(34)

طلب علوان من سائق (تكسي ) أن يوصله الى أطراف الغابة، سأله السائق: الى أين بالضبط؟ لم يجبه، ظن السائق أن صاحبه سيتجه لاحتساء الخمر في كازينو قريب من الغابة، لكن هيئته ووقت العصر لا يرجحان ذلك الاحتمال، لم يتكلم معه كثيراً، رغم أنه أعدَّ سلسلة من الأسئلة، كانت تغور في بلعومه قبل أن تتحول لكلامٍ منطوق، كما أنه قد تجاوز مكان الكازينو، دون أن يبطئ من سرعته، بعد عدة كيلومترات... طلب منه التوقف، وناوله أجرته...

لم يكن باستطاعة أي فريقٍ من المختصين أن يتعرفوا على مسحة الوجوم والحيرة التي وسمت وجه علوان، وهو يرمي بقطع من الحصى في مياه النهر الجاري تحت الصخرة التي جلس فوقها... كان الطقس أكثر ميلاً للبرودة قبل حلول الربيع بقليل..

جلس فوق صخرة تعتلي النهر قليلاً وأخذ يراقب الموجات المتتابعة التي كانت تشتت أثر الدوائر الناتجة من سقوط الحصى التي يرميها، وأشعة الشمس تلعق بسطح الماء فتزيل النتوءات البسيطة المتلاحقة من الماء والحصى.. هل تعطش أشعة الشمس لتلعق وجه (روجات) النهر؟ هل تخزنها في معدة السماء لتعود بنثرها كأمطار في موسم آخر؟ هل تنزل نفس القطرات في نفس المكان، هل تتعرف تلك القطرات على ما كان يحاذيها من قطرات أخرى؟ هل للماء مجتمع كمجتمعاتنا يحن الأفراد فيه الى بعض، ويتخاصمون كما يتخاصم أفراد مجتمعاتنا؟ هل تتكلم قطرات الماء أو حتى النهر؟ أصاخ سمعه.. نعم إنها تتكلم! فالهسيس الذي تحدثه ثم تكسره أصواتٌ أعلى بين حين وآخر لا بُد أن يكون كلاماً أو غناءً، ولماذا لا تتكلم وهي أم لكل أشكال الحياة؟

كانت ذكريات عشر سنوات تتشابك مع تأملاته في الماء، فكان خلالها أحداثٌ كثيرة، استقلال كثير من دول الخليج، تأميم النفط العراقي، اغتيال ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، (كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار) وانقلاب على (سلفادور الليندي) في تشيلي، وحرب تشرين، وزواجه من فتحية ابنة عمه قدري، وولادة ابنته وابنه، واتفاقية كامب ديفيد، وبدايات الحرب العراقية الإيرانية...

كانت نصف المدة التي قضاها في حالة صعود، ليس عنده بل عند كل من كان يعرفهم، فقد كان الجميع يشعر أنه قد اقترب من تحقيق أهدافه، كثيرٌ ممن كان يعرفهم تطوع الى ساحات القتال في لبنان وفلسطين، وبعضهم استشهد هناك أو في زنازين دولهم... لم تكن تنقصهم الروح الوثَّابة، كانوا سعداء فيما يقومون به. أما نصف المدة الأخرى، فكانت تنبئ بأشياء لم يرتح لها كثيراً، بل كان يتمنى العمل على تصويبها، وإن كانت لم تؤثر على قناعاته، لكنها كانت تخيفه في بعض الأحيان...

عاد معظم الطلبة العرب الى بلدانهم بعد تخرجهم، وكان كلما يبتعد أحدهم يقل رصيده من مخزون الذكريات، ويتساءل هل ممكن له أن يتواصل معهم؟ أم أن احتمالية ذلك لا تزيد على احتمالية التقاء قطرات مياه النهر في دورتها الأزلية؟ وآن له أن يعود...

(35)

تناقل أبناء البلدة خبر اعتقال علوان...
وأخذوا يتساءلون: كيف عاد؟ ولماذا عاد؟ وأين ذهبت زوجته؟ ألم يقل أهله أنه تزوج من ابنة عمه قدري (فتحية)، متى كان ذلك؟ لم نحضر الزفاف، ألم يقل أهله أنه رُزق ببنت وولد؟ أين ذهبا؟

وتأتي اجتهادات البعض بالإجابة.. إنه وقبل أن يسافر المرة الأخيرة قبل ست سنوات، أتاه عمه قدري، وأخبره أن هناك من تقدم لخطبة فتحية، فبادر وقال له أنا سأتزوجها يا عم.. فعقد قرانه عليها، وبعد أن عُلم أنه مطلوب للمخابرات، تم إرسال فتحية إليه مع والدته، بعد أن أقاموا له عرساً دون أن يحضره.. ويضيف البعض أنه سمع أنه قد ذهب بها الى بريطانيا لعلاجها، عندما اكتشفوا أنها تعاني من مرضٍ خطير، وقد صرفت لهما الدولة التي كان يقيم بها جوازان للسفر، وذهبت والدته لإحضار الطفلين قبل سفره لبريطانيا...

وكعادة أهل الأرياف، كان كل واحد يهتم بمعرفة التفاصيل الدقيقة، وإن لم تكن تلك التفاصيل مهمة وتجعل من يستمع إليها مشدوداً، فإن من يروي يتطوع لإضافة ما يجعل قصته مهمة وأن لديه سبقاً صحفياً يمتاز به على غيره... كانوا يقومون بذلك حتى عند روايات الموت، حيث يصبح الميت أشهر من روَّاد الفضاء، ولكن لمدة يومين أو ثلاثة، ثم يُركن في زوايا النسيان...

(36)

دائرة المخابرات تأخذ شكلاً من أشكال قوتها مما يُحاك حولها من قصص، ربما تخترعها هي، فالرعب يملأ نفوس من يودعوا فيها أو يُطلبوا لها طائعين أو مكرهين، يبقى كذلك، حتى يؤول مصيرهم داخلها، فإما أن ينهاروا منذ اللحظة الأولى، وإما أن يتكيفوا كتكيف امرأة ريفية وشمت وجهها..

كانت الممرات المؤدية إليها قد صممها مهندسون خصوصيون لتكون كاختبارات متصاعدة في صعوبتها، لتزلزل تماسك من يدخلها، وكان في داخل تلك المحطات المرحلية الصغيرة مَن يرصد ردة فعل المطلوب الجديد، لتعين المُحققين على اختيار منفذ لسبر أغوار (زبونهم) الجديد..

بعد أن اقتيد علوان وُضع في قاعة انتظار أو اختبار أولي، يزيد عرضها عن عشرة أمتار، أما طولها فكان خمسة أمتار!. جلس مع المطلوبين المنتظرين على مقاعد خشبية أمام (كاونتر) طويل يتكون من مستويين من السطوح، السطح المنخفض يضع عليه الموظفون المستقبلون أوراقاً لا يراها من يجلس أمامهم، وسطح مرتفع لا يسمح للمنتظرين برؤية أشكال الموظفين الذين أمامهم، فإن أخفض الموظف بصره، فإن المنتظرين يرون قمة رأسه من الخلف، وإن رفع بصره، فإنهم سيرون عينين تلمعان، ومنتصف الأنف من الأعلى...

كان الجلوس في قاعة الانتظار هو لمعرفة تماسك الزبون في ظاهرة التَبَوُّل وشرود الذهن، فإن نقل ساقيه شمالاً ويميناً، فإن رغبته بالتبول تفضح تماسكه، وإن طلب الذهاب الى الحمام، فهو إشارة على أنه سيوقع على أي وثيقة يريدها المحقق منه...

كان موظفو الاستقبال يحترفون قنص مثل تلك الإشارات، وأحياناً يكتفون بها دون جولات التحقيق، فالمطلوب الذي يبقونه من الصباح الى الثانية ظهراً، يأمرونه بالانصراف والعودة في اليوم التالي، ويتركونه لتفاعلاته الداخلية، عدة أيام متكررة، حتى يطالبهم (هو) بالتطوع للعمل معهم أو الاعتراف بأي تهمة حتى لو كان يعلم براءته منها...

كان علوان، يعلم تلك التصرفات من خلال التدرب عليها، ليس هو فقط بل كل من كان بمستواه حزبياً، ويتعاملون معها بشكل طبيعي... وقد اكتشف موظفو الاستقبال تلك الحالة، عندما دخل مطلوبٌ آخر من رفاقه، لم يره منذ مدة طويلة، فقام وصافحه وعانقه، وسأل أحدهما الآخر عن أحواله. تدخل أحد الموظفين ناهراً لهما وطالبهما بالصمت، فبادر رفيقه بالرد على الموظف: وهل نحن بقاعة امتحانات حتى نصمت؟ هنا، أمر الموظف بتحويلهما الى الداخل، حتى لا يخدشا هيبة المكان...