الله خلق الملايين من الشعراء...
لكنه خلق القليل من الشعر!!!
تشارلز بوكوفسكى
شاعر امريكى 1920-1994

مدخل:
يقول الاديب والشاعر العربى محمد على شمس الدين:
("قال الجاحظ:قال وقال رجل لزياد: أيها الأمير، إن أبينا هلك وإن أخينا غصبنا علي ميراثنا من أبانا، فقال زياد: ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع من ميراث أبيك، فلا رحم الله أباك حيث ترك ابنا مثلك'.
وقال أيضا:
'كان زياد النبطي شديد اللكنة، وكان نحويا، فدعا غلامه ثلاثا، فلما أجابه قال: من لدن دأوتك (أي دعوتك) إلي أن ديتني (أي جئتني) ما كنت تصنأ؟ (أي تصنع)' (عن المحاسن والأضداد للجاحظ"
في هذا الحقل في المحاسن والأضداد التي يوردها الجاحظ، تمنح اللغة حقا في الحق والباطل، في الصواب والخطأ، في استخراج الشيء من ضده، والضد من أصله، أكثر مما توحي بنيتها الخارجية، حتي كأنه"أي اللغة" ميزان قائم فوق العدالة، إذ كيف يضيع حق الرجل صاحب الشكوي، القادم إلي الأمير زياد (ابن ابيه)، بإرثه المغصوب من قبل اخيه، لأنه اخطأ في النحو واللغة، فجر الاسم المنصوب ل.. إن، ونصب الاسم المجرور بحرف الجر "من" ولم يبوء في شكواه إلا بالتوبيخ والتأنيب؟
فهل اللغة السليمة والنحو المستقيم شرطان من شروط احقاق الحق أو وصول المتكلم لحقه؟ وهل اللغة سلطة قائمة فوق مجريات الحياة، وهي فيها، حتي اذا فسدت اللغة فسدت الحياة؟ وإذا صلحت صلحت أيضا، أن يكون زياد النبطي " زياد آخر غير زياد بن ابيه" نحوياانه من وصاحب لكنة.. إذ يقول 'دأوتك' بدلا من 'دعوتك' و'دئتني' بدلا من 'جئتني'، و'تصنأ' بدلا من 'تصنع' إنها بنية تنخر نفسها بنفسها، يتشكل ضدها من أصلها، والجاحظ كاشف عجيب وقديم عن هذه النقائض، فقد حمل منجل 'اللا...' من أكثر من ألف عام، وحصد به حقول اللغة والمجتمع، التاريخ والأساطير، حصادا فنيا وعبقريا مبكرا لا مزيد عليه.1)
هذا المدخل ليس دعوة الى الانفلات من أسر اللغة بقدر ما هو استهلال للموضوع..اى المعنى بتوضيح ادق..
ترى كيف كان ديوان العرب قبل ان يأتى الفراهيدى ؟ اذا تجاهلنا ايقاع الحياة السريع والمستمر، واذا كان الشعر لايستطيع ان يعبر الا عن البئر والرمال والعيون الكواحل فماذا يفعل
حيال هذا التطور؟..
كيف نوجه الاساءة الى لغتنا الام ونصورها على انها عاجزة عن التعبير الا باشكال محددة من الشعر، وكيف يحتسى العربى الآن القهوة ويستعمل السيارة ويركب الطائرة ويدخن السيجارة ، هل يتجاهل هذه الايقاعات عندما يسبح فى الخيال..؟
ما الذى يدفعنا الى ان لانسمى الشعر شعرا ، حتى ولو كان حرا او حديثا او بتفعيلة او مقفى ، رغم انف التباكى على الموازين..( ولااقول المزايدة!!)؟؟.
لست ضد التمسك بالتراث ..واعى ان بعض الذين يكتبون الحداثة ويتموسقون من داخلهم ، يعزفون على اوتار التمرد ليهربوا من مواجهة جهلهم للتراث!!.. واعرف ايضا ان الدفاع عن لاشىء يحيلك الى نص خواء لامعنى له..
