احتفاظ أمريكا بالشيخ عمر .. أسباب وتداعيات
هشام النجار


قبل أن يكون فكُّ أسر الشيخ عمر عبد الرحمن، المسجون بالولايات المتحدة الأمريكية قبل قرابة العقدين، واجبًا وطنيًا مصريًا - خاصة بعد ثورة 25 يناير، باعتباره أحد أقوى وأشرس المعارضين لنظام حسنى مبارك السابق - فهو واجب إسلامي، باعتبار الرجل رمزًا إسلاميًا له تأثيره الروحي الواسع، وباعتباره عالمًا وداعيةً إسلاميًا جاب كثيرًا من أقطار العالم الإسلامي، نضالًا وجهادًا وتثقيفًا وتعليمًا وإصلاحًا ودعوة.
وفى أدبيات الفقه الإسلامي وجوب فكاك أسرى المسلمين باستخدام مختلف الوسائل السلمية المشروعة، وببذل مختلف الجهود، وإنفاق جميع الأموال والممتلكات، وطرق جميع الأبواب المتاحة.
وقد عبر عن ذلك الإمام مالك رحمه الله عندما قال: "يجب على الناس افتداء أسراهم وإن استغرق ذلك جميع أموالهم".
وإلى جانب البعد الوطني المصري، بالنظر إلى دور الشيخ عمر المبكر في بث الوعي الثوري ضد طغيان مبارك وزبانيته.
وإلى جانب أيضًا البعد الإسلامي بما يمثله الرجل من قيمة علمية، زادها تفردًا بين أقرانه أنه يدخل في زمرة العلماء الذين عملوا وجاهدوا الطغيان والظلم بما يحملونه من علم، فلم يرضخ للمزايدات والمساومات، ولم يضعف أمام باهر العطايا والمزايا، ولم يتهاون برغم سلسلة الملاحقات والاعتقالات والمضايقات وفرض الإقامة الجبرية وعزله عن جماهيره، ولم يسلك مسلك غيره كواعظ تقليدي على المنابر، ولم يقنع بعمله الأكاديمي الجامعي، إنما دفعه إباؤه ورفضه للظلم والفساد والديكتاتورية أن يجاهد وأن يعلو صوته في زمن الصمت، مطالبًا بالحرية والتغيير، وأن يبث في الناس - بما يملكه من مكانة وتأثير عليهم- روح النضال والثورة، قبل أن يتحركوا فعليًا في المواجهة الملحمية الحاسمة في وجه الطاغية بأكثر من ربع قرن من الزمان.
إلى جانب هذين البعدين فهناك البعد الإنساني في القضية؛ فالرجل ليس شخصًا عاديًا في وطنه، إنما يشغل مكانة اجتماعية وعلمية مرموقة، وهو أستاذ جامعي في أكبر وأعرق الجامعات الإسلامية في العالم، وهو داعية وعالم إسلامي كبير، ويتمتع بجماهيرية واسعة، وله تلامذته ومحبوه ومريدوه في مصر والعالم كله. ورغم ذلك تصر أمريكا على إهانة هذه الرمزية العالية التي يمثلها الرجل.
ومن البديهي أن عظم الإهانة يترتب على عظم المكانة، لذلك كان من السهولة إدراك مدى قسوة الإهانة التي توجهها أمريكا إلى المسلمين في شخص الشيخ عمر عبد الرحمن، إذا افترضنا أن ما فعلته أمريكا بالعالم المصري قد حدث مثيله لأحد الرهبان أو القساوسة أو أحد حاخامات اليهود.
فهل تجرؤ الولايات المتحدة الأمريكية أو أية دولة أخرى في العالم على احتجاز رمز ديني من أية ديانة أخرى غير الإسلام طوال هذه السنوات في سجن انفرادي، وهو كفيف البصر، ومريض بأمراض مزمنة، وشيخ مسن، في ظل ظروف إنسانية بالغة السوء؟
مع الوضع في الاعتبار أن الدكتور عمر كان قد خرج من مصر، فارًا من الاضطهاد، ظانًا أنه سيجد في أمريكا الملاذ الآمن، وسيعيش متمتعًا بكرامته الإنسانية وحريته في بلاد تدعى أنها تحمي وتدافع عن حقوق الإنسان.
فإذ به يتعرض لمؤامرة خسيسة، لم تخن أمريكا بمقتضاها عقد الأمان الذي أعطته إياه بوثيقة السفر فحسب، إنما تعاونت مع نظام مبارك القمعي الفاسد في صفقة كان ضحيتها هذا الرمز الإسلامي الكبير، الذي أُريد لصوته الثائر أن يبقى حبيسًا مدى الحياة، في مقابل مزيد من الخنوع والاستسلام والتبعية المصرية للإرادة الأمريكية.
أمَا وقد سقط نظام مبارك الخانع إثر ثورة المصريين عليه، وانتصر الشيخ عمر المحرض الأول على الثورة، بما يشبه المعجزة، وهو داخل زنزانة في قلب سجن أمريكي بعد سنوات طوال، فما الذي يمنع أمريكا من إطلاق سراح الرجل، بما يحمله هذا الإجراء من مكاسب سياسية ظاهرة، ولكسب تعاطف طالما عملت أمريكا على استجدائه من قطاعات واسعة من المصريين والمسلمين في أنحاء العالم؟
السبب الأول الذي يجعل أمريكا تواصل سلوكها القمعي اللا إنساني، وتستمر في سجن ذلك العالم الإسلامي الكبير، هو أنها تعول ابتداءً على نجاح مساعيها الحثيثة في إجهاض الثورة في مصر، وعدم السماح بإحداث تغيير جذري ملموس في بنية النظام السياسي المصري، ليتوقف التغيير عند هذا الحد بإزاحة مبارك وعائلته وكبار معاونيه وإجهاض ملف التوريث، دون تغيير حقيق في جوهر فلسفة الحكم السابق، بما لا يتيح إمكانية إنجاح عملية تحول مصر إلى دولة ديمقراطية حرة، لها قرارها السياسي المستقل، المستمد من قوة الشارع لا من سلطة الحاكم.
والسبب الثاني أن أمريكا دولة مصالح، وسياستها تتغير وتتمحور حول المنفعة الاقتصادية قبل أي شيء آخر، يلخص هذه الفلسفة الميكيافيللية رئيس شركة جنرال موتورز الأمريكية، التي شاركت مع شركة فورد في دعم حكومة هتلر في الحرب العالمية الثانية، حيث صنعت للنظام النازي، الذي كانت الولايات المتحدة خصمًا له في الحرب، حوالي 50% من محركات الطائرات المتقدمة، ومن المفارقات العجيبة أن تحصل الشركة الأمريكية على تعويض مادي كبير من الإدارة الأمريكية قدره 33 مليون دولار لقيام الطائرات الأمريكية بتدمير مصانع الشركة في ألمانيا أثناء الحرب.. يقول رئيس هذه الشركة في تلخيص بليغ لتلك الفلسفة النفعية: "ما هو جيد لجنرال موتورز فهو جيد لأمريكا".
ومعمر القذافى لم ينجح في إطلاق سراح المتهم الأساسي في تفجير لوكيربى عبد الباسط المقرحي، إلا بعد صفقة كبيرة أرضت وأشبعت الإدارة الأمريكية وعائلات الضحايا، بصرف النظر عن أغراض القذافى وتلوناته وممارساته المشبوهة في الخارج والداخل طوال فترة حكمه، وبصرف النظر عن مدى تورط الأسير الليبي في قضية تفجير الطائرة الأمريكية من عدمه، وما إذا كان الرجل يقضي عقوبة حكم بها ضده القضاء أم لا، وبصرف النظر عن المكاسب الشعبية والسياسية التي سيحققها القذافى بعد إنجاح الصفقة على حساب الموقف الأمريكي، فالمهم أن أمريكا لا تفهم إلا لغة المصالح والصفقات، ولا تعطي شيئًا إلا بمقابل.
وفى حالة الشيخ الدكتور عمر عبد الرحمن، فأمريكا تشعر بأنها تملك كنزًا ثمينًا ورمزًا إسلاميًا كبيرًا، وتدرك جيدًا أنها ستفوز مقابل إطلاقه بجائزة كبيرة، وبفدية باهظة الثمن.
وعلى صعيد الجهود المبذولة من الجانب الإسلامي والمصري؛ فعائلة الشيخ ومحبوه وتلامذته وأطياف التيار الإسلامي والمناصرون لقضيته من مختلف الفصائل والتيارات يفعلون كل ما بوسعهم، لكنهم لا يملكون بالطبع أكثر من الاحتجاج والمطالبة بإطلاق سراحه وعقد المؤتمرات والندوات والاعتصام المستمر أمام السفارة الأمريكية، وهذا جيد في اتجاه تعريف العالم وتذكيره بقضية الشيخ عمر، وإحراج الإدارة الأمريكية والمصرية الحالية، ولكنه ليس بالشيء الجيد وفق الفلسفة النفعية الأمريكية.
وهى محاولات مطلوبة لنصرة قضية الشيخ، والضغط في اتجاه تحريكها، إلا أنني أراها غير مجدية لإقناع الجانب الأمريكي، فهي لا تكفي وحدها لإحداث ضغط حقيقي على الإدارة الأمريكية، خاصة وأن الجهود والمبادرات، سواء على المستوى المصري أو العربي والإسلامي، لم تتعد المناشدات والمبادرات، ولم تصل بعد لمستوى الصفقة مع دولة لا تؤمن إلا بفلسفة الصفقات، وتبادل المصالح، وبما يعود عليها بمصلحة ومنفعة مادية ملموسة.
والسبب الثالث أن أمريكا اليوم في ظل رئاسة أوباما توازن بين أمرين، الأول تحسين صورتها السيئة في العالم الإسلامي، والثاني إرضاء الشعب الأمريكي الناقم على الأوضاع الاقتصادية المتردية، وعلى تراجع وارتخاء القوة الأمريكية في معظم محاور السياسة الخارجية؛ ففي ظل الضعف الأمريكي على المحور الإيراني العراقي، وعلى المحور الأفغاني، وعلى محور التأثير في ثورات الربيع العربي، تجاهد الولايات المتحدة من أجل إحراز انتصارات ولو وهمية، تعيد للشعب الأمريكي بعض الثقة بإدارته، وتنعش لديه الشعور بالفخر الأمريكي.
وصبت عملية قتل الشيخ أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، في هذا الاتجاه، كما ترى أمريكا استمرار حبسها للشيخ عمر عبد الرحمن خادمًا لتلك الرؤية ؛ فهي ترى في مجرد وجود رمز إسلامي بهذا الحجم في سجونها انتصارًا لها ودعمًا لشعبية الإدارة الحالية، ويبدو أن تلك الكفة رجحت على كفة إحراز تقدم في اتجاه تحسين علاقات أمريكا مع العالم الإسلامي، التي سيكون إطلاق سراح الشيخ عمر هو الخطوة المؤثرة في تحقيقها.
السبب الرابع، أن أمريكا أعلنت مرارًا على ألسنة قادتها حتى العسكريين منهم أنها تخوض حربًا فكرية مع تيار الإسلام السياسي، الذي يعتبر الدكتور عمر أحد أهم رموزه الكبيرة، فعلى سبيل المثال لا يمكن نسيان ما أدلى به جورج دبليو بوش من تصريحات شهيرة في هذا الشأن، وقد أدلى دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي السابق، بتصريح شديد الوضوح في حوار له مع صحيفة الواشنطن بوست عام 2006م، قال فيه: "نحن نخوض حرب أفكار مثلما نخوض حربًا عسكرية، ونؤمن إيمانًا قويًا بأن أفكارنا لا مثيل لها".
إنها حرب لا هوادة فيها، تخوضها أمريكا منذ أكثر من عقدين مع الإسلام السياسي على محاور عدة، عسكرية وثقافية وإعلامية وفكرية، وهي حرب لم تنته، ولم تهدأ بإطلالة وجه أوباما بتصريحاته الناعمة وخطاباته المغلفة بعبارات الاحترام للإسلام والعالم الإسلامي، بديلًا عن وجه جورج دبليو بوش وتصريحاته النارية المشبعة حقدًا وكراهية.
وأمريكا على طريق هذه المواجهة الطويل تميل على الدوام إلى الاختيارات التي ترجح كفة مصلحتها، وتجعلها تحرز علامات التفوق والتقدم، وهي تدرك تمامًا أن إطلاق سراح الشيخ عمر عبد الرحمن سيسجل على أنه نصر كبير للإسلام السياسي، وسيحسب نقطة تفوق، وقفزة إنجاز ضخمة للإسلاميين، الذين تناصبهم أمريكا العداء.
فضلًا عن كونه انتصارًا كبيرًا للثورة المصرية، يصب في خدمة بعدها وعمقها الإسلامي، وأمريكا لا يسرها أن تحرز الثورة المصرية مزيدًا من التقدم، ويغيظها أن يكون التقدم في اتجاه الخط الإسلامي، الذي من شأنه ترسيخ قدم أحد الرموز الإسلامية الكبيرة في أرضية الثورة، بما قد يتيح على المدى المنظور تحقيق مكاسب سياسية ضخمة في أوساطها، مع النظر إلى افتقاد الثورة لقيادة رمزية وروحية كبيرة فاعلة ومؤثرة.
والأمريكان، قادة وشعبًا، لا تغيب عن مخيلتهم أدبيات الثورة الإيرانية، التي خلقت نظامًا إيرانيًا منافسًا للغرب، بعد أن ظل طوال حكم الشاه محمد رضا بهلوى مواليًا للغرب، وتابعًا للإرادة الأمريكية، وبالتالي فهي تخشى أن تكون عودة الشيخ عمر إلى مصر بعد الثورة المصرية، نموذجًا مشابهًا لعودة الخميني من منفاه، خاصة إذا قرر أن يلعب دورًا سياسيًا في مرحلة ما بعد مبارك، ساعتها سيكون رقمًا صعبًا في المعادلة المصرية، بالنظر إلى شدة مراسه وجماهيريته الواسعة، وشخصيته القوية التي تتمتع بقدر كبير من التحدي والصلابة في ظل أقسى الضغوط وأحرج المواقف.
أما السبب الخامس الذي يجعل أمريكا بهذه السلبية فيما يخص ملف إطلاق سراح الشيخ عمر عبد الرحمن، فأمريكا تلاحق بالكاد تطورات الأحداث المتسارعة في بلاد المشرق الإسلامي وهي تلهث، وبخاصة ما يحدث في مصر، التي كانت بالأمس القريب أهم حليف استراتيجي لها في الشرق الأوسط، في ظل حكم حسنى مبارك.
وأمريكا من جهة لا تتمنى وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في مصر بما يؤثر على مستقبل العلاقة الأمريكية المصرية، فالإسلاميون يرفضون التبعية المطلقة لإرادة القوى الخارجية، ويسعون لإحداث توازن في علاقات مصر الخارجية، بما يدعم الندية واستقلالية القرار المصري، وهو ما تتخوف أمريكا بشأنه، خاصة فيما يتعلق بملفات أمن إسرائيل وتفوقها العسكري النوعي، وملف الحرب على الإرهاب، الذي تتخذه أمريكا ذريعة في المواجهة الممتدة بينها وبين تيارات الإسلام السياسي، وكذلك ملف حركات المقاومة الإسلامية المسلحة، وإمكانية دعمها من عدمه، وفي مقدمتها حماس في فلسطين وطالبان في أفغانستان، وأيضًا ملف التدخل الأمريكي في شئون الدول الإسلامية الداخلية، في اتجاه خدمة التيار التغريبي، وتهميش الثقافة الإسلامية، وإضعاف الانتماء العربي.
ومن جهة أخرى، فأمريكا التي تسعى بقوة في عرقلة المشروع الديمقراطي والدولة المستقلة في مصر بعد الثورة، تترقب في مرحلة تحكمها المفاجآت، فمن غير المستبعد وصول الإسلاميين إلى السلطة بشكل طبيعي وبإجماع شعبي وتأييد عالمي، عن طريق انتخابات ديمقراطية حرة، لا تملك معها أمريكا إلا التعامل مع اختيار الشعب المصري كأمر واقع. ولذلك فهي لا تعمد إلى العجلة فيما يخص ملفات معينة تشتبك مع الحالة الإسلامية، على رأسها ملف الشيخ عمر عبد الرحمن. وهنا توازن أمريكا بين إطلاق سراح الشيخ في المرحلة الانتقالية، حيث لا عائد ملموس ولا استفادة كبيرة من الناحية السياسية، بالمقارنة بإطلاقه مستقبلًا في إطار تفاهم بينها وبين الحكومة المصرية القادمة، التي من المنتظر أن يلعب فيها الإسلاميون دورًا ما.
أمريكا خسرت الكثير في الفترة الأخيرة، وهي لا تريد أن تخسر أكثر، وتجتهد في ادخار وتجميع أوراق تلعب بها في الفترة المقبلة. وهي أولًا وأخيرًا لا تريد أن تفقد الكثير من حضورها، أو أن يطرأ تهديد كبير لمصالحها في حال وصول الإسلاميين للسلطة.
منقول من الاسلام اليوم