ضرس

ــ 1 ـــ
كانت الشمس قد أشرقت منذ قليل، حين غادر عبد التواب الشريف كوخه الجبليّ الحقير، متّجها نحو قرية سوق الخميس.. كان عليه قطع مسافة سبع كيلومترات سيرا على الأقدام، نهبا لآلام حادّة و نفس مكروبة و عبر مسلك فلاحيّ موحل، و تحت سماء ممطرة و برد يخترق العظام، توفيرا لثلاثة دنانير سيضعها في يد عم لخضر الطهّار نشدانا للخلاص.

رغم السّيرة الدّمويّة التي تلبّس بها عم لخضر الطهّار الذي ظلّ لسنوات عديدة يمارس مهنته تحت سمع و بصر نظام لا يقلّ عنه دمويّة، فانه يمثّل السّاعة ملاك رحمة يسعى إليه عبد التواب الشريف طائعا مختارا، كي يضع ماله و رأسه بين يديه، بعد أن سدّت الأبواب في وجهه، و وصل الى قناعة مفادها أنّ عذاب دقائق أفضل من عذاب ساعات.. فرغم الآلام التي تنتظره فان الرّجل يمثل الملجأ الوحيد، و المركب الصعب الذي يجب عليه ركوبه، هذا إن أراد وضع حدّ لآلامه التي فاقت كلّ احتمال و جاوزت كل حد، بعد عجزه عن توفير مجرّد ثمن الإنتقال الى المدينة المجاورة، فضلا عن توفير أجرعيادة طبية تليق بآدميته، بعد أن عقر الذئب نعجته التي كان يأمل في بيعها و الإنتفاع بثمنها لتجاوز هاته المحنة.
ـــ 2 ـــ

كان قد بقي على عبد التواب الشريف إجتياز كيلومترين أخيرين لإدراك سوق الخميس، حين توقفت الى جانبه سيارة تايوتا زرقاء اللون، كانت تصدح بحبّك نار لعبد الحليم حافظ.. بمجرّد أخذ مكان في السيارة، بادره سائقها سائلا:
ـــ و ينك يا راجل؟
ـــ ها أنا على قيد الحياة.
رغم حاجته إليها فقد رفض سيجارة عرضت عليه:
ــ شكرا.. لقد أبطلت التدخين.
ــ حرام عليك يا راجل!
ـــ ...

ـــ ليش أبطلت التدخين؟
كان يكابد آلامه، حين استمر رفيق دراسته سائلا:
ـــ لأسباب دينية أم صحيّة؟
ـــ لا هذا و لا ذاك.
همّ بان يضيف بأنه قد أقدم على ترك التدخين صيانة لكرامته، لكنه عدل عن ذلك خصوصا و ان نفس جليسه هو الذي حمله منذ ثلاثة أشهر على إتخاذ ذلك القرار حين قال معلقا بعد تقديم سيجارة لرجل استوقفه من أجل طلبها:" كان الأجدر به الكفّ عن التدخين حين عجز عن توفير ثمنه" قال ذلك دون مراعاة لشعور جليس دأب بين الحين و الآخر على تناول علبته و أخذ سيجارة كان يصرّ على إرجاعها بعد كلّ ميسرة..
ـــ لماذا لم تعد تظهر؟
كان مشغولا بنوبات ألم رهيبة حين استمر صديقه محكّرا:
ـــ اعتقدت انك حرقت الى ايطاليا.
رد ّعليه بين زفيرين:
ـــ حين يبلغك أن الحرقان (1) أصبح ببلاش فلا تتردّد في إخباري!
لم يردّ صديقه بشيء، بل أكتفى بالإصغاء الى ما كان يذاع عن صفقة حركة حماس مع الكيان الصهيوني المحتلّ ثم علّق معقّبا:
ــ هل يعقل يا ناس، أن رأس يهودي واحد يساوي أكثر من ألف رأس عربيّة؟!

همّ بأن يجيبه: " أذا كان العربي يعامل في بلاده معاملة عبيد القرون الوسطي، فأي غرابة حين يقايض رأسه ولو برأس بصل؟ ثم أي قيمة لعربي يضطره فقره و هوانه على حكامه و في العشرية الثانية من القرن الحادي و العشرين الى وضع رأسه الرخيص بين يدي حلاق متجول كعمّ لخضر الطهار؟.. أليس ما سأتعرّض إليه بعد قليل و بصفة حتمية، أسوا ألف مرّة ممّا قد يتعرّض إليه سجين بين يدي جلاده؟.. ثم أنني لم اسمع بجلادين يعذبون ضحاياهم بقلع ضروسهم! كما يفعل بأي عربي رخيص الرأس من أمثالي" غير أن ألمه قد شغله عن كلّ تعليق... بعد فاصل موسيقي، أعلنت المذيعة بصوت متكسّر:"فاجأ أسطورة كرة القدم الأرجنتيني دياجو مارادونا أمس الإثنين، جمهور نادي الوصل الإماراتي بإرتدائه الكوفيّة الفلسطينيّة، و رفع علامة النصر هاتفا: تحيا فلسطين ( فاصل موسيقي) مع الإشارة بأن راتب مارادونا مع نادي الوصل يصل الى 3,5 مليون يورو.. ( فاصل موسيقي) هذا و قد جدّد السيد نايف بن حمد آل معلوف رئيس نادي الوصل ثقته في النجم البرازيلي الكبير رغم خسارته خمسة لصفر في أول مقابلة له أمام نادي دبي، معتبرا خسارة النجم مارادونا مجرّد كبوة جواد أصيل، أو نبوة سيف صقيل ( فاصل موسيقي) كما يشار أيضا، الى أن مارادونا الذي ازداد وزنه بشكل مضحك كان شرسا و سيّء الخلق، إلى حدّ أقدامه أخيرا على ركل أحد مشجّعي فريق الوصل، كما لوحظ...".. زفر عبد التواب بحرارة، همّ بالتعليق بان الأموال التي تعطيها الإمارات الى حشاش أرجنتيني فاشل مثل ماردونا كي ينفقها على الأفيون كان الأولى أن ينتفع بها المعذبون في بلاد القهر أوطاني لكنه سكت, مجدّدا إيمانه بحقيقة أنّ " العروبة لعنة و عقاب" (2).



ـــ 3 ـــ
في سوق الخميس (قرية نائية، لم يستعمل فيها الورق أساسا و منذ فجر البشرية في غير الكتابة) كان الأخضر السالمي (و شهرته لخضر الطهّار) و هو كهل في أوائل الأربعين و ان كان يبدو شيخا قارب الستين، يجتهد في تتبع فتحته الشرجية تنظيفا وغسلا ، حين هزّه قرع عنيف على باب كنيف باهت الإنارة، شفع بصوت واهن يناديه مستحثا :
ـــ بابا بابا
صاح لخضر الطهار لاعنا:
ـــ آش صار يا ولد الحرام؟
كانت أغنية "أروح لمين" التي تملأ فضاء المقهى مختلطة بصخب لاعبي الرامي و النوفي قد أذهبت رسالة الصبي سدى، لأجل ذلك صاح لخضر الطهّار وهو ينتفض ململما سرواله:
ــ آش صار الله يلعن والديك!
صاح الغلام بأشد من صوته الأول:
ــــ بابا إجر بابا إجر.
كان لخضر الطهّار قد نجح في لملة سرواله حين اطلّ برأسه مكررا سؤال الصبي بلهجة أشدّ حدّة:
ــ آش صار؟
صاح الصبي بين لهاثين مشيرا بيد وسخة الى خارج المقهي:
ـــ البوليسيّة! (3)
ما ان قرع سمع لخضر الطهار اسم البوليسية حتى أزاح الصبي بكثير من الغلظة، ثم اندفع شاقا له طريقا بين روّاد مقهى قد اكتظت بمناسبة السّوق الأسبوعية.. سأل لخضر الطهّار ولده فيما كان يدفع شيخا أصمّا لم يفلح معه التنبيه:
ـــ كم عددهم؟
ردّ الصبيّ و هو يجتهد في التقاط أنفاسه:
ـــ اثنان و ربما ثلاثة.
ـــ و أين ظهروا؟
ـــ بجانب نصبة جارنا الهوّاري
ما ان تمكن لخضر الطهّار من الفصال عن المقهى، حتى صوّب نظره يسارا الى حيث أشار الفتى، و حين تأكّد من رؤية " الحنوشة" (4) بزيّهم الرسميّ المثير للقلق.. إلتقط قضيبا صغيرا من حلوى منزليّة الصنع واعدا بائعها بتسديد الثمن حالما يفتح باب الرزق، ثم دسّها في يد الصبي شكرا له و عرفانا قبل أن يولّى وجهته يمينا و في عزمه فسخ انتصاب فوضويّ، كان سيكلفه الكثير لولا يقظة الصبيّ و نباهته.

ـــ 4 ــ
كان عبد التواب الشريف يكابد تتابع ضربات موجعات لضرس أذاقته الويلات لثلاث متتابعات، حين تجمّد في مكانه مصدوم الفؤاد، مظلم النفس، ضائق الصدر، خائب الرّجاء، منذ وقع بصره على زاوية مهجورة من سوق خميس قد اتخذت ولسنوات طويلة كمقلع للضروس، حين شعر بيد صغيرة تعمل في طرف سترته جذبا خفيفا متّصلا، و صوت رقيق يناديه:
ــ عمّ الرّاجل.. يا عمّ الرّاجل!
حالما تطلّع عبد التواب الشريف الى مصدر الصّوت، ظهرت علامات الرضا على وجه، لمعاينة وجه مألوف يسأله ببراءة الطفولة و بين مصّات متقطعات لنصف قضيب من حلوى قد اختلط بما سال من مخاط، إن كان يرغب في علاج سنّ، أو قلع ضرس، أو حلق لحية، أو قصّ شعر، أو فصد دم، أو ختان صبيّ.. بمجرّد إشارة عبد التوّاب الشريف إلى خدّ شديد الإنتفاخ، سارع الصبيّ الى تقدّم الشابّ الموجوع مشيرا عليه بإتباع أثره، حتى يدّله عن موضع سريّ لا يمكن للحنوشة إدراكه، حتى وصل بهما المسير الى شجرة عارية جثم بجوارها لخضر الطهّار على صدر قرويّ بدين، وهو ينازعه ضرسا تمكّن منها بعد صراع دمويّ عنيف.

ــ 5 ـــ
فور صرف زبونه البدين، وقبل التفرّغ الى طلبات عبد الوهّاب الشريف، اضطر لخضر الطهّار إلى الإحتجاب وراء الشجرة آخذا ما يكفيه من وقت لإفراغ مثانة ضجّت من ثلاث كؤوس شاي مركّز، و لتر واحد من مشروب غازيّ مدرّ للبول. ما أن قضى حاجته، حتى قام بنفض ذكره ثلاثا ثم شرع بواسطة حجر حرص على انتقائه بعناية بالغة، على تتبّع ما علق به من قطرات بول، قبل أن يبادر مستعينا بالله تعالى و بركة الوليّ الصالح سيدي البرني البوهالي، الى التسلّح بكلاّبة من بقايا حرب الألمان كان قد ورثها عن والده، مسندا ظهر مريضه على بردعة عمل على تثبيتها على جذع الشجرة، محكما وضع هامة الموجوع بين فخذيه القويتين منعا لكل محاولة للتهرّب من ألم قد يفوق إحتمال جيل مخنّث قلما يعتمد عليه.
بعد تمكّن لخضر الطهّار من تحديد مكان الضرس المطلوب ثم وضعه بين فكيّ الكلاّبة، و لحظة همّ بجذبته المرهوبة فقد توازنه نتيجة انزلاق طفيف للبردعة التي أسيء تثبيتها، ممّا جعله يخرّ مكبّا على مريضه محدثا له جرحا بليغا بلثته.
بعد ان أطال لخضر الطهّار تحسّس الجرح الذي أحدثته كلاّبة هوجاء، سارع معتذرا الى حشو الجرح بقليل من مسحوق البنّ، معتذرا أيضا عن غياب بعض خيوط العنكبوت كبديل أكثر فاعليّة، لينصرف بعد ذلك إلى مهمّته الأساسيّة.
ــ 6 ـــ
في ساعة متقدّمة من ليلة شديدة الرياح، و في زاوية حقيرة من كوخ جبليّ معتّم، كان الألم قد غزى كامل جسد عبد التواب الشريف الذي بدأت حالته تسوء تدريجيا بعد ساعات خمس من مغادرة لخضر الطهّار.
في أوّل أمره فوجىء عبد التواب الشريف بظهور طفح جلدي يعم كامل جسده، سرعان ما تلاه صداع رهيب أجاءه الى الفراش ثم ما لبث أن شعر بتسارع دقات قلبه قبل ان يعتريه ضيق تنفس فتشنج دون تشنج المصروعين، لم يفقده وعيا، و قد ظلّ كذلك، و هو عاجز عن أي حلّ، قبل أن تتنابه حمّى كاوية كانت تكفّ عنه حينا لتفسح المجال الى تعرّق غزير تلته برودة موتى.
كان قد مضى على عبد التوّاب الشريف ساعات رهيبة وهو على تلك الحال من الضنك و سوء الحال، إضافة الى عجزه عن النهوض لكي يطفئ عطشا قد برّح به، حين ألفى نفسه وهو يستعرض أرتال أشخاص متعدّدي الوظائف و الجنسيات و الثقافات ولا تربط بينهم رابطة سوى الموت الذي وحّد بينهم، كانت أمّه أول القادمين تلاها جدّه فأخته التي قضت و هي تضع مولودها الأول و الأخير فملكوم ايكس فمارتن لوثر كينج، فشارلي شابلن فالمهاتماما غانذي فالصادق النيهوم، فخالد الإسلامبولي فالشيخ إمام، فعبد الرحمن منيف... كان الجميع يستحثونه على اللّحاق بهم.. قبل أن يغادروه جميعا مفسحين المجال الى عم لخضر الطهّار الذي بدا متشبثا بقلّة ماء أبى أن تناله منها قطرة واحدة،


قبل أن يسلّمه مقابل ذلك ثلاث ورقات نقدية من فئة الدينار.
آخر ما شعر به عبد التواب الشريف كان دويّا هائلا سببّه سقوط عارضة خشبية كان قد سدّ بها الباب الخلفيّ لكوخه الحقير، تلاها شعوره بنسمة باردة تلامس صفحة وجهه و صوت عواء متقطع يصله من بعيد، قبل أن يغوص في غيبوبة لذيذة.

ـــ 7 ـــــ
كان لخضر الطّهار قد فرغ من فصد دم قروي شاب، حين بلغه صوت رقيق :
ــ بابا بابا
ـــ آش صار؟
ـــ شوف صورة عم الرّاجل!
حين التفت وراءه عاين الصبي وهو يمدّه بقصاصة جريدة مضى على صدورها خمس أيام قد استخدمت كلفافة سندويتش كان الصّبي قد أتى على معظمه... ما ان تناول القصاصة، ثم تعرّف على صورة عبد التواب الشريف، حتى صاح لخضر الطهّار متعجبا :
ــ و الله صحيح!


بعد ان صرف عنه الصبي، جلس لخضر الطهار على بردعته، و بصعوبة بالغة طفق يتهجّى: " قبل خمسة أيام، و في منطقة جبليّة متاخمة لدشرة سوق الخميس، عثر أحد الرّعاة على كوخ جبليّ مهجور به جثة شابّ في الثلاثين قد أتت ضواري الذئاب على معظمها، و قد أكّد الطبيب الشرعيّ، أنّ الفتى كان مفارقا للحياة، حين شرعت الضواري في نهش رفاته. و قد أظهرت الفحوصات المخبريّة أنّ تسمّما شاملا أصاب دم الفتى بعد تعرّضه ..".
توقف لخضر الطهّار إجباريّا عن متابعة خبرالشاب الفقيد بفعل غياب بقيّة الخبر.. تناول سيجارة من علبة منتصفة، أشعل واحدة منها.. ملأ رئتيه من دخان تركه يتسرّب بين منخرين مشعرين فيما كان يردّد بأسف بالغ:

ــ.. استغفرالله العظيم.. ان بعض الظن أثم.. لقد اعتقدت ان ظهور صورة الشاب في الجريدة، كان بسبب امراة ركبها أو جريمة ارتكبها!
ـــــــــــــــــــــــــــ


(1) حرق يحرق حرقانا: كلمة عامية بمعنى سافر بحرا او برا بطريقة غير شرعية.
(2) بيت لنزار قباني: انا متعب يا صديقتي بعروبتي/ فهل العروبة لعنة و عقاب.
(3) البوليسية الشرطة باللهجة التونسية.
(4) الحنوشة جمع حنش كلمة يستعملها أهل الريبة و يقصد بها الشرطة.


أوسلو 18 أكتوبر 2011