الحداثة لاتبرر الجهل وان حولها البعض الى اداة تبرير ،( ذات مرة قال المرحوم على الفزانى: لم اعد استطيع كتابة الشعر التقليدى لكنى افهمه وجربوا ثقافتى) والذى يتعسر عليه قراءة التراث وكتابة الشعر المقفى لايمكن ان يكتب شعرا باشكال اخرى ، ومع هذا لااجد مبررا
( للمتقعرين) من اجل الدفاع المزعوم عن اللغة والشعر وحسب..فالشعر لايكتب لانه شعر فقط ، بل هو موقف من الحياة ومن القضايا التى تهمه ويهتم لها..وكيف لنا ان نفصل بين الشاعـــرا و المتشاعر وبين موقفه ، واذاكان الحكم بان الشعر المقفى هو الشعر وماعداه
ليس بشعر ، فما هو موقف الذين يتباكون على التراث والمواقف القومية والانسانية من الشعر الذى يمجد الحكام وان كانوا طغاة؟؟ فهل يمكن ان نقبل بهذا الشعر لانه مقفى وكفى ؟؟؟
الدخول من بوابة القافية مثل حيلة الام على وليدها عندما تراوغ فى اجوبة على اسئلة محرجة!!.. والدخول من بوابة القافية لاعلان الحقد على الحداثة دون شغل او حوار ، هو عبارة عن تهرب من اسئلة محرجة لطفل تملأ ه الدهشة!! ودفاع خائر عن فضيلة وهمية ، كى يأتى الينا الفراهيدى مرتديا عباءة الرجعية ، ولايستطيع ايا كان مواجهة هذا الارهاب الفكرى لانه يتمسح على اعتاب التراث !!
الشاعر الذى يتحدث عن قضايا الوطن ويعرى اثواب البائعين لاشفاعة له لانـــه لايكتب شعراً مقفى...محمد الشلطامى(2) شاعر منحاز للحرية وضد قهر الانسان لكنـــه{ ياللخسارة} لايكتب شعرا مقفى..ولاتهم ثقافته وموقفه ولايعرف شيئا عن الشعر وقوانينه؟؟!! وامل دنقل وعفيفــى مطــر وسعاد الصبـاح ونـــزار قبانى ومفتــاح العمارى(3) ومحمد الفقيــه صالح(4) وغيرهم ليسوا شعراء لانهم يكفرون بالقافية .. وبهذا يتحول الفراهيدى ومعه كل التــــراث الى حزب سياسى لأن المحتوى( خواء) والشكل هو الموقف!! ومن هنا انطلقت ثورة الشعر الحديث كرد فعل على هذا الوضع الشاذ .. وحتى اشعار آخر سيظل الخليل المجنى عليه موظفا لدى كوادر المتقعرين حتى ينفض عن وجه التراث هذا الغبار..
في قراءة مقارنة جميلة للصادق النيهوم مابين قبانى والشلطامى يكتب النيهوم:
(إن نزار قبانى خو الوجه الاخر للدينار المزيف، اما الشلطامى البسيط فهو يمثل عملة من نوع مختلف ، انه اقدر على الدفاع عن حياتنا واقدر على حمايتنا من موتنا، ان الشلطامى لم يكتب شعرا جميلا لكنه كتب شعرا خاليا من المرض- انه لم يعلن عن بضاعته ن لم يقف في السوق ويلعب دور العاشق ويقول للناس انه يحبهم وانه يموت في حب الانسان ، احب الناس حقا وكتب لهم اشعاره البسيطة وذهب يبحث عن المزيد من الاشعار .. وفيما تبقى اسواق الهوى مفتوحة في الشرق الاوسط امام الشعراء الداعرين الكاذبين وفيما تظل كلمة الحب المقدسة مجرد تذكرة مزيفة لحضور العرض بالمجان يظل الشلطامى وحده شمعة صغيرة مُضاءة بروح الحب حقا 5)
لو قرأت على احدهم قصيدة لشاعــرعرف بتمسحه على اعتاب السلطة لتمايل طربا وقال لك: هذا هو الشعر لانه مقفى !!اما عن مواقفه ، ليــــس مـــن العروبـة فحسب بل مــــن الانسان..لاتجد اجابات شافيه من المتقعرين سوى انه (( لادخل للادب بالسياسة!!)).. فلمـن ننحاز نحن القراء المساكين..لهؤلاء الذين يكتبون شعراً مقفى ، موزونــــــــا تراثـــا ولغـــــة وتقليدا...ونرفض عفيفى مطر لانه لايكتب شعرا موزونا او مفهوما ويتحدث بفلسفة غامضـــة عن الطبيعة احيانا!! .
