هبة!



ـــ 1 ـــ

لم يصدّق المهاجر الغينيّ الشابّ موسى إسحق بابا صديقته النرويجية الفاتنة بياتا لينستاد حين أخبرته بأن في إمكانه الحصول ــ و بصفة مجّانية ــ على درّاجة جيّدة و صالحة للإستعمال، إلاّ حين فتحت له الأنترنيت على موقع فين دوت. آن أو Finn.no ..
أضافت بياتا لينساد وهي تغادر موسى إسحاق بابا منكبا على الحاسوب لتجهيز قهوتها الصباحية:
ــ كل ما عليك القيام به هو الإتصال بصاحب الدراجة المعروضة للهبة ثم تحديد موعد الإلتقاء به لتتمّ عمليّتا التسليم و الشكر!

فور نقر موسى إسحاق بابا على خانة "أثاث منزلي"، طالعه سرير ملكيّ يتسّع لأكثرمن شخصين.. همّ موسى إسحاق بابا بسؤال صديقته النرويجية بياتا لينستاد عن إمكانية استبدال السرير المعروض بسريرها الضيق، حين اتضح لموسى اسحاق بابا، أنّ واهب السرير الملكيّ، يسكن في منطقة "باروم" النائية، ممّا سيكلّفاهما الكثير من المال و الجهد لجلبه الى " تاين" حيث يسكنان.

هرش موسى اسحاق بابا شعره الأكرت، ثم صاح متأسفا" آه لو كانت الأسرّة.." توقف موسى إسحاق بابا قليلا ثم تابع مستدركا" آه لو كانت الأسرّة.. مهما كان قدمها.. ومهما بلغت رداءتها، توزّع في غينيا مجّانا و بكل هذا الكرم المريع، ما قاطع والدي أخاه موسى لأكثر من عشر سنين، و ما حرمت بالتالي من أي داع للتردّد على بيته و الأنس بصحبة ابنته الفاتنة خديجة!"..
لم ينتظر موسى إسحق بابا تعليقا من صديقته بياتا لينستاد التي كانت منهمكة في ملء سخان الماء، حين أتمّ متأسّفا:
ــ فقد أشتدّ النزاع بين أبي و عمّي موسى ــ بالمناسبة هو الذي
سمّاني أبي باسمه قبل حادثة السرير بسنتين ــ حول من تؤول إليه ملكيّة سرير حديديّ رخيص كان قد سلم من التلف بعد حريق بيت جدّتي القصبيّ بكلّ محتوياته.. عدّل موسى إسحاق بابا من جلسته ثم أضاف ــ و لكن بلهجة مرحة ــ " نعم بكل محتوياته، بما في ذلك جدّتي المسكينة.. رحمها الله! "
اكتفت بياتا لينستاد بقول"محزن جدّا" مقتضب تعليقا على حادثة مؤلمة تطرق سمعها للمرّة الثالثة، و إن لم يرد ذكر سرير حديدي و لا حتى خديجة في كلّ من الروايتين السابقتين.

كانت بياتا لينستاد تبحث عن ملعقة نظيفة حين صاح موسى اسحاق بابا:
ـــ بياتا .. بياتا تعالي بحق الله و المسيح... تعالى بسرعة!
حين اقتربت منه بياتا لينستاد حاملة علبة نسكافيه لم تفتح بعد، صاح موسى اسحاق بابا مندهشا:
ـــ تأمّلي جمال هذه الخزانة الفاخرة.
حالما ولته بياتا لينستاد ظهرها بعد إلقاء نظرة مجاملة على خزانة لا تحتاجها، حتى صاح موسى إسحاق بابا متوجعا " يا لقسوة الأقدار!"
سألت بياتا لينستاد و هي تسكب ماء ساخنا في كوب أبيض عليه صورة بابا نوال:
ــ لم كل هذا الصراخ؟
ـــ ...
ـــ ماذا حدث بحقّ السماء؟
صاح موسى اسحاق بابا باشد من صياحه الأول:
ـــ لو كانت مثل هذه الخزانة..
سكت موسى اسحاق بابا قليلا ثم تابع مستدركا " لا ..لا.. بل لو كانت أقل من هاته الخزانة قيمة و منظرا، توزّع مجّانا في غينيا .. لما طلـّقت جارتنا البائسة فاطمة الزهراء و لمّا تشرّد أولادها السبعة بعد إقدامها دون مشورة زوجها ــ وهذا ما أغضبه في حقيقة الأمر ـ على حرق خزانة نخرة قد أتخذها البقّ معسكرا له، و لكانت المسكينة قد أرضت زوجها اللّعين بخزانة أنفع و أجمل منها بكثير كانت ستجدها معروضة في انتظارها، و بشكل مجّاني طبعا في موقع finn. gr
سألت بياتا مستغربة:
ـــ finn دوت ماذا؟
أجاب موسى اسحاق بابا بلهجة مرحة:
ـــ finn دوت جي آر!
ـــ بمعنى؟
ـــ بمعني النهر الأخضر..
ـــ ...؟!
ـــ أحد أحياء غينيا القصديريّة!

كانت بياتا لينستاد تتخذ لها مكانا بجوار صديقها الغينيّ الشابّ، حين صاح الأخير من هول الإكتشاف" وهذا فرن غازي جيّد يصلح لعشر سنين قادمة.. سكت موسى اسحاق بابا قليلا، أطلق زفيرا حادا، ثم أضاف متحسّرا" لو ظفر رفيق دراستي ابراهيم سادات بمن تبرّع له بسرير عتيق، و خزانة أكل نصفها السوس، و فرن غازي و لو بعين واحدة..
صكّ موسى إسحاق بابا وجهه ثم أضاف متوجّعا:
ـــ لو وجد ابراهيم سادات من تبرّع له بتلك الخدمات الحيويّة، لما أقدم المسكين ــ وهذا أمر حتميّ ــ على شنق نفسه و هو في سنّ الخامسة و العشرين، عجزا عن تأثيث بيت زوجيّة لن يفتح أبدا!"

ــــ 2 ــــ


كانت السيدة كاري تورسن قد فرغت من تناول غدائها، حين رنّ جرس شقتها الكائنة في منطقة "هلسفير"، حالما فتحت الباب، طالعها وجه زنجيّ ودود.. كان الشاب الغينيّ موسى إسحاق بابا يفتشّ في معجمه النرويجي الشديد الفقر، عن التحيّة المناسبة، حين بادرته العجوز النرويجية متهلّلة:
ــ مرحبا مرحبا..
أضافت العجوز سائلة بوجه مشرق زادت ابتسامته اتساعا:
ـــ أنت من اتصل بي مساء أمس.
ـــ أجل يا سيدتي.
ـــ أنت موسى اذا؟
ـــ أجل يا سيدتي أنا هو.
ـــ تفضل بالدخول.
ـــ شكرا سيدتي
ـــ لا داعي لخلع حذائك
ـــ لك الشكر مجدّدا
ـــ قلت لي أنك من غينيا؟
ـــ أجل يا سيدتي.
ــ لقد سبق لي ان زرت النيجر في مناسبتين سعيدتين
ـــ حقا؟
ـــ كان بلدا جميلا.
ـــ أوه .. شكرا على المجاملة!
ـــ استرح قليلا ريثما اتصل بولدي كارل
ـــ ألف شكر
ما ان ولته ظهرها حتى عادت العجوز النرويجية تقول بلهجة ودودة:
ـــ اعذرني يا بني
ـــ ...
ـــ نسيت أن أسألك
ـــ ...
ـــ هل ترغب في قهوة أو في شيء من عصر التوت البريّ السّاخن؟
بعد ان سكبت له قهوة ، استأذنه لتناول هاتف ثابت .. استغرقت
السيدة كاري تورسن في مكالمة هاتفية سرعان ما انهتها بنزع سلك الهاتف من مجاله، مبرّرة ذلك ــ وقد تفطنت الى تتبع الشاب الغيني لها ــ بأنها تحتاج الى ساعتي نوم إضافيتين لا يقطعهما رنّات آلة مزعجة ثم قائلة ببهجة لا تخفى:
ـــ أنت جدّ محظوظ يا سيد موسى .
تساءل موسى إسحاق بابا بين رشفتين من عصر التوت البريّ السّاخن:
ـــ كيف؟
ــ لقد كدت ترجع من عندي بلا دراجة.
ـــ لم أفهم ماذا تقصدين؟
ردت السيدة كاري تورسن شارحة، فيما كانت تتخذ لها مكانا بجواره:
ـــ حين وعدتك بالدراجة، كنت قد نسيت تماما انني قد وهبتها إلى شاب سيريلنكيّ ظريف قد سبقك إليها بيومين.
ـــ ...
ـــ كما نسيت قبل ذلك إزالة إعلان التبرّع الذي ظلّ مثبتا طوال يومين كاملين... هكذا دون جدوى، في موقع finn.no
علق موسى إسحاق بابا محاولا تهوين الأمر على عجوز يبدو انها شديدة الطيبة:
