مكة والشام... مَجْمَعُ بشاراتٍ لأمّةِ الإسلام 2/2


... وقدسُ الأقداسِ كذلك ؛ يجري عليها ما جرى على مكة من قبل فلشأنها العظيم حبسها الله تعالى للمؤمنين ولم يحبسها عنهم ، وإنه وان كانت مكة لم يقوَ أحد حتى من الكيانات الكبرى آنذاك من أن يخضعها لهيمنته وسيطرته – كونها موقوفة للأجيال المؤمنة - بخلاف بيت المقدس الذي تداعى عليه الرومان والتتر والصليبيون والإنجليز وفي الوقت الراهن يهود ،فهذا كله ليس بمدعاة للالتباس ، ولا شذوذا عن الخاصية المشتركة بينه وبين مكة ولا انتقاص ، إنما ثم فارق لطيف بين مكة والقدس مفاده : أنه يُقتص من الظلمة بمجرد أن يريدوا مكة بسوء ويهموا به ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ سورة الحج 25] فـ ( يعاقب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وان لم يوقعه ) [ تفسير ابن كثير 5/411] في حين قد يستدرج الظلمة إلى بيت المقدس لحظوته بخصيصة ومزية معهودة ، غدت عبر الزمان سنة تاريخية مشهودة ؛ ألا وهي أنه ( لا يُعَمّرُ فيه ظالم ) فمن استشرى ظلمه وامتد حتى طال دنسه بيت المقدس كان ذلك سبب اندحاره ، وجريرة انخذاله وانخزاله وانهزامه ،وهذا ما كان بشأن الغزاة الطامعين ببيت المقدس، إذ خرجوا منه أذلة صاغرين يجرون أذيال الهزيمة ، ويهود على الأثر، فلن يطيب لهم الحال والمستقر ، قال تعالى (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيرا)[ سورة الإسراء 7] فإلى أن يأتي هذا اليوم الذي يحررها فيه المؤمنون لن يمكّن فيها لعدوٍ غاشم ، أو معتدٍ دخيلٍ ناقم ، إنما ستظل كشأنها على مدار التاريخ لا يُعَمّر على ثراها ظالم ، وفي بطحائها وبين جنباتها يقتص من كل مجرمٍ آثم .
من هنا درج النبي - صلى الله عليه وسلم - على نسبة ملكية بيت المقدس وأكنافه إلى المسلمين في وقت لم تكن فيه بحوزتهم، فها هو يدعو المولى عز وجل بقوله: ( اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا )[صحيح البخاري رقمه 990 ] وهي وقتئذ بأيدي الرومان مسلوبة ! وما ذاك إلا بشارة منه عليه الصلاة والسلام أن ديار الشام ستظل إلى حوزة الإسلام منسوبة ؛ ( شامنا ) وعلى أمة الإسلام محسوبة ! فلن يستطيع أحد مهما علا جاهه وعظم سلطانه وامتد طغيانه أن يميّع أو يضيّع فضلا عن أن ينزع عن الشام وأهله هذه النسبة ! التي هي بمثابة دمغة ربانية وصبغة إلهية ضُربَت على الديارالشامية ، وذلك يوحي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على بينة من أمر تلك الديار الشامية بعامة وبيت المقدس بخاصة ، وبما جرت به المقادير الربانية والنواميس الإلهية التي قضت بأن تكون تلك الديار الشامية ودرتها بيت المقدس قضت بأن تكون :
v مأرز إيمان عند الفتن والافتتان : فعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ، ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام ) [ مستدرك الحاكم 6802 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ]
v مَحَط اجتباء ومستقر أهل الاصطفاء ؛ فعن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الشام صفوة الله من بلاده ، إليها يجتبي صفوته من عباده ) [ الحاكم في المستدرك برقم 8602،والهيثمي في المجمع10/59 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحةبرقم1909] وعن ابن حوالة –رضي الله عنه – قال : قـال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أتدري ما يقول الله تعالى في الشام ؟ إن الله تعالى يقول : يا شام أنت صفوتي من بلادي أدخل فيك خيرتي من عبادي ) [ رواه الإمام أحمد في المسند 4/ و110،100 أبو داود في سننه برقم 2383 والحاكم في المستدرك وصححه4/510]
v و موضع كلاءة وعناية : ففي حديث ابن حوالة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله )[ مسند الإمام أحمد 4/ 110،100 ـ والحاكم في المستدرك برقم 86030 وصححه ـ والهيثمي في المجمع 10/59 وقاله رجال ثقات ]
قال العز بن عبد السلام – رحمه الله تعالى – ( وإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشام في كفالة الله تعالى ، وأن ساكنه في كفالته ، وكفالته : حفظه وحمايته ، ومن حاطه الله تعالى حفظه فلا ضيعة عليه ) [ ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام 28 ]من هنا فلن يضيع الله تعالى المرابطين في بيت المقدس وأكنافه ، ولا المرابطين المتجشمين الصعاب والأهوال في ديار الشام ، وإن ادلهمت عليهم الخطوب ، ونزلت في ساحتهم الكروب ،فسينجيهم منها علام الغيوب .
