بين العروض والنقد - د. صلاح الدوش

أعجبني هذا الموضوع.
وأحد جوانبه يتعلق بما سمي ( قصيدة النثر) .
وقد لونت مما قرأته منه باللون الأحمر ما رأيت فيه أكثر من غيره مجالا للتأمل والتعليق.
أتمنى أن يكون ما ورد في هذا الموضوع منطلقا لحوارات مفيدة.

______________________

http://adabjournal.uofk.edu/Salah%20Al%20Doush.htm

الجزء - 1

بين العروض والنقد الأدبي الحديث
د/صلاح أحمد الدوش
كلية التربية - جامعة الخرطوم

مستخلص البحث :
حاول الباحث في هذه الدراسة أن يثبت أهمية العروض العربي كأساس نقدي ضمن أسس النقد الأدبي الحديث وذلك من خلال توضيح مفهوم الصورة الموسيقية التي يدخل ضمنها هذا البناء العروضي ، وبيان أهمية الوزن الشعري في هذه الصورة الموسيقية ،وأثره في تشكيل القيمة الدلالية للشعر .
وقد توصل الباحث إلى أن العروض العربي – كنظرية في مجال الشعر العربي – لم تجد الاٍهتمام الكافي في مجال الفكر النقدي الحديث. وقد حاول الباحث استقصاء الأسباب التي أدت إلى ذلك . ثم عرض لبعض السمات والملامح النقدية – من وجهة نظره - التي يلتقي فيها العروض بالنقد الأدبي الحديث ، مدعما آراءه ببعض التطبيقات النقدية .
المهاد النظري والدوافع للبحث :
منذ قبيل منتصف القرن العشرين أخذت تتبلور أفكار عن مفهوم الشعر، كأثر لاتصال الشعراء ونقدة الشعر بالآداب الغربية، ونتاجا لموجات التحرر الوطني التي شملت معظم الدول العربية، فكانت الدعوة للتغيير والتجديد سمة للعصر.وقد واجه الأدب هذا التيار التجديدي بظهور عدد من المدارس الأدبية كجماعة أبوللو، والرومانسيين، والمهجريين، والرمزيين. و كلها يجمع بينها الإحساس بأهمية الخروج عن الإطار التقليدي للقصيدة العربية، والبحث عن أداة للشعر تستطيع الكشف عن العالم الداخلي للشاعر والتعبير عن تجربته. وكانت موسيقى الشعر أولى تلك الأدوات الشعرية التي واجهت أعنف موجة من الاٍنتقاد بسبب اعتمادها على نظام العروض والقافية الذي رأوا فيه قيدا يجب الانفكاك منه..إلا أن هذه الموجة من التمرد على العروض والقافية لم تسفر عن خروج تام عن أصول هذين العلمين،إنما تم كسر نظام الشطرتين والقافية الموحدة وأصبح من الممكن الانفتاح على أكثر من بحر في القصيدة إذا دعت التجربة إلى ذلك ومثله يقال عن الانفتاح على جميع الزحافات التي يمكن أن تحتملها التفعيلة مما أقره علم العروض. وبفضل هذا التركيز على التفعيلة العروضية واتخاذها نواة لهذا الشكل الموسيقي الجديد للشعر العربي جاءت التسمية (شعر التفعيلة)، أو الشعر الحر[1].
(( كذلك نجد أن الدراسات التي حاولت البحث عن أصول إيقاعية جديدة لحركة الشعر الجديد لم تخرج عن نظام العروض والقافية))، بل نجدها تركز على إعادة قراءة العروض العربي لاستخلاص وظائف إيقاعية جديدة منه أو استخدام معطياته للبحث عن أسس جديدة لموسيقا الشعر العربي، تفيد من دراسات علم الأصوات وعلم الموسيقا ، وذلك ما تمثله دراسة د. محمد مندور"الشعر العربي غناؤه وإنشاده"، ودراسة د.إبراهيم أنيس في كتابيه:" موسيقا الشعر",و"الأصوات اللغوية"،ود. شكري عياد في كتابه " موسيقا الشعر العربي- مشروع دراسة علمية". ((ولعل أكبر تمرد على العروض يوحي بالانعتاق التام عنه قدمه كتاب د. كمال أبو ديب" في البنية الإيقاعية للشعر العربي _نحو بديل جذري لعروض الخليل ومقدمة في علم الإيقاع المقارن ". ولكن المتصفح لهذا الكتاب يجد اعتمادا كبيرا على أصول علم العروض في كل محاولات المؤلف تأسيس فكرته في هذا البديل ))
ومن كل ذلك تبين لنا أن الإبداع الشعري والدراسات التي قامت حوله قد وجدت أن الذائقة الموسيقية للشعر العربي قد ألزمت فاعلية الإبداع والنقد أن تتجذّر حول العناصر الموسيقية التراثية التي كشف عنها علما العروض والقافية متمثلة في التفعيلة العروضية وما يعتريها من زحافات وعلل، والقافية سواء أكانت مرسلة، أم متوالية،أم متواترة، أم متراوحة الخ[2]. ولكن على الرغم من ذلك لا نجد للدرس العروضي مكانة في المجال النقدي سواء على مستوى التحليل التطبيقي أو التصنيف العلمي؛حيث يصنف العروض ضمن التخصص النحوي و اللغوي وليس النقد الأدبي..كما كان العروض حفيا بأن يؤسس تيارا في تحليل البنية الصوتية الموسيقية للشعر العربي على غرار ما نجد لدى بعض اتجاهات المدارس النصية الحديثة؛ وذلك على طول عهد له بالشعر العربي وتمكن من بنيته الموسيقية.
كذلك إن الأثر الجليل الذي يمكن أن يرفد به العروض نظرية النقد الحديث لهو جدير بأن يماط عنه اللثام، طالما أن الشعر العربي ما زال في كل محاولاته التجديدية يمتاح من ذلك النبع العروضي الذي صاغه الخليل بن أحمد.

الصورة الموسيقية والعروض العربي :
أ- مفهوم الصورة الموسيقية:
الصورة الموسيقية مصطلح نقدي حفل به الدرس النقدي الحديث . وقد عرف أحد الباحثين[3] هذه الصورة الموسيقية بأنها :" البناء الموسيقي .... من الإيقاعات المعتمدة على النغمات ، والانسجام والتناظر ، التي تتجاوب مع النفوس ، متلقية ومنتجة ، وذلك من خلال عنصري التركيب والتكرار ." ويشير آخر بقوله[4]:" وتعمل هذه البنية الصوتية الموسيقية داخل الشعر وفق قوانين(التكرار والترديد)، و (التوزيع المكاني)، و(التساوي والنقص والزيادة). وهي قوانين صالحة لكل موسيقا سواء أكانت مجردة أم مرتبطة بلغة ما. .... ((حيث تخضع الظواهر الجمالية والفنية لقانون عام))". وعلى هذا يدخل ضمن الصورة الموسيقية بعض المؤثرات الصوتية الإيقاعية التي حفل بها الشعر العربي القديم مما ذكره علماء البلاغة؛ كالتجنيس والتصريع والتقسيم والتكرار والترديد ، والموازنة التي تقتضي أن تكون الألفاظ متعادلة الأوزان ، متوالية الأجزاء ، والترصيع وهو توخي تسجيع مقاطع الأجزاء وتصبيرها متقاسمة النظم متعادلة الوزن حتى يشبه ذلك الحلي في ترصيع جوهره كقول امرئ القيس :
الماء منهمر ، والشدّ منحدر والقصب مضطّمر، والمتن ملحوب
وكقول الخنساء :
حامي الحقيقة ، محمود الخليقة مه - ديّ الطريقة ، نفّاع وضرار
وإذا كانت بعض هذه الظواهر الإيقاعية التي ذكرها التبريزي [5] قليلة التردد في الشعر فضلا عن انحيازها للقصيدة التقليدية ، فان الصورة الموسيقية في النقد الحديث تشمل جميع ما ذكر عن المكونات اللغوية الصوتية والتي هي أدخل في مفهوم الإيقاع وكذلك العناصر الموسيقية التي يمثلها الوزن العروضي من مقاطع وتفاعيل، وما يلحقها من تغييرات أثناء عملية النظم ، ولا يستقيم الفصل بين هذه المكونات ؛ إذ لكل منها أثره في تشكيل التجربة الشعرية وصياغة دلالات النص . فيكون ((الإيقاع والوزن )) معا هما العنصران اللذان يشكلان موسيقي الشعر العربي كما ارتضتها الذائقة العربية حتى يومنا.
فأما الإيقاع في الشعر فاٍنه مازال مفهوما غريبا في حقل الدراسات النقدية، والاختلاف قائم بين الباحثين في تعريفه، فمنهم من جعله مفهوما عاما يشمل أغلب الحركات التأثيرية لغوية ودلالية وصوتية ، بالإضافة إلى الجانب النفسي والذهني، ومن ذلك ما يذكره أحد الباحثين في تعريفه حيث يقول [6] : "انه تأكيد قوي لمعنى الكلمات وضغط على الانفعال والأفكار بواسطتها فهو من ثم يعني حقيقة أغلب الحركات التأثيرية . ولهذا فهو يتكون مما نسميه بالإيقاع الداخلي المؤكد للحركة ومن النغم الخارجي ومن التتابع اللفظي". ويعرفه آخر بقوله [7]:"الإيقاع انتظام موسيقي جميل، ووحدة صوتية تؤلف نسيجا مبدعا يهبه الشاعر الفن، ليبعث فينا تجاوبا متماوجا هو صدى مباشرا لانفعال الشاعر بتجربته، في صيغة فذّة، تضعك أمام الإحساس في تشعب موجاته الصوتية في شعب النفس، وهو حركة شعرية تمتد بامتداد الخيال والعاطفة فتعلو وتنخفض، وتعنف وتلين، وتشتد وترق ... " . ونجد الدكتور محمد مندور أكثر تحديدا في تعريفه الإيقاع حيث يرى " أنه عبارة عن تكرار ظاهرة صوتية ما علي ((مسافات زمنية متساوية أو متجاوبة)) "[8]، وهذه الظاهرة الصوتية المتكررة علي مسافات زمنية محددة فإنها تشتمل على جرس الأصوات وخصائصها من الحدة loudness، ودرجة علو النغمة pitch، والمدى الزمني الذي يستغرقه نطق الصوت duration والمزاج أو الكيفية quality "[9]. ويضاف إليه ما يتبع ذلك من صفات كالجهر والهمس والتفخيم والترقيق، والشدة والرخاوة واللين، والإطباق والاستفال، والصفير، والتكرار، والتفشي والانفجار إلخ ويضاف كذلك تقنية تشكيلها النابع من صميم تجربة الشاعر وملكته في التوظيف و التعبير ، . فكل ذلك يشمله الإيقاع أو ما يطلق عليه الموسيقي الداخلية أو موسيقي التعبير في مقابل، الموسيقا الخارجية التي يقصد بها موسيقا الأوزان.
أما الوزن فتعريفه عند حازم القرطاجني[10] هو" ((أن تكون المقادير المقفاة تتساوى في أزمنة متساوية لاتفاقها في عدد الحركات والسكنات والترتيب)) ". وهذا التعريف للوزن الشعري يقربنا – بحسب ارتباطه بالزمن - من مفهوم الإيقاع والذي هو مرتبط بالزمن في الشعر وكذلك في الموسيقا النظرية حيث يقول عنها محمود الحفني بأنها[11]:" تتكون من عنصرين جوهريين: الصوت والزمن وهما اللحن و الإيقاع ". وخاصية الزمن في الوزن الشعري مع ارتباطها بالإيقاع تجعلنا نحكم بأن الوزن جزء لا يتجزأ من تجربة الشاعر الأمر الذي يمكننا كذلك من القول بأن الصورة الموسيقية هي نتاج التمازج والتفاعل التام بين الإيقاع والوزن وهذا ما أكده الجاحظ من قبل حين رأى أن الشعر العربي يمتاز بشيْ معجز فيه هو الوزن وتأسيسا علي هذه الأهمية للوزن يري أن الشعر لا يقبل الترجمة حيث يقول: [12] " فمتى حول تقطع نظمه ، وبطل وزنه ، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب " .. فالجاحظ هنا يضفي علي الوزن أهمية تجعل منه جزءا من تجربة الشاعر له أثره في الإعجاز الشعري و فيما يسقطه الشعر في النفس من تعجيب . فيغدو العروض بهذه الأوزان الشعرية عنصرا من عناصر تشكيل الصورة الموسيقية للشعر العربي.
ب-أثر العروض في تشكيل الصورة الموسيقية للشعر العربي :
ليس من شك أن للوزن الشعري أثر جد عظيم في تكوين الصورة الموسيقية للقصيدة سواء أكانت من القصائد التقليدية أم قصائد التفعيلة . ((فالإيقاع أو موسيقا الأصوات والتي تقوم بمعزل عن الوزن الشعري لا تكفي في هذا الجانب رغم أنها تشكل تلك الحركة الداخلية التي لها عظيم الأثر في إعطاء العمل الشعري جوا إيحائيا وحيويا عظيما يعكس القدرة في التعبير والتلقي للشحن الانفعالية في تناغم تام مع سائر مكونات التجربة الشعرية . إلا أننا يجب أن نقدر أن هذه الموسيقي الداخلية لا يمكن لها أن تلعب هذا الدور دون أن تلتحم بتأثير الوزن أو التفعيلات المتفرعة عنه والتي ترفع من وتيرة الإحساس بالانتظام والتجاوب النغمي ))، وهذا ما يكشف عنه بوضوح تلك النماذج الشعرية التي حاولت الخروج عن نظام الوزن أو التفعيلة فيما عرف بالشعر المنثور عند أصحاب المدرسة الرومانسية ."حيث لم تستطع أن تترك أثرا واضحا في شكل الصورة الموسيقية للتجربة الشعرية آنذاك [13]. وذلك لأن "الموسيقا في الشعر لديها قدرة في تجسيد الإحساس المستكن في طبيعة العمل الشعري نفسه مع قدرة الشاعر على ربط بنائه الفكري متلبسا ببنائه الموسيقي. الأمر الذي يولد بينهما ترنيمة متحدة ليست نتاج النغم الموسيقي وقدرته على التخدير الذي يجعلنا لا ننتبه إلى الفكرة بل لا بد من انتصابه على ماهية العمل الفني كله متوائما مع حركة الاتساق بين الموضع الشعري ونغمه الموسيقي". [14]
وقد ذهب بعض الباحثين[15] إلى إعطاء الوزن الشعري دورا محدودا في تكوين الصورة الموسيقية بقوله: " الوزن كتنسيق زماني يقف تأثيره عند مجرد الاستجابة الحسيه للمنبه الخارجي ، انه قد يثير موجة انفعال بسيط وأولي وسريع يرتبط بالمنبه الخارجي ، الذي هو هنا التركيبة الإيقاعية الشكلية ، وهذا تأثير يجب أن يكون ضعيف القيمة بصدد الحديث عن التجارب التي تهتم بالكليات بعيدة الأثر متعددة التراكيب ، الأمر الذي ينتج عنها أكثر من مجرد إثارة انفعالية سريعة " . ولكن الباحث نفسه يعود فيقرر بقوله [16] : "مما لاشك فيه أن للوزن رغم شكليته قيمة انفعالية هامة تتعلق بتخدير الحواس من الناحية الفسيولوجية ، كما أنه يرتبط بالأحاسيس الفطرية لدي الإنسان ، وما يتصل بها من تفريج بيولوجي ، مما يجعل الشعر التعويض الضروري والحيوي لتوترات انفعالية كثيرة " .
وإذا كان الوزن الشعري ينبع من تآلف الكلمات في علاقات صوتية لا تنفصل عن العلاقات الدلالية والنحوية فان القصيدة في هذه الحالة تستمد إيقاعها من مادتها أي من اللغة ومن موسيقي تشكيلية مجردة تعتمد علي التناسق الصوتي للكلمات في إطار الوزن الشعري بطريقة تمكن الكلمات من أن يؤثر بعضها في البعض الآخر علي اكبر نطاق ممكن ،ففي قراءة الكلام الموزون يزداد تحديد التوقع "[17] ولهذا نستطيع أن نذهب مع أحد النقاد المحدثين [18] لإضفاء أهمية عظمي للوزن الشعري حيث نري أنه يمثل " إحدى الوسائل المرهفة التي تمتلكها اللغة لاستخراج ما تعجز عنه دلالة الألفاظ في ذاتها عن استخراجه من النفس البشرية " . حيث يستقيم القول بأن الوزن الشعري تابع للتجربة الفنية التي يخضع لها الشاعر أثناء صياغته لشعره . بل "لا يبقي شي من شكل القصيدة ولابنيتها العروضية ولاعلاقاتها الإيقاعية ولا أسلوبها الخاص بها عندما تفصل عما تحتويه من معني ، فاللغة ليست لغة بل أصوات إلا إذا عبرت عن معنى . ((كذلك يعتبر المحتوي بدون الشكل استخلاصا لشيْ ليس له وجود ملموس لأننا لو عبرنا عنه بلغة مختلفة لأصبح شيئا مختلفا )). ولابد من أن تدرك القصيدة ككل حتى تتم عملية الإدراك ، ولاتناقض بين الشكل والمحتوي ، لأنه لاوجود لأي منهما بدون الآخر ، واستخلاص الواحد من الآخر قتل للاثنين .... فيمكننا القول إذن أن العلاقة المتبادلة بين الشكل والمضمون ، تبدو بشكل عام علاقة ثابتة في النقد الحديث " [19] .
بين العروض والفكر لنقدي الحديث :
إن التاريخ الأدبي يشير بوضوح إلى أن العروض العربي نشأ متأثرا بعلم الموسيقا؛ فالجاحظ يقول[20] : "وكتاب العروض من كتاب الموسيقا". ويذكر ياقوت الحموي عن الخليل أن:" معرفته بالموسيقا أحدثت له علم العروض"[21]. وكان الذوق العربي معيارا لدى الخليل أعمله في تأسيس نظريته في العروض العربي وفق منهجه الاستقرائي لهذا الشعر. ولذلك " فمن طبيعة الدرس العروضي أن يكون باحثا عن الموسقة وبأي شكل تستسيغها الأذن ويتقبلها الذوق الإيقاعي، وهذا ما حدث للدراسات العروضية في بداياتها عند الخليل، والأخفش الأوسط، وحماد الجوهري،والكسائي، وغيرهم، فكانت دراساتهم بحق تثري الدرس العروضي، وتتعمق في مواطنه وأغواره، فجاءت تأسيسا فإضافة فاستدراكا"[22]. " فعمل الخليل وصفي كلي متكامل في حدود الشعر الذي وصلت إليه يده، يحاول أن يحيط بالطاقة الشعرية العربية المتفجرة في الإيقاع وتحليل مكونات هذا الإيقاع بأسلوب تطبيقي".[23] وفق أصول الذوق العربي، ولم تكن جملة قواعد تفرض على الشعر ما ليس منه كما يذهب بعض ذوي النظرة العجلي، والأحكام المسبقة،وهي نظرة" قد ظلمت الدرس العروضي بالتوقيف حينا،أو طرحه جانبا حينا آخر، مع أن الدرس العروضي كانت سمته الاستقراء ثم الاستنتاج فالقاعدة؛ فهو في بدايته كان يبحث عن شخصيته بملاحقة النص الشعري كله، غير أنه حينما استقرّ ظلت الدراسات اللاحقة تدور في فلكه، ولم تحاول أن تصنع ما صنع هو في بدايته. فجاء نقاد محدثون اطرحوا الدرس العروضي جانبا، وأخذوا يبحثون عن بوادر لرؤى في أذهانهم، فكان ذلك والدراسة العروضية على طرفي نقيض"[24] .
ولم يكن حال نقدنا الحديث بأحسن من سابقه حيث ضعف هذا الأساس النقدي العام لدي دعاة الحداثة – في زماننا – وغيرهم ممن يرفضون كل قديم وعلي رأس ذلك الأوزان العروضية.
وإذا كان علم العروض لم يجد حظا من الاهتمام لدي النقاد لا في القديم ولا في الحديث فكان لابد أن نبحث عن العوامل والأسباب التي أدت إلى هذا الواقع . وهي تتجلى – حسب تقديري – فيما يلي :-
1/ إذا كان الفكر النقدي الحديث - في بعض جوانبه - حصيلة تراكم وتواصل للجهود النقدية في الأدب ، فاٍن تاريخ النقد لم يكشف لنا حتى الآن عن اتجاه نقدي تحليلي يستكشف الطاقة الإيقاعية في الشعر العربي من خلال النظر العروضي. ولا يستبعد الباحث وجود هذا الاتجاه لدى علمائنا القدامى؛ فقد سبقت الإشارة إلى طبيعة المنهج العروضي لدى الخليل ومعاصريه وما كان لهم فيه من نظر في محاولة الإحاطة بالإيقاع الشعري وتحليل مكوناته بأسلوب تطبيقي[25]. ونضيف إلى ذلك تلك الإشارات العديدة لمؤلفات مفقودة يشير لنا التأريخ الأدبي أنها انتهجت نهجا متفردا في النظر العروضي؛ فهذا ابن رشيق يقول [26]: " وللناس في ذلك – أي العروض- كتب مشهورة وتواليف مفردة، وبينهم فيه اختلاف". كما أن لابن طباطبا العلوي كتابا في العروض يذكر ياقوت أنه : " لم يسبق إلى مثله" [27]. وجاء في (المطرب)، لابن دحية[28] في معرض ذكره ابن شرف القيرواني أنه :" ألف كتابا في العروض كشف فيه عن دقائق لم يسبق إليها العروضيون". ويذكر أبو الحسن بن بسام[29] : " أن للشاعر بن الحداد القيسي كتابا في العروض مشهور معروف مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية والآراء الخليلية". كما نستطيع أن نضيف تلك النظرات الفلسفية في تحليل الشعر وموسيقاه التي وجدناها عند بعض الفلاسفة المسلمين من أمثال الفارابي وابن سينا والتي أفاد منها حازم القرطاجني ، وابن القطاع في دراساتهما للعروض فتقدما خطوات علي ما وجدوه في الإرث العروضي وذلك عندما درس أولهما – أي حازم – العروض علي أساس من علم البلاغة الكلي ، أي فلسفة البلاغة التي تقوم علي اعتبارات المنطق من جهة والتخييل والإيحاء من جهة أخرى . و درسه ابن القطاع من خلال الربط بينه وبين علم الموسيقي ، ولكن هذه النظرات المتفردة بقيت حبيسة إلى عهدنا هذا ولم تطور لتفيد في التبصير بحقيقة الإيقاع الشعري ، وتنقل العروض من علم معياري يعني بالصواب والخطأ إلى علم وصفي (يسجل الظواهر العامة ، والاختلافات الجزئية من الناحية الوزنية في كل شعر تلقته الأمة العربية بنوع من القبول ، وبذلك يستحيل أداة فعالة من أدوات الدراسة الأدبية ، وثيقة الصلة بأصول النقد من ناحية ، وبتاريخ الأدب من ناحية أخرى . فيعين علي بيان التطور الفني في الشعر العربي علي مدي العصور ، كما يعين علي بيان الخصائص المميزة (للأعمال) وللاتجاهات أو المدارس أو لأفراد الشعراء " [30].
ومن هنا يتبين لنا أن هناك اتجاهين في معالجة المادة العروضية؛ أحدهما تحليلي، وهو ما أشرنا إليه الآن ، والآخر نقلي وهو الذي تمثله معظم الكتب العروضية التي بين أيدينا حيث التزم فيه النقل والتوثيق عن الخليل ومعاصريه وهي السمة التي تميزه أكثر من غيرها. وبسبب من ذلك نجد أن ما بين أيدينا من مادة عروضية قد اصطبغت بالتجريد وانتهت إلى غاية معيارية تعليمية تند عن الناحية الوصفية للإيقاع الشعري، يقول كمال أبوديب:" جمد العروضيون حيوية علم الخليل في قوالب ميتة، معقدة تحولت عن غرضها الأساسي – وصف الإيقاع الشعري- إلى التقنين لما يسمح به ومالا يسمح به من تشكلات إيقاعية". [31].
2/ و نجد أن تاريخ النقد لم يسعفنا – إلا قليلا [32]- بنظرات نقدية تحليلية ضمن نظرية عمود الشعر تدفع إلى الاهتمام بالوزن كعنصر ذي قيمة تعبيرية في الشعر ، وأن ما يعتريه من زحافات لا تبعد عن كونها تغييرات إيقاعية ذات أبعاد دلالية إيحائية هي صدى لواقع التجربة الشعرية . ويمكن أن نلتمس لذلك أسبابا فيما ذهب إليه الدكتور جابر عصفور [33] بقوله : " الدلالات العربية القديمة لكلمة الخيال لا تشير إلى القدرة علي تلقي صور المحسوسات وإعادة تشكيلها بعد غيابها عن الحس ، إنما تشير إلى الشكل والهيئة والظل كما تشير إلى الطيف أو الصورة التي تتمثل لنا في النوم أو أحلام اليقظة أو في لحظات التأمل عندما نفكر في شي أو شخص". فكان الوزن الشعري –بهذا المفهوم- خارج نطاق الخيال التجريدي في بعض هذا الفكر النقدي القديم .
وكان يمكن للتصورات النقدية القائمة علي أساس فلسفي أن تخدم هذه الغاية ، وذلك عندما جعلوا المحاكاة أو التخييل – وضمنه تخييل الأوزان عنصرا أساسا في تشكيل مفهوم الشعر، نلحظ ذلك عند كل من ابن سينا [34] الذي جعل " المحاكاة – أو التخييل – هي العنصر الذي يميز الشعر عن النثر " . وتأثر حازم القرطاجني [35] بهذه الآراء عند ابن سينا فوجدناه يقول : " الشعر كلام مخيل موزون مختص في كلام العرب بزيادة التقفية " فيجعل تخييل الأوزان من جملة التخيل الشعري بل يعقد لتخييل الوزن فصلا كاملا في كتابه ويقيم علي ضوء من ذلك مفاهيم نقدية سبق بها معاصريه . بل يقترب بها إلى ما انتهت إليه الدراسات النقدية المعاصرة التي تنظر إلى الشعر كتجربة فنية مبعثها الخيال. فالوزن وان كان يتحدد مع أول دفقة شعرية بهيئته المعروفة ، إلا أنه يمتزج بتلك الدفقات ويلتحم بها التحاما لاينفصل عن اللغة في لفظها ومعناها فتأتيه الدفقه " ككل بلفظها ومعناها وتأتيه منظومة غالبا " [36] وكان يمكن لهذا السفر العظيم للقرطاجني أن يؤثر في تطور المفاهيم النقدية للعروض العربي لولا ما ألم به من غوائل الدهر فظل رهين الإغفال حتى عصرنا الحاضر .
3/ أما في عصرنا الحديث فنستطيع أن نقول:- إن القصيدة الحديثة " اتجهت إلى نقل الواقع من حالة المعرفة الوصفية التي كانت مدار الشعر القديم ، إلى المذهل غير المألوف،علي المستوي الزماني والمكاني والموضوعي والنفسي " [37] . وكان لهذا الخروج عن المألوف أثر في تشعب النظر النقدي إلى مفاهيم متباينة ومتناقضة أحيانا ، إلا أن جميعها تلتقي عند إطار عام وهو ضرورة تجاوز المفاهيم النقدية القديمة أو علي الأقل تحديثها لتواكب متغيرات العصر الحديث وتدفع بالقصيدة إلى تمثلها .
ولما كانت هذه الصورة الموسيقية من أهم واجهات القصيدة الحديثة التي تكشف عن مضامينها وأبعادها ، فقد وجدت اهتماما متزايدا من النقد الحديث ، كما وجدت إقرارا منه كذلك بضرورة تجاوز مفهومها القديم الماثل في البناء العروضي ،والذي أصبح في تقديرهم شكلا خارجيا لا يتفاعل ولا يلتحم بمضمون التجربة الشعرية ، فيحقق بها ومعها المنجز الدلالي الكلي . فبقي العروض لهذا السبب خارج الإطار التنظيري في مناهج النقد الأدبي الحديث. وان كان ثمة نظرات نقدية قد بثت هنا وهناك فهي أشتات متناثرات ، أملتها ثقافة الناقد الحديث أو ميوله الذاتي . فقد تفجرت ثورة عنيفة ضد نظام القصيدة القديم أهم ما جاء فيها :
- "إن وحدة القصيدة ينبغي أن تكون التفعيلة لا البيت .
- نظام البيت القديم من شأنه أن يحدث رتابة مملة وأن يخرج بالشاعر عن حدود تجربته الشعرية المركزة ومافيها من انفعال ، إذ يجد نفسه مضطرا أن يصوغ فكرته في ألفاظ أكثر مما تحتاجه، ألفاظ لا تزال تتعلق بها زوائد حتى يصل إلى نهاية البيت وهي زوائد تحدث فيه ترهلا . تضعف الحركة الوجدانية وتجعل عين الشاعر مصوبة لا إلى نفسه وانما إلى لفظه وما يتصل به من قافية .
- وان التجربة الشعرية الصحيحة لاتتم إلا إذا شحن الكلام شحنا قويا وانساب بعضه في بعض انسيابا مترابطا وهذا لا يمكن تحقيقه في ظل نظام البيت ذي الشطر تين ، ويمكن أن يتحقق إذا اعتبرت التفعيلة أساس البيت وأصبحت القافية عنصرا عفويا" [38]. وهذه الدعوى – على ما يسم بعضها من حق- كانت بداية لهجوم عنيف علي البناء العروضي برمته إذ انتهت بهؤلاء إلى قولهم : "حطموا القوالب القديمة الرتيبة حتى تتلاحم الوحدة الموسيقية في القصيدة مع انفعالات الشاعر وحتى تتنوع بتنوع مشاعره وأحاسيسه ، فالقصيدة لا تنظم لقوافيها وإنما تنظم لذاتها ، لما تعبر عنه من وجدان مضطرب ، لا يستقر علي حال ، وأولي للقصيدة أن تصور هذا الاضطراب فتتغير وحداتها الموسيقية بتغير خوالج النفس حتى تكون حية نابضة ، إنها لابد أن تتأرجح" [39].
وعلي أية حال فان الانطباع الذي نجده يسود بين هؤلاء النقاد ، فيطالع قارئه أول ما يطالعه هو : " أن العروض التقليدي كما وصفه الخليل كان العقبة الأساسية في سبيل تطور الشعر العربي . وما أن أزيح هذا الحاجز بمجيْْ التفعيلة حتى فتحت أمام هذا الشعر أبواب الحداثة علي مصراعيها "[40].
4- وليس من شك في أن غياب الدراسات النقدية التي تعتمد التحليل العروضي للشعر العربي، لإبراز مكنوزه الإيقاعي، كان بسبب من عدم وجود دراسات مفصلة حول إيقاع الشعر العربي نفسه وقد أشار عدد من الباحثين إلى عدم اهتمام النقاد المحدثين بل وعلماء العروض القدامى بمثل هذا النوع من الدراسة؛ يقول الدكتور إبراهيم أنيس [41]" أما هذا الإيقاع فلم يدرس حتى الآن دراسة كافية ،ولم يشر إليه أهل العروض " ويري الدكتور شكري عباد[42] أن" الإيقاع مازال مفهوما غريبا حتى الآن في دراسة العروض ". أما الدكتور كمال أبو ديب فينتهي إلى" عدم وجود دراسات وصفية تحليلية في العروض العربي لدي القدماء نستعين بعلم الموسيقي وعلم الأصوات [43] ونجد الدكتور سيد البحراوي في دراسته لموسيقي الشعر عند جماعة أبوللو يقرر[44] " أن هذا العنصر لم يحظ بالاهتمام الكافي عبر تاريخ الشعر العربي كله منذ العصر الجاهلي حتى النصف الثاني من القرن العشرين " وليس في اعتقادي أن هذه البنية الإيقاعية العروضية قد وجدت الاهتمام الكافي منذ النصف الثاني من القرن العشرين ، وسيتضح لنا ذلك فيما سنعرض له لاحقا . إلا أن ما يجدر ذكره في هذا المقام أن الدراسات النصية الحديثة خاصة الأسلوبية منها التي تشمل تحليل عناصر العمل الأدبي ، والنص الشعري بخاصة ركزت علي الجانب الإيقاعي ، بل جعلته منطلقا من منطلقات البناء اللغوي النصي .
5- وكانت المدارس النقدية الغربية قد ساعدت علي ظهور تيارات نقدية ومذاهب في نقدنا الأدبي الحديث حين أتيحت للحياة العربية عوامل اليقظة والثورة والانفجار الثقافي والمعرفي ، وتنامي الإحساس بالذات الفردية ، وكان التقاء النقد الأدبي الحديث بالنقد الغربي التقاء تمازج واستيعاب إلى حد كبير ساء على مستوى الإبداع الأدبي ، أو الدراسات النقدية المواكبة له[45] . وكان الدرس العروضي ضمن الموضوعات التي وجدت حماسا كبيرا من قبل المستشرفين لدراسته ،حين لاحظوا ما انتهى إليه هذا المجال من إهمال من قبل الباحثين الشرقيين رغم حيوية البحث فيه حيث ذهب بعضهم [46] – نتيجة ذلك – إلى القول : " لا ينبغي أن ننتظر من المؤلفين الشرقيين نظرات منهجيه ، ولاحتي ملاحظات دقيقة جديرة بأن توضح لنا المشاكل العويصة لأوزان الشعر العربي ، وانما غاية ما نستطيع أن نطلبه منهم هو المادة ، وعلينا نحن أن نستخدمها ، إن كتاباتهم عبارة عن مجموعات من الكناشات الممتازة وقد دونت فيها الوقائع ببساطة وسذاجة ، وعلينا نحن أن ننسق بينها ، ونستخلص منها النتائج العلمية " . وهذه الكلمة – علي مرارتها – تكشف عن اعتراف بما للبنية العروضية من علاقات وقيم إيقاعية جديرة بالدرس والتطبيق في مجال النقد الأدبي . ولكن هذا العروض العربي يفقد – مرة أخري – فرصة الدراسة المتأنية التي يمكن أن تربط بينه وبين النقد الأدبي الحديث بقيم إيقاعية ثرة، فعلى الرغم من أن هذا العروض العربي كان" موضوع مؤلفات عديدة ومطولة في أوربا منذ وقت طويل ، ومع ذلك فاٍنه يحق القول بأنه ليس ثمة حتى الآن سوي محاولات قليلة لتيسير دراسته ، واكتشاف قوانينه وأصوله بصفة خاصة – أكثر من اهتمامهم بالبحث عن طبيعته الحقة " [47] فلم يضف النقد الغربي إليه شيئا أكثر مما وجد عند علمائه الأقدمين من المشرق العربي . ويبدو أن ما وراء ذلك من أسباب ما يمكن أن نرجعه إلى الطبيعة الصوتية للموسيقي والإيقاع في الشعر العربي من شدة ونير وطول ومخارج الخ .... حيث تعجز الدراسات الغربية عن دقة تقديرها وتقييمها ومن ثم معالجتها ووصفها ، وقد اعترف بذلك المستشرقون أنفسهم[48] .
ولعل هذا ما يفسر لنا من ناحية ثانية – اهتمام بعض نقاد الشعر العربي الحديث بالموسيقي الداخلية للقصيدة أكثر من اهتمامهم بمفهوم الصورة الموسيقية العامة التي تشمل موسيقي الأوزان ، كما يفسر لنا تركيزهم داخل إطار الموسيقي الداخلية علي الجانب التعبيري للألفاظ وجرس الأصوات أكثر من اهتمامهم بالعلاقات التركيبية داخل إطار الوحدات الإيقاعية العروضية أعني التفاعيل وما يكتنفها من تشكلات بفعل الزحاف والعلة .
6- ونجد عددا من الباحثين المحدثين قد حاول في دراسات جادة أن يلتمس وظائف إيقاعية وعلاقات جديدة لموسيقي الشعر العربي من خلال هذا النظام (الكمي) الذي يمثله عروض الخليل، من هؤلاء، الدكتور إبراهيم أنيس،والدكتور شكري عياد، والدكتور محمد النويهي، والدكتور،كمال أبوديب، فدرسوا ظاهرة النبر في الشعر العربي. ويعد ذلك – من وجهة نظر الباحث- جهدا عظيما في وصف جانب من الإيقاع الشعري و إيجاد أسس وقوانين لموسيقي الشعر، تصلح لتشكل أساسا جيدا لنقد الشعر العربي وتحليله. إلا أن النقد العربي الحديث لم يستطع أن يمضي بهذه الدراسات في سبيل تطويرها واستكمال جوانب النقص فيها الذي أشار إليه بعضهم، يقول الدكتور كمال أبوديب [49]:" إن فرضية النبر التي أقدمها هنا محاولة أولى لا أدعي لها الكمال. بل إنني لواثق من أن ثمة عدد من النقاط فيها ما يزال بحاجة إلى تدقيق واستقصاء.لكن الأمل بأن نشرها قد يثير الاهتمام والمناقشة والتتبع.بشكل يؤدي إلى تعديلها نتيجة لعمل باحثين آخرين ".