( الليلة التي لمْ تجدْ مُتعة ً)
--------------
بعد قليل سأترك خشبتي الميّتة باحثاً عن جهاتٍ بعيدة عن حجر، قررت أن أترك قدميَّ تمتحنان الدروب وتحتسيان الرمل، عبر الجسور والطرقات.
لي رغبة الاستمتاع بشخص آخر وبمصير لم يختره الآخرون لي، مصير بلغ حد الهزيمة،كما لي رغبة شجاعة تقودني لهذا المصير.
يغمرني غثيانٌ الحماقة، يحاور شكلي مستوضحاً سطحه الأملس.أحذو حذوه وأسال المتحجر: جد نفسك.
تحاصرني سطوة رعد ورتابة مُملـّة، أستهلُّ يومي، أحوم حول ذاتي، أنظر إلى ثعبان الوقت أنظف نفسي منه، لي مسيرتـــي الخاصة وسخرية المتفرجين.
لا أفضّل المكان، لا أفضّل الزمان، أعني أن كل شيء تورّم حتى أنا والهواء، من العدم تأتيني فجأة حفنة هلوسة تُشعرني بأني سأصاب بنوبة من التفتيت فأتأمل أفكاري وضرورة خروجي من شكلي، أشعر أن حياتي قلقة وحياة العالم مستقرة.
ربما ميولي ورغبتي في أن أصبح شيئاُ مختلفاً، لذلك أجد نفسي دائما في فرن، لو فرضتُ أني الآخر الذي أحلم هل سأتكلم أنا أم هو؟
تـُرى ما الذي أكون عليه وكيف أترك ثلجي؟
ماذا أصنع وكم من الوقت أستغرق في المدينة؟
حجمي صغير قد تواريه الأتربة، والشوارع المكتظة بمرايا مَن عبروا، ومَن أوجعته الوهلة الأولى في السير، ماذا أقول له؟
- هل أردفُ راجعا بأحلام ما زالت في الظل؟
- هل أخبره أنه صغير لا يستحق الحلم؟
أكره صلصالا لم ينضج بمتاهاته الأربعين كعانس تتعرّى للهواء. أشعر أن الطرقات شوكة في لحم رخو،والهواء يُنذر بالشؤم.
أرى الأسواق زانية، الرجل مشطور والمرأة مشلولة .
وأنا أعدّ ُأولى خطواتي نحو الشارع، مررتُ بأحد الجسور الذي يقسم المدينة ويربطها بريفها أو بنصفها الآخر،نظرتُ إليه متمنياً ألاّ أتوحّش مثلهم، فقد بدا العابرون كأنهم خرجوا من مصارعةُ، إلاّ أن رجلاً واقفاً في نهاية الجسر شدّني أكثر من الجميع كونه يعدّ على أصابعه وعلى ما يبدو للعشرة فقط ثم يتطلع إلى رؤوس فارغة وجماجم جوفاء مبعثرة بشكل عشوائي على مقدمة الجسر.
بحثتُ عن أشياء تخصني في هذا المكان الغريب، إذ لا أحد يعرفني أو يُشعرني بقيمتي وتريحه هيأتي، لا أدري هل شاخوا أو تعبوا،أم في قلوبهم مرضٌ أدى إلى شحوبهم إلى هذا الحد.
دنت مني عجوز متسوّلة متكئة على عكازها، منثورة الشعر رثة الثياب بدت أسنانها الطويلة الصفراء مثل كوخٍ خربٍ وغابة تعتصر العمر بحرائقها.
وددت لو أعود لذاكرة الصمت وخشبتي السوداء، لكن الحلم الشاسع في عيني عادت له تجلياته، فتساقطت النجوم أرغفة شهيـّة ساخنة أشعرتني بجوعي. امرأة أخرى عبرت الجسر متجهة صوبي يغسلها الرعب ويمتشق الهذيان قامتها المنتصبة، ممتلئة بعض الشيء غير أنها تترنح بدلال مجنون، لم ينقر شبّاك قلبها عصفور، أو يقين سؤال تفتح له بابها، لا أدري هل ضحكت الدنيا عليها أم هي التي ضحكت على الحياة.
وقفتْ أمامي لصيقة كمن لا يروقها وضعي، اقتربت حتى كدت أشم رائحة أنفاسها العطنة، امتلأ الجسر بأجساد عارية، منحنية الرقاب ضائعة لا تعرف وجهتها ، مرَّ رجال سكارى تفوح من أفواههم رائحة خمرت بلعابهم و حمضت أجسادهم، تجشّأ الأكبر سنا بينما الشاب المرافق لهم أسند آخر تطوّح سكراً، لم استطع رؤية الدماء تسيل من صبية صُفر الوجوه حفاة، وضعتُ يديَّ على وجهي متفادياً منظرهم المؤلم، كانوا بُكماً إلا أصغرهم اقترب مني بالكاد يُسمَع صوته وسألني:
- هل ترغب شيئاً؟
- بلى ..أشتهي ..وأرغب.
كأن جوابي لم يعجبه ، لذلك غادر مختوما بغياب روحه وتركني محموماً بفراغ ناصفني لحظتي ولم يدعني أكمل.
لا أستطيع المشي بسرعتهم فحجمي لا يُسعفني. لو لم أقرر الإفلات من يدها لما أصابني العطش، ربّما قرار خاطئ،أو حين ظننتُ أن الفكرة معقولة وممكن تنفيذها، لم أتخيل صدمتها أو ضررها.
يدها صغيرة والإفلات منها سهل، شعرت بدموعها حين بكت فقدي.
في ذهني أفكار وأشياء غريبة تدعني أتساءل: هل أنا أحمق فعلا أم أتخيل؟ هل لي رقبة ورأس وجسد؟
لم يفعل شيئا، يبدو أنه عجز عن النطق، لذا هضم خبزه على مهل، لقمة في فمه، قطعة في يسراه، ثلاث في يمناه، وأنا أستجدي نبلا من الجوع وانتظر.
متى ترك أهله؟ من هم أهله؟هل يعرفه أحد هنا؟
وقفتُ أراقب الوجوه عند أول الجسر لأكون قريبا من القادمين والغادين، أتكاشف معهم، بين وجهي وبينهم ثمة فاصل، رأيت عينين مبتسمتين معلنتين عن نظرة قلقة، ثم غاب الطفل الذي يقضم خبزه على مهل دون أن يتفوّه بكلمة واحدة مما جعلني أتساءل:هل كانت نظرته لئيمة؟ هل هي ضدي أم معي؟
---
يتبع