هنا لاننسى او نتجاهل ان بعض الذين يسبحون فى موجة الحداثة ، انما يتكأون على رفض التراث لمجرد الرفض ويختبأون وراء هذا الرفض لانهم ثقافاتهم ووعيهم لايؤهلهم لمواجهة اى حوار حول التراث وايضا تحت طائلة عسر الفهم يرفضون التراث!! وهذه احدى اسقاطات جسم الحداثه الشعرية من قبل الذين يتعلقون باهدابها هربا من جهلهم ، ولدينـــــــا بمساحــــة الوطــــن مئــــات المتشاعرين على ذات الوتيرة ، بعضهم ينتحل الافكار وبعضهم يعيد الصياغات باشكال عــــدة وسرقات علنية ، والباقى انتحال لنصوص غير عربيه ويرمون هذا على كاهل ما يسمونــــــــه بالتناص!! وهناك وراء هذا الجهل سرقات ما تسمى ظلما بتوارد الخواطر ، وهذا ليس علـــــى صعيـــد الشعر فحســـب بل ايضــــا فى بعــــض الدراســــات والقراءات النقديــــة والروايـــات والمسرحيات..الخ .. ولدى امثلة عدة على هذا الاختلاس الفاضح و بدون طرح اسماء ،منـــها بعض الاعمال القصصية والروايات لكتاب من
الصعب ان تمسهم او يصدق القارىء سرقاتهــم لان الاعلام العربى جعل منهم رموزا وهلامات ونصبهم( بالبروبقاند ) علـــى رأس الابــــداع بالوانــــه واشكاله ومضامينه ..وبعض كتاباتهم عبارة عن سرقات وصياغات لافكار ليست لهم ، حتى تحولت بعض نصوصهم الى نسخ كربونية مشوهة..وهناك امثلة اخرى لاسماء مغمورة ارتدت عباءات النيهوم(6) وادونيس والبياتى ونزار قبانى وغيرهم..ومشكلة هؤلاء الاطفال او النسخ المشوهة انهم يكتبون بانامل هذه القمم الادبيه لكنهم يفقدون موهبتهم فيضيع الاصل وتبقـــــى النسخة مشوهة وركيكة ، كما ان بعض هؤلاء الكبار يتلذذون ويتفاخرون بهذا التماهــــــى المشوه ، و بالرغم من عظمة هذه القمم كانــــوا وراء ضيــــاع اجيال{ دون قصدية } وساهموا على نحو ما فى طرح اساليب الاستسهال الابـــــداعى الممتنع فى التعبير عن قضايـــا كبيرة ومصيريه عربية وانسانية , وهكذا يقع الاطفال فى مأزق العجز عن التعبير او الدفاع عن افكار لم يصنعوها!! ولم يفهموها ، اضافة الى مأزق الموهبه الغائبة عنهم اصلا..
لقد كتب بدر شاكر السياب عن لوركا شعرا حديثا محدثا في زمنه..لكنه ترك اثارا عظيمة فيما بعد بالرغم من عدم التزامه بالقافية..ولكنه كتب عن شاعر عظيم قضى نحبه مقتولا بايدى الفاشية الاسبانية كقوله:
في قلبه تنورْ
النارُ فيه تُطعمُ الجياعْ
والماءُ من جحيمهِ يفورْ:
طوفانهُ يُطهّرُ الأرضَ من الشرورْ
ومقلتاهُ تنسجانِ من لظيً شراعْ
تجمعان من مغازل المطرْ
خيوطه، ومن عيونٍ تقدحُ الشررْ.
ثم دعونا نقرأ لشاعر آخر يكتب الشعر المقفى الموزون والملتزم بالقافية واوزان الخليل في عهد الاحتلال الايطالى الغاشم لليبيا :

هل يمكن الان بهذه المقارنة ان ننحاز لشعر عربى ينحاز لقيم الانسان ونضاله ام ننحاز لشعر يمجد الفاشست لمجرد انه التزم بالقافية واوزان الخليل لانه ( لادخل للسياسة بالادب!!)؟؟ ماذا


يمكن ان نقول في المقارنة بين شعر عفيفى مطر وبين شعر صالح جودت ..الاول مايزال ممسكا بجمر الكلمات والثانى خلع عباءته بعد موت الزعيم... حسنا لادخل للسياسة بالادب..ولكن ماذا بشأن الانسان عندما يكون مقهورا تحت طائلة القمع بينما الشعر يمجد السلطان القاهر له!! فنرقص طربا لمجرد انه شعر خليلى ..
كل هذا لايمنع كون الشعر شعرا نثرا كان او مقفى ، فبعض الحداثة اجمل واروع من بعض التقليدى وايضا بعض التقليدى اعمق من بعض الحداثة ، على صدقى عبد القادر(7)وسليمان العيسى والشلطامى والعمارى وغيرهم انقى من اى شاعر سلطة يكتب المقفى او الحديث..رغم انف الفراهيدى واتباعه والديناصورات التى تقوم من سباتها من آن لآخر وايضا رغم انف التلاميذ والاطفال وكل النسخ المشوهة..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) طيور جاك دريدا على حدائق الجاحظ – محمد على شمس الدين
(2) شاعر ليبى
(3) = = =
(4) = = =
(5) مابين الشلطامى ونزار للصادق النيهوم.
(6) الصادق النيهوم ..
(7) على صدقى عبد القادر شاعر ليبى كبير من الجيل القديم ، لكنه يوصف بشاعر الشباب لاتسام شعره بالعذوبه مع الحداثه وله قصائد ايضاعلى وزن الخليل..