في ركن قصي من كوخ حقير بأحد أحياء الصفيح الهامشية اِفترشت صبية مصفرة الوجه ،بقايا حصير قديم وقد غطى جسدها لحاف رث وسخ , كانت عيناها الذابلتان تتراقصان وهما تراقبان الخيالين المنعكسين بفعل ضوء الشمعة الخافت عبر الستارة البيضاء التي تفصل ركنها عن مضجع أمها وزبونها ..كان لهاث هذين الأخيرين وتأوهاتهما يطرق سمعها فتسري في جسدها قشعريرة غريبة وتكتسي سحنتها بمظاهر الحزن والألم ..
كانت يدها الصغيرة تفرغ ما يعتمل في نفسها من حقد , على الحياة بالضغط على حاشية اللحاف , وقدماها النحيفتان تتمددان في عصبية حتى تلامسان ارض الكوخ ...
وشم الذكريات القاسية ما زال حيا يطبق على عقلها وفكرها, ناثرا بذور الشقاء في طريقها , وكأنها لم تخلق أصلا إلا من أجل الشقاء.
رف على شفتيها شبح اِبتسامة حين تذكرت والدها , كان شابا قوي البنية , طيب القلب يحبها ويدللها باستمرار , رغم الفاقة وضيق اليد , فقد كان مجرد حمال بالسويقة يحمل صناديق الخضر على ظهره , وكثيرا ما سمعته يرددنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالحمال مجرد حمار بشري ...)وكانت هي ترد عليه ببراءة الطفولة: سأتعلم يا أبي وأعمل , ثم ترتاح أنت وأمي ..فيجيب :حقق الله أمانيك يا صغيرتي ...
هذه أمور لم تعد تجديها الآن شيئا وأصبحت مجرد ماض لا يغني أو يسمن من جوع, فالوالد رحل عن هذا الوجود وِاختفى تحت التراب والحجارة, ...ذاكرتها تختزن دون شك أحداث مصرعه المفاجئ...فقد نشب ذات مساء بينه وبين جارهم موسى الأقرع صراع دموي عنيف..اِنتهى بموت الاثنين .. كان موتا باردا , وتلك عادة درج عليها بعض المسحوقين ..فهم يَقتلون ويُقتلون( برفع الياء) من أجل أشياء تافهة...
بعد رحيل والدها تغيرت الأمور , وتبدل سلوك أمها , وتصرفاتها وكانت الصفعة الأولى التي وجّهَت لها ..هي حرمانها من متابعة الدراسة..أما الصّفعة الثانية فكانت أشدّ وأقوى ..لقد دخلت أمها عالم الدعارة ...وتحول الكوخ الصغير إلى ماخور فساد يرتاده طلاب اللذة الرخيصة من أبناء الحي ., وفقراء المدينة..
كانت تنظر إلى كل ذلك بعين العاجز الضائع ولا تملك سوى ذرف الدموع السخينة كلما خلت إلى نفسها, فهي الآن تعرف المصير الذي ينتظرها غدا ..أو لم تقل لها أمها : تعلمي يا صبية حتى تعيