في كتابه الممتع ( الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ) يقول الخطيب البغدادي – رحمه الله تعالى- : ( نحن إلى قليل من الأدب أحوج إليه من كثير من العلم )
أجل فما قيمة العلم إن بقي صاحبه متهتّكاً متجرّداً من ثوب الخلق والفضيلة ؟! سيكون هذا العلم وبالاً على صاحبه ! وفتنة للناس من حوله !
وعالم ٌ بعلمه لم يعملنْ معذّبٌ من قبْل عُبّاد الوثـَنْ
فقد جرى منطق الناس أن تكون أعينهم معقودة بعيون أولي العلم ، فإن رأوا منهم الرشد استرشدوا واهتدوْا ! وإن رأوْا منهم نقيض ذلك زهدوا فيهم فتولّوا واستغنوْا !
من أجل ذلك ترى النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قد قصر غرض بعثته على التنمية الخُلُقية في النفس الإنسانية حين قال : ( إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق )"السلسلة الصحيحة" 1 / 75 وتجده عليه الصلاة والسلام في مقام آخر يعرّف الإسلام تعريفاً خُلُقيّاً فيقول : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) متفق عليه وكذا في تعريفه للإيمان في سياق آخر حيث يقول عليه الصلاة والسلام : ( المؤمن من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم ) الترمذي والنسائي
وحين أراد المولى جلّ شأنه أن يمدح نبيّه – صلى الله عليه وسلم – قال { وإنك لعلى خلق عظيم } (القلم4) فتأمّل قوله ( لعلى ) فلم يقل له ( وإنك لذو خلق ) فذو خلق تعني : صاحب خلق ! وصاحب الخلق لربما تجرّد من خلقه يوماً تحت ملابسات الواقع وضغوطاته الثقيلة ! أما ( لعلى خلق ) فعلى في لغة العرب تفيد التمكّن من الشيء ! فالنبيّ – صلى الله عليه وسلم – ( لعلى خلق ) أي : أن الخلق بات فيه سجية راسخة ومَلَكَةً دائمة متمكّنة لا تنفكّ عنه البتّة ! وهذا ما شهدت به سيرته العطرة – عليه الصلاة والسلام – فقد حفلت بالمواقف الخلقيّة البهيّة حتى مع عدوّه ، وليس فقط مع مَن آمن به واتبعه !
وإذا كان ذلك كذلك :
فمن تأمّل كتاب الله تعالى وجد أننا مدعوون جميعاً إلى التخلّق بأخلاق المولى عز وجل ؛ كما جاء في قوله تعالى : { إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوّا قديرا } (النساء149) فانظر كيف حثّنا ربُّنا تبارك وتعالى على الجنوح إلى خيار العفو والصفح عن الناس ؛ العفو عند المقدرة بقوله { فإن الله كان عفوّاً قديرا } فهو سبحانه يعفو ويصفح ، ويغفر الذنب ويسمح ... عفو العزيز المقتدر ! وما علينا في هذا السياق إلا التأسّي بالله مولانا !
لذا سأسلّط الضوء في هذا المقام على منظومة من الأدب لا يسعنا جهلها أو الغفلة عنها ؛ فقد جاءنا القرآن الكريم بثلاثة نماذج وأحوال من الأدب :
*أدب العبد مع الربّ عز وجل ّ !
*وأدب العبد مع العبد !
*وأدب الربّ مع العبد !
أما مَثَلُ أدب العبد مع الرب : فقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام { الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثمّ يحيين } (الشعراء 78-80)
فتأمّل كيف نسب الأفعال كافة من خَلْقٍ وهداية وإطعام وسقاية إلى الربّ عز وجل ، حتى إذا تحدّث عن المرض نسب سببه إلى نفسه ( وإذا مرضتُ )ولم ينسبه إلى ربّه تأدّباً مع الله تعالى ! وإلا فالأمور كلها كما قال مولانا : ( قل كلٌّ من عند الله } (النساء 78) وهذا التعبير الموشّح بالأدب هو خلاف منطق الكثير من الناس في هذا الزمان ؛ إذ ينسب بعض الناس في هذا الزمان كلّ نجاح في تحصيل علم أو حيازة مال أو تحقيق ربح في تجارة ... ينسبونه إلى أنفسهم ! حتى إذا ما أخفق أحدهم في شيء منها قال ( قدر الله وما شاء فعل ) وكأن قدر الله كان غائباً عندما يسّر له ربّه تحقيق الإنجازات ! فلم يستحضر المقادير الربانية ويقرّ بها إلا بعد أن حلّت بساحته إخفاقات !!
وأمّا مَثَـلُ أدب العبد مع العبد : فموقف يوسف الصدّيق عليه السلام من امرأة العزيز ! وقد قال عزّ وجل ابتداءً { وراودته التي هو في بيتها } (يوسف23) فقوله ( التي هو في بيتها ) فيه تأنيب مبطّن لامرأة العزيز ؛ إذ من حقّ من حلّ ضيفاً عليها في بيتها أن يوقّر ويجلّ ، ويصان عرضه ، لا أن يُقحَم في أجواء تجعله عرضة لأن يمسّ في عرضه ، أو تشوبه شائبة من نقيصة ! لكن صنيع امرأة العزيز في هذه اللحظة كان على خلاف ذلك ! والأدهى منه والأمرّ أنه عندما ألفيا سيّدها لدى الباب بادرت بإلصاق التهمة فيه كما حكى النّص القرآني الكريم { وقدّت قميصه من دبر وألفيا سيّدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب ٌ أليم } (يوسف25) وفي هذا الموقف العصيب لم يتجرّد نبيّ الله يوسف – عليه السلام – عن حِلْية الأدب والخلق ؛ فإذا به يقول – وبقوله كمُن الأدب – ( قال هي راوداتني عن نفسي } ( يوسف 26) هي : بصيغة الغائب مع أنها ماثلة أمامه !! فلم يبادر إلى القول ( هذه راودتني عن نفسي ) وإنما { هي رادوتني عن نفسي } فلم يجنح إلى نسيان الفضل والعقوق ولو في اللفظة ،حتى في هذه اللحظة ، اللحظة الخطرة الحاسمة ؛ من مرحلة التحاكم ومقاطع الحقوق ! فعرض مظلمته بكل أدب ونُبْلٍ ووفاء !
وأما مَثَـلُ أدب الربّ مع العبد : فقوله جلّ شأنه حين عاتب نبيّه – صلى الله عليه وسلم – : { عبس وتولّى أن جاءه الأعمى } (عبس1،2) فلم يقل له: (عبست وتولّيت )بصيغة المخاطب إنما ( عبس وتولّى ) بصيغة الغائب ؛ ومن وراء ذلك عتابٌ رفيق، ومداخل نفسيّة رقيقة ! ليصنع بذا لنبيّه ومن اقتدى به منهجاً خلقيّاً رفيعاً حتى في لحظة العتاب والتأنيب ؛ فما فتئ الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعدها إذا عاتب قال : ( ما بال أقوام ) دونما تصريح بأسمائهم رفعاً للحرج عنهم!
فمن هنا قد بدت الصورة جليّة كيف أنه : بين لفظتي ( هو ) و (هي) منظومة من الأدب بهيّة ! فعسانا نقـتنع فـنتّبع .