أحمد عن العروض ، فقلت له : هلا عرفت لها أصلا ، قال : نعم ، مررت بالمدينة حاجّاّ ، فبينما أنا في بعض طرقاتها، بصرت بشيخ على باب يعلم غلاما وهو يقول له : قل :
نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم نعم --- نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم لا لا
قال الخليل فدنوت منه فسلمت عليه، وقلت له : أيها الشيخ ، ما الذي تقوله لهذا الصبي ؟ فذكر أنه علم عندهم يتوارثه الصبية عن أسلافهم يسمى التنعيم لقولهم فيه نعم ، قال الخليل فحججت ، ثم رجعت إلى المدينة فأحكمتها

وهذا مهم جدا – في رأيي- لأنه يعني بالضرورة أن الخروج عن عروض الخليل في ذلك الوقت ، لم يكن مجرد تجريب ، وإنما تنويع إيقاعي يحكم موسيقى الشعر العربي بشكل عام ، ولم يكن محتكماً لمنهجية الخليل ،مع ضرورة التذكير أن نموذج التنعيم الموضوع هنا هو مجرد مثال من نماذج كثيرة كانت موجودة على التنعيم في تلك الفترة ربما جاء بعضها منسجماً تماماً مع عروض الخليل والكثير الآخر خارجاً عنه
2
تعريف العروض هو العلم الذي يعرف به صحيح وزن الشعر من انكساره، أي ما يعرض عليه الشعر لمعرفة صحيحه من تالفه ،،إذن هو أداة معيارية يُقاس بمقدارها مدى صحة الشعر من انكساره ،وهذا يقتضي أن الوصول للنتائج مرتبط بالمقدمات الموضوعية لا الإدارة الفردية ،أي إننا بهذا المفهوم أمام ما سمي بالصناعة وهو العلم الحاصل بالتمرين ، إن العروض قد فرض علاقة محددة بين الشعر والمنطق الرياضي،،،أي قياس الشعر بنموذج مثال والقول بأن ما ينسجم معه صحيح وما لا ينسجم معه غير صحيح ، وهذا أدّى إلى التغير الجذري في نظرة العربي للشعر وللإبداع عموماً بوصفه قابلاً للقولبة الصارمة المحددة الأمر الذي أدّى إلى إلغاء كل التنويعات الإيقاعية التي لاتتفق مع هذه االنماذج واعتبارها ضرباً من العبث ، أي انتقال مفهوم الشعر من كونه إبداعياً إلى صناعيً قابل لليقاس الدقيق
3
إن المنهجية المتبعة في علم العروض في الواقع كانت تعبيراً عن فكر الخليل بوصفه عالما في اللغة والرياضيات والموسيقى ، ولم تكن منهجية لواقع إيقاع الشعر العربي –ونرود هنا أدلة منطقية وأخرى تطبيقية

--كانت بداية وضع أسس عروض الخليل مبنية على أساس استقرائي أي بأخذ عينة تمثل الشعر العربي موضوع الدراسة وتناولها بالتحليل لاستخلاص نتائج تصف الشعر العربي ، ولكن العينة التي تم انتقاؤها لم تكن ممثلة للشعر العربي وإنما ممثلة للنموذج الذي تم بناؤه لاحقاً ، فلم يكن إهمال الكثير من النصوص الشعرية والتي سمّاها الخليل ب(المهملات) إلا لأنها بعيدة عن مثالية النماذج التي وضعها وليس لسبب آخر ، وبالتالي فإن النماذج أو ما سمي ببحور الشعر التي وضعها الخليل لم تستطع أن تصف بشكل أمين ديوان الشعر العربي وإنما وصفت وبشكل جزئي عيّنة محددة وغير ممثلة ، وهذا أدّى إلى إقصاء الكثير الكثير من النصوص ،من ديوان الشعر العربي إما باعتبارها خارجة عن الشعر أو بإقصائها كلياً من التدوين فلم تصلنا أبداً، وهنالك أمثلة كثيرة على ما اعتبر خارجا عن الشعر لأنه خارج عن عروض الخليل

هنالك ما خرج أن أوزان الخليل
مثل قصيدة عبيد بن الأبرص الشهيرة
اقفر من أهله ملحوب ...فالقطبيات فالذنوب

سلمى بن ربيعة (جاهلي )
من لذةٍ العيش والغنى - للدهر والدهر ذو فنون
العسر كاليسر والغنى - كالعدم والحي للمنون

يقول أبو العتاهية
الله أعلى بداً وأكبر – والحقّ فيما قضى وقدّر
وليس للمرء ما تنمى - وليس للمرء ما تخير

أم السليك (فاعلاتن فاعلن)
طـافَ يَـبْـغِـي نَـجْـــوَةً ***** مِـنْ هَـــــلاكٍ فـهَـلَــكْ

لَـيْـتَ شِـعـــرِي ضَـلَّــهً ***** أيُّ شـــــــيءٍ قَـتــلَــكْ

أمَـرِيــضٌ لـم تُـعَــــــدْ ***** أم عَــــــــدُوٌ خـَـتـَـلَـكْ

أم تـَــوَلّـى بــك مـــــا ***** غـالَ فـي الـدَّهـرِ السُّلَكْ

والـمـنـــايــا رَصـَــــــدٌ ***** للفَـتـَــى حَـيْـثُ سَـلَـكْ

سلم الخاسر
موسى المطر غيث بكر ثم انهمر كم اعتبر ثم فتر وكم قدر ثم غفر عدل السير باقي الأثر خير البشر فرع مضر بدر بدر لمن نظر هو الوزر لمن حضر والمفتخر لم غبر

هنالك نصوص خرجت عن وزن الخليل وعن تعمد القافية
مثل نص امرئ القيس ( مفاعلن فعولن)
ألا يا عين فابكي –على فقدي لملكي
وإتلاقي لمالي – بلا صرفٍ وجهد
تخطيت بلاداً – وضيعت قلاباً

هنالك نصوص خرجت عن الوزن بشكل كامل

أبو نواس
رأيت كل من كان أحمقاً معتوهاً
في ذا الزمان صار المقدم الوجيها
يارب نذلٍ وضيعٍ نوهته تنويها
هجوته لكيما أزيده تشويها

---تم استخراج النتائج بالاستدلال الاستنباطي ، أي الاستناد على المقدمات (وهي العينة التي تم انتقاؤها ) للوصول إلى نتائج نموذجية ، وقد تم تجيير الكثير من الحقائق لصالح الوصول لهذه النتائج النموذجية ، بدليل أن هذه النتائج (الخليلية) لم تستطع أن تصف كل الحالة الشعرية العربية، والجدير ذكره هنا أن الكثير من النصوص الشعرية قد تم إهمالها من التدوين –كما تشير الكثير من الدراسات- لأنها خارجة عن عروض الخليل ، أي القول أن النموذج يصنع الشعر ، وعدم القول أن الشعر يبتدع شكله

....العينة التي تم الاستناد عليها غير ممثلة كما وضح سابقاً أي أن المقدمات التي تم الاستناد عليها غير كاملة وهذا ما ادّى إلى ما يسمى في علم المنطق بأغلوطة التعميم ، وهو تعميم نتيجة ما دون مقدمات كافية لهذا التعميم ، بهذا يمكن القول أن عروض الخليل هو في الحقيقة نموذج رمزي لوصف عينة منتقاة من الشعر العربي وليس نموذج للكتابة عليه بدليل الخروج عن هذا النموذج قبل وأثناء وبعد ظهور هذا النموذج

.... تم دمج الوحدات الصوتية الصغرى (الأسباب والأوتداد) –إلى وحدات أكبر وهي التفعيلات ، وهذا أدّى إلى إهمال الكثير من التشكيلات الإيقاعية وتنويعاتها، بهدف اعتماد نموذج مثالي يعتمد على تشكيلات محددة
...لقد تم بناء هذه النماذج بشكلها النهائي (دوائر العروض ) على الاحتمال الرياضي الصرف والبعيد عن الواقع الشعري فنجد أن الكثير من النصوص الشعرية تخرج عن هذه النماذج من جهة ، ومن جهة أخرى – وهذه النقطة مثار الكثير من التساؤل – نجد أن بعض النماذج (البحور) الأصيلة في دوائر الخليل لم يكتب عليها أي نص منذ العصر الجاهلي وحتى القرن الهجري الثاني ، وإنما كتب عليها بشكل قليل جداً بعد ظهور العروض هي الهزج، المجتث ، المقتضب ، المتدارك ،كما يورد ابراهيم أنيس في كتابه موسيقى الشعر

....لقد تم إهمال الكثير من الأساسيات الإيقاعية بسبب الإعتماد على الساكن والمتحرك فقط ، مثلا : إهمال المد نقول في العروض ( لا) سبب خفيف تساوي (قلْ) مع أن الفرق بينها كبير بسبب إمكانية إطلاق المد في (لا)،، أو مثلا عدم الاهتمام بالصيغ النبرية كالاستفهام ، والاستنكار ، والسؤال ، وغيره و مدى تأثير ذلك على الصياغة الشعرية ،،،
هنالك الكثير ممن قالوا أن الخروج عن العروض لا يعني الخروج عن الشعر ، وإنما يعدّون العروض حالة إيقاعية معينة للشعر من حالات إيقاعية كثيرة جدا
أبو العتاهية ((أنا أكبر من العروض))
الجاحظ ((العروض هو أدب مستبرد ومذهب مرذول ))
الزمخشري ((والنظم على وزن مخترع خارج على أوزان الخليل ، لا يقدح في كونه شعرا، ولا يخرجه عن كونه شعراً))
ابن سنان الخفاجي ((والذوق مقدم على العروض. فكل ما صح فيه لم يلتفت إلى العروض في جوازه))
وهنالك الكثير من النقاد الحديثين الذين يحملون نفس النظرة نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أدونيس ، د.كمال أبو ديب ، د. سيد بحراوي ,,,وغيرهم الكثير

----التشكيلات الإيقاعية الكثيرة جداً والخارجة عن الأوزان المحددة منذ العصر الجاهلي وحتي يومنا خصوصاً في المرحلة الأندلسية حيث يرى الكثير من الباحثين في شعر هذه المرحلة تحديداً أن سبب هذا الخروج الكبير عن أوزان الخليل هو اختلاط العرب المباشر مع الأعاجم والاطلاع على ثقافتهم الموسيقية المتنوعة وأيضا الطبيعة الخلابة التي لم يعرفها العرب قبل ذلك ضمن بيئتهم المحلية وأهم الإيقاعات الجديد في المرحلة الأندلسية الموشحات والزجل ، وأيضا من هذه التنويعات الإيقاعية الأشكال الشعرية الحديثة المتعددة والتى حاول أصحابها الخروج عن الشكلية الخليلية بدرجات متفاوتة منها ما هو متواضع ، ومنها ما هو ثوري ، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ، جماعةالديوان ، حركة أبولو، المحاولات العديدة لشعراء المهجر وعلى رأسهم جبران خليل جبران، قصيدة التفعيلة وتجربة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ، قصيدة النثر ،و اسمحوا لي أن أذكر أيضا تجربتنا المتواضعة القصيدة التناغمية

أعتقد وبعد النقاط أعلاه أن الخطأ الأكبر يكمن في الفهم السلطوي للعروض ، واعتباره مثالا مقدساً لا يمكن الخروج عنه ، وبالتالي تحديد مفهوم الشعر ومسمى الشاعر عبر العروض ، أي اعتبار الشعر نموذجي الصنعة غير القابل للتطور، وليس إبداعاً لا يقبل نموذجية الإطار ، الأمر الذي تؤكده كل الدلائل الاستقرائية كما هو مشار سابقاً منذ الجاهلي وحتى يومنا هذا ، والحقيقة أن العروض هو وصف لجزء معين من التجربة الشعرية العربية وفي فترة معينة ،والقول بتعميم هذه التجربة وإطلاقها خارج حدود الزمان والمكان فيه تحديد لمفهوم الشعر ومفهوم الإبداع عموما ، لأنه يحصر المعاني عبر إطار شكلي قوامه تكرار معين ومحدد من الحركة والسكون ، و ذلك يؤدي إلى حصر الشعر في الغنائية الرتيبة دون درامية المعنى وهذا لا يحدد فقط مفهوم الشعر وإنما أيضا يحدد وظيفة هذا الشعر وأهدافه ، الأمر الذي يتنافى مع منطقية التطور الجدلي للشكل والمضمون والذي قال به الكثيرون وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني حين قال (( الشكل تابع للمعنى)) ،لأن الغنائية الرتيبة تتفق مع التوصويرات الواضحة ذات العلاقات الخطية الواصفة للواقع عبر التشبيهات اللغوية بأشكالها ولا تنسجم كثيرا مع التصوير الرؤيوي الذي يعمل على تأويل ما هو خلف الواقع

ومن جهة أخرى إن القول بإمكانية ومشروعية تطور الشعر شكلا ومضمونا خارج إطار العروض والتفعلية ، لا يقدح أبدا ، بمدى إبداعية الشعر الموزون ومدى إبداعية العروض الواصف لها ، لأن الدرسات السيكولوجية والإجتماعية تؤكد أن المفاهيم الإشكالية كالجمال والإبداع يمكن لها أن تتغير وتتطور عبر الزمان والمكان








------------------------------------------------------

بعض المراجع
1- الثابت والمتحول – أدونيس
2- الشعرية العربية – أدونيس
3- في البنية الإيقاعية للشعر العربي – د. كمال أبو ديب
4- العروض وإيقاع الشعر العربي – د.سيد البحراوي
5- الصوت القديم الجديد – د. عبد الله الغدامي
6- موسيقى الشعر – ابراهيم أنيس
7- سر الفصاحة – ابن سنان الخفاجي
8- الختام المفضوض عن خلاصة علم العروض- أبو بكر محمد القضاعي
9- الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه –مصطفى الشك