ـــ أرجوك يا سيدتي الكريمة لا تحملي همّا.
ـــ ...
ـــ فلا يمكن لإنسان أخذ ما لم يكتب له.
قهقه موسى اسحاق باب مضيفا بلهجة مرحة حرص على أن تكون أشدّ لا مبالاة:
ـــ هكذا نردّد في غينيا.
كان موسى إسحاق بابا يستمتع برشفة أخرى من عصيرالتوت البرّي السّاخن، استعدادا لتشكيل سؤاله خلاصته "كيف أكون محظوظا يا سيدتي، و قد ضاعت منّى دراجّة مجّانية؟" حين دنت منه كاري تورسن واضعة كفا حانية على كتفه، قائلة بلهجة أقرب ما تكون إلى همس المحبّين:
ـــ لأجل ذلك سأهبك بدلا عن دراجتى العتيقة، دراجّة شبه جديدة لولدي كارل.
رد موسى اسحاق بابا معترضا وقد داهمه خجل مروّع:
ـــ كلاّ سيدتي كلا ّ ثم..
قاطعته العجوز ممسكة بكلتا يديه:
ـــ لا داعي للإعتراض
ـــ ...
ـــ خصوصا وقد أستشرت ولدي كارل فأذن لي بذلك.
ـــ و لكنّ..
قاطعته العجوز ثانية:
ــ كل ما أرجوه الآن هو أن تنال الدراجة البديلة إعجابك و تحوز رضاك !


قبل أن يغادر موسى إسحق بابا شقة السيدة كاري تورسن حدثته الأخيرة ــ و كانت فيما مضى من زمنها الأوّل جرّاحة محاظرة في جامعة أوسلو ــ عن المخّ البشريّ و تركيبته المعقدة و اعجازه الإلهي المبهر، وكيف تشكّل الذاكرة بما تحتوي من تجارب بشرية مروّعة و ذكريات مؤلمة و فواجع شخصيّة تستعصي عن المحو، أفظع وأبشع و سيلة تعذيب عرفتها البشرية
في كلّ أطوارها، كما أفاضت في الحديث عن النسيان و فضيلة النسيان، و كيف يكون النسيان ــ و في حالات كثيرة ــ نعمة إلهية محضة، (هنا قاطعها موسى إسحاق بابا ليضرب لها حادثة انتفاعه بنسيانها التبرّع بدراجتها لشاب سيرلينكي لطيف، مثلا عن تلك النعم! ــ كما عبّرت له كاري تورسن و بكثير من الأسى عن حزنها الشديد لإصابة شقيقتها الكبرى بزهايمر لعين ــ و ان كان يعتادها بين الحين و الحين ــ قد أنساها أسماء أبنائها و مواعيد تناول دوائها.. في المقابل روى لها موسى إسحاق بابا بغير قليل من المرح عن ذلك الأستاذ الشهير الذي أضطرّ و هو في طريقه الى الجامعة الى التوقف عكس إتجاه الريح في محاولة لإشعال غليونه، لكنه استمرّ يغذّ السير في نفس الإتجاه ليجد نفسه و بعد عشرين دقيقة من المشي المتواصل أمام بيته! كما حدثته بدورها ــ و في معرض إشفاقها من مصير مماثل لشقيقتها ــ عن أستاذ رياضيّات شهير كان قد دوّن عنوان بيته الجديد على قصاصة سلّمها فيما بعد الى تلميذ له صادفه في الطريق بعد استغلال قفا تلك القصاصة لشرح معادلة رياضية ممّا دفع بذلك الأستاذ الى الرجوع الى بيته القديم حيث وجد شابا ــ نسي اسمه ايضا ــ في انتظاره هناك ليعينه ــ بتوصية من أمّه ــ على إرشاد الوالد إلى مكان البيت الجديد!

ــــ 3 ــــ

كان الشاب الغينيّ موسى اسحاق بابا و هو يطوي الأرض، و باستمتاع أقلّ بجولته الأولى على متن دراجته الفارهة
مشيّعا ــ و منذ الأمتار الأولى ــ بذهول شابين يافعين، ثم متبوعا ــ بعد ذلك بمسافة قصيرة ــ ببهتة فتاة صاعقة الجمال، تلاها وقوف كهل نرويجي متعجبا من أمر لم يجد له موسى إسحاق بابا دافعا ولا سببا مقنعا، أقول كان الشاب الغيني موسى اسحاق بابا يطوي الأرض بمركوبه الجديد، حين حاذته سيارة شرطة تولّى أحد طاقمها إخراج يده مشيرا إليه بالتوقف... لم يجد موسى اسحاق بابا أي مبرّر معقول لتوقيفه للمرّة الثالثة على التوالي، فقد كان يسير في الطريق المهيّأة لسير الدراجات ثم انه كان، و على غير عادة المهاجرين، و كأيّ مواطن نرويجي حريص على حياة مرفهة يحظى بمتعها بالطول و العرض، و كما تقتضي أصول السياقة الآمنة، يعتمر خوذة تابعة لطاقم الدرّاجة.

في المرّة الأولى لإيقافه، استجاب الشرطي ( و كان على قدر كبير من الصبر) بعد عجز موسى إسحاق بابا عن الإستظهار بهاتف المحسنة كاري تورسن ـــ الذي عثر عليه بعد انصراف الشرطي! ـــ الى رغبة موسى بابا اسحاق في استعمال حاسوبه الدقيق الملحق بهاتفه النقال، لإرشاد عون الأمن الى صفحة finn.no و بالتحديد الى صورة الدراجة المعروضة للهبة و التي تطابقت نوعيتها مع دراجته المهداة و قد قام الشرطي بالبحث عن رقم الهاتف الجوال لكارل توريسن نجل السيدة كاري تورسن للتحقق من مصداقية موسى بابا إسحاق، قبل إطلاق سراحه.

في المرّة الثانية لإيقافه، ظلّ موسى إسحاق بابا مسمّرا كشماعة، في إنتظار فراغ شرطي ثان كان دون زميله صبرا، من إجراء مكالمات طويلة و متعدّدة دفعت بموسى إسحاق بابا الى الإنفجار في وجه الشرطي سائلا إيّاه عمّا اذا كانت هناك علاقة وطيدة بين سواد بشرته و توالي إيقافه!..كان موسى إسحاق بابا ينتظر جوابا شافيا، حين مرّت أمامهما نفس الدورية التي أوقفته في المرة الأولى، لأجل ذلك تمّ تسريحه فور قيام الشرطيّ الأوّل بتوضيح المسألة.

حلما انتصب أمامه، بادره عون الأمن الثالث بعنجهيّة و سوء أدب لا يليقان بغير شرطي إفريقيّ أو عربيّ، و بفظاظة لا يلجأ إليها قط ــ و مهما تنوّعت مخالفاتهم ــ مع السكان الأصليين:
ـــ ناولني بطاقة هويتك.

كان موسى إسحاق بابا أعقل من أن يبحث عن مشاكل إضافية لأجل لذلك سلّم هويّة تطلع إليها الشرطي باستياء ظاهر ثم سأله متهما:
ـــ من أين استوليت على هاته الدّراجة؟
أجاب موسى اسحاق بابا دون أن يملك نفسه:
ـــ انها هبة من انسان حقيقيّ جدير بالإحترام.
ردّ عليه الشرطي بسخرية:
ـــ لعلك تقصد غنيمة من انسان جدير بأن يسرق.
أجاب موسى أسحاق بابا معارضا:
ــ بل هي منحة كما قلت لك.
ابتسم الشرطي باستهزاء قبل أن ينتزع و بكثير من الفظاظة، مقودي الدراجة من بين يدي مخاطبه، آمرا موسى إسحاق بابا بإشارة مهينة من يده بالتأخّر عنه.. كان موسى أسحاق بابا يراقبه بدهشة، حين رفع الشرطي الدراجة عاليا جاعلا عاليها سافلها قبل أن يعتمد في تثبيتها على المقودين و الكرسي، بعد ذلك انحنى مبديا تأففه، مدنيا رأسه من دائرة السلسلة و الدواستين مزيحا بظفر سبابته النرويجيّة الحمراء طبقة رقيقة من غبار و زيت متراكمين حتى استطاع الكشف عن مستطيل أسود ظهرت من بين أضلعه حروف و أرقام تتابع ظهورها بفعل الحكّ، حتى تجاوزت العشرين، بعد ذلك ألقى الشرطي نظرة ازدراء مشحونة بالوعيد في اتجاه موسى إسحاق بابا قبل أن يهرع الى سيارته مستلاّ حاسوبا في حجم كتاب جيب ثم منحنيا ثانية، ناقلا سلسلة الحروف و الأرقام الى جهازه الحكومي... بعد فراغه من تأمّل نتيجة بحث و إستقصاء لم يحظيا لديه بالقبول، سأل الشرطي الذي ساءه عدم وجود مبلّغ عن سرقة درّاجة ثمينة كلّفه الكشف عن رقمها جهدا كبيرا:
ــ هيا اخبرني ايها الشيء الأسود من أين استوليت على هذه الدراجة الثمينة؟
أثار تسميته بالشيء الأسود استياء موسى اسحق بابا الذي كان قد انخرط منذ اقل من أسبوعين في جدال طويل وصاخب عن مآل التمييز العنصري في بلد متناقض التناول لمسألة فارق اللون كالنرويج، ففي حين تشبّث مواطنه كامارا إبراهيم كامارا بقناعة مفادها أنّ منسوب العنصريّة في النرويج في تصاعد مستمرّ،خصوصا بعد منع جوزيف مواباJoseph Moiba القسّ النرويجي الجنسيّة، الأفريقيّ الأصل، الأسود البشرة و بطرقة مهينة من إتمام مراسم دفن مواطن نرويجي كان قد شرع في اجرائها في كنيسة "أوب دال" بحجة سواد لونه، تمسّك موسى اسحاق بابا بقناعة مفادها أنّ نجم العنصرية في طريق الأفول، و دليل ذلك، تكريم النرويج لبني جلدته عبر السّماح لهم بخلاط أشد بناتهم فـتنة، و أن تمّ ذلك باعتبار السود فرسان فرش لا يجارون، بفعل ما حباهم الخالق من بنية تحتية تعجز ذكران العالمين على الإتيان بمعشارها!
ــ ردّ عليّ ايها الشيء الأسود!
ـــ ...
ـــ من أين أستوليت على هذه الدرّاجة؟
ـــ ...
ـــ ثم ــ وهذا الأهمّ ــ أين دفنت جثة صاحبها؟
أجاب موسى اسحق بابا و هو يجهد نفسه بتفتش جيوبه عن رقم هاتف كاري تورسن
ـــ قلت لك انها هبة من سيدة نرويجية محسنة.
تناول الشرطي قصاصة أمده بها موسى اسحاق بابا كئيب قد كست وجهه بوادر كرب متصاعد فور تذكّره فصل السيدة كاري تورسن الحرارة عن هاتفها الثابت.. لم يحتج الشرطي الى محاولة إتصال ثانية فقد كفته الأولى برهانا للتأكّد من كذب موسى اسحاق بابا.لأجل ذلك سارع بقلب يتحرّق حقدا، لسبب عنصريّ و آخر سنعرفه بعد سطور، الى وضع قيد ــ تعمّد التضييق في دائرته ــ في كلتا يديّ اللص الأثيم، موسى إسحاق بابا!



ــــ 4 ــــ


من حسن حظ الشاب الغينيّ موسى إسحاق بابا، أنه قد شوهد إتفاقا( و لكن ليس قبل ليلة حجز رهيبة قضاها موقوفا على أرضية حجرية شديدة البرودة) من قبل صديقه و مواطنه الغيني سادات جيلاني كبيرو فيما كان صاحبنا يساق مكبّلا بقيوده أمام المقرّ الرئيسي للشرطة في"غرين لاند"، لإجراء أوّل تحقيق
رسميّ معه، مما دفع بذلك المواطن و الصديق الى إخبار بياتا لينستاد صديقة موسى إسحاق بابا ــ التي اتصلت هاتفيا بسادات
جيلاني كبيرو لأكثر من عشر مرات في غضون أربع و عشرين ساعة، للسؤال عـــن ســبب وجيه" للإختفاء الغامض لموسى الصدر"(1) و موسى البطن و موسى الرأس... و باختصار شديد لموسى إسحاق بابا برمّته و غمّته. و قد تولت الأخيرة التعجيل بتنوير الشرطة و بالتالي بتسريح صديقها و تجلية الكرب عنه.. وقد ضحكت بياتا لينستاد طويلا من سوء حظ عجيب رمى بصديقها بين مخالب شرطي عنصري ثبت بعد التحرّي الشديد بانه قد أصيب ــ لسوء حظ موسى إسحاق بابا ــ و منذ سنوات أليمة، بنيران غينية أفقدته عشيقته حسناء سلب لبّها مواطن كان من سوء حظ بطل قصتنا من جنس و جنسية موسى إسحاق بابا! كما ضحكت بياتا لينستاد طويلا وهي تحيط موسى إسحاق بابا معرفة، بأنّ حظه السيء ــ بالأساس ــ هو الذي ساقه الى بيت السيدة كاري تورسن زوجة فريديرك تورسن، أكبر مليادير نرويجي.. كما ضحكا كثيرا حين اكتشفا معا سعر درّاجة فاحشة الثمن، مزوّدة بمبدّل سرعة و جرس قد صيغا من ذهب خالص، وهبتها السيدة كاري تورسن، هكذا عن طيب خاطر، دون أن يرفّ لها جفن، أو ينطق لها لسان بكلمة منّ!

ـــ 5 ـــ

في مساء نفس اليوم الذي سرّح فيه فوجئت السيدة النرويجية كاري تورسن بالشاب الغيني الظريف موسى إسحاق بابا وهو يطرق باب شقتها على إستحياء شديد، ممسكا بيمناه باقة ورد قياسية و بيسراه مقود دراجة لا يقلّ ثمنها عن عشرة آلاف دولار
أمريكية أو ما يعادل سبعين ألف كرونة نرويجية تكفي لتزويج عزاب قبيلة غينيّة بأكملها، ليصل ما قطعاه من حديث عن الإنسان، هذا الكائن الغريب الذي ضمتّ فصيلته العجيبة و المتباينة، من فاق وزنه ذهبا كما ضمّت أيضا من ساوى وزنه كومة بعر!، ثم ليشكرها عقب زيارته تلك، عن إحسانها الذي لن يبلغ ذروته و يبلغ مداه، الاّ بحرمان بني جلدته منه! ثم ليتوسّل إليها أخيرا، و بصوت محزون، بإلتكرّم عليه بإيواء درّاجة غير مرغوب فيها، قد يورّط وجودها ملقاة في حاوية، أحد أبناء جنسه في سين و جيم قد يضاف إليهما حرف نون، بوجود عنصريّ ملعون"!


ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إشارة الى موسى الصدر وهو زعيم طائفيّ لبناني، تولّى الرئيس و المجنون الليبيّ معمّر القذافي ـــ في عمل خيريّ نادر! ــ تغييبه عن المشهد السياسي، بعد زيارة أدّاها الى ليبيا، و ما زال "اختفاء موسى الصدر" قضية تشغل الرأي العام اللبناني و العربي أيضا منذ سنوات طويلة! و قد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مصير موسى الصدر و إمكانية العثور عليه حيا، و ذلك بمناسبة سيطرة ثوار ليبيا الميامين على أشد دهاليز و سجون القذافي سريّة.
أوسلو 27سبتمبر 2011