v و ملاذ الطائفة المنصورة ؛ فعن أبي أمامة الباهلي- رضي الله عنه - قال : ( قال رسول الله: ( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين ، لعدوهم قاهرين ، لا يضرهم من خالفهم ، إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك ، قالوا : فأين هم يا رسول الله ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس )[ رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند 5/169 ، والهيثمي في المجمع 7/288 وقال : صحيح بشواهده ] .
v وبيت المقدس وأكنافه موطن الملحمة الجهادية :التي يطيح بها أخيار البرية بشر البرية ، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبىء اليهودي من وراء الشجر والحجر فيقول الشجر والحجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعالَ فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ) [ رواه مسلم ].
v وفي أكنافه تقطع دابر فتنة المسيح الدجال، إذ يلقى الدجال هلكته على يد نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام كما جاء في الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( يقتله ابنُ مريمَ بباب لد ) [ أخرجه أحمد في المسند 3/420 والترمذي في سننه برقم2244 والحديث صحيح لغيره ]
ومعلوم أن نبي الله عيسى عليه السلام عندما يأتي ليخلّص أهل الأرض من فتنة الدجال فإنه يهبط في دمشق ، والحديث في صحيح مسلم وفيه: {فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِىَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ وَنَفَسُهُ يَنْتَهِى حَيْثُ يَنْتَهِى طَرْفُهُ }
قال الحافظ المقريزي ( ت 845 هـ ) في كتابه " درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة " 1 / 193 / ط . دمشق ( أخبرني الحافظ شيخ السنة عمادُ الدين أبو بكر بن أبي المجد الحنبلي رحمه الله قال : أخبرني عمادُ الدين بن كثير قال : سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : ( لينزلنّ عيسى ابن مريم على هذه المنارة ) ، ويشير إلى منارة جامع بني أمية الشرقية، وتكون يومئذٍ بيضاء .
قال : وكانت حينئذٍ غير بيضاء فاحترقت بعد موت الشيخ، وأُعِيدَت وبيّضت .
قال كاتبه ( أي : المقريزي ) : وهي باقية إلى اليوم لم تحترق عند حريق الجامع في نوبة الطاغية تيمورلنك في سنة ثلاث وثمان مئة عند دخوله دمشق وتحريقها . اهـ .
هذا ويُعَدّ نزول المسيح – عليه السلام - في دمشق إشارة قوية إلى ديمومة المدد والإمداد للنفْر والنفير بين بيت المقدس ودمشق ! وما ذاك إلا لرسوخ آصرة الأخوّة فيما بينهما ووحدة المصير ، وفي هذا السياق أستطرد قليلا لتضمين مقالتي هذه بأبيات شعرية مُفصِحةٍ جزى الله قائلها خير الجزاء :
فحيّى اللهُ قائدَنا المســــــــيحَ ...........وفي دمشــــــــــقَ غداً لِقانا
يجيئ من السماء وقد طحنّا .........بني الصفراء طحناً في رَحانـا
بملحمةٍ حكــت طوفانَ نوحٍ......... ولولا اللهُ أدركنا طوانــــــــــــا
فيهبط للطعانِ وقد حشدنا.......... لطوفانٍ أتى من أصبهانـــــــــا
هو الدجالُ في سبعينَ ألفاً ............يهوداً يلبسون الطيلــــــسانا
فيطعنه بحربتــــــــــه بِلُـدّ....... فيا لك طعنــــــة فيها شِفانـــــــا
فيهوي الأعورُ الدجالُ أعتى........ عُتاةِ الأرض مفترشاً حَصَانــا
فلا حجرٌ ولا شجرٌ توارى......... به كوهينُ إلا خبّرانـــــــــــــــــا
فصلِّ على الحبيب وقد سلامٌ .......صدقتَ وطابقَ الخبرُ العَـيانـــا

v وبيت المقدس محضن الخلافة الإسلامية في آخر الزمان ؛ فها هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لابن حوالة – رضي الله عنه - : ( يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت أرض المقدس فالساعة يومئذ أقرب من يدي هذه على رأسك ) [ مسند الإمام أحمد 5/288 وصححه الألباني في صحيح الجامع 7838 ].
v وأرض المحشر والمنشر ؛ ففي حديث ميمونة بنت سعد – مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : يا رسول الله ! أفتنا في بيت المقدس ! قال : ( أرض المحشـر والمنشـر) [ رواه أحمد في مسنده 6/463 وابن ماجة في سننه 1407 والطبراني في الكبير 52/ 32 ] .
فهذا ما وعدنا الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بشأن بيت المقدس ، وصدق الله ورسوله ، فما وعدنا الله ورسوله سيصلنا –معشر المسلمين – لا محالة ، وزمان وصوله ووقته مرهون بتسديد استحقاقات هذا الشرف العظيم ؛ فستظل القدس محبوسة لنا ، محصورة لنا ، موقوفة علينا ، لا يُمَكّن فيها لظالم ولا يهنأ فيها غاصب ، حتى نفي باستحقاقات نيل هذا الشرف العظيم ،شرف تحريرها وامتلاكها وإرجاعها إلى حوزة المسلمين ، وضمها إلى إرثهم الإسلامي التليد ، سواء أكانت هذه الاستحقاقات :
&; استحقاقات ايمانية : بالاستمساك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والاعتصام بهما ، وبتحقيق الولاء والبراء وتمحيصهما !
&; واستحقاقات دعوية : ببذل جهدنا واستفراغ طاقتنا لإخراج جيل رباني قرآني ، يواصل المسير ، ويحمل راية التحرير.
&; واستحقاقات نفسية و بدنية : بالصبر على لأواء المرحلة ؛ مرحلة صيانة حقوق الأمة وحفظها وعدم التفريط بشيء منها ، مهما كانت ضغوطات الواقع ثقيلة، ومهما نالت من دمائنا وابتلعت من فلذات أكبادنا .
&; واستحقاقات مالية : ببذل ما في الوسع والجود بالنفيس والرخيص نصرة لبيت المقدس وقضاياه ، وتثبيتا لأهله المرابطين في حماه ، وكفالة لأسرة الشهيد الذي جاد بدماه ، وخلافته في أهله بخير .
&; واستحقاقات جهادية : برفع راية الجهاد ، والالتفاف حولها ، وانتهاجها سبيلا وحيداً ، وملاذاً سديدا لتحرير البلاد وإعزاز العباد .

وبعد : فهذا ما شاءته الأقدار الربانية بقدس الإسلام ولربوع الشام ، فأنى لأيّ إدارة أو إرادة أن تناوىء هذه الإرادة الربانية أوتقدّم بين يديها ؟! فمن كان يظن أنه سيستدرك على المولى جل شأنه في أقداره ، أو يُعقب عليه في أحكامه ، ألبسه اللهُ تعالى ثوب النقيصة والخذلان في عقر داره ، وسيُفعلُ به كما فعل بأشياعه من قبل ( والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ سورة يوسف21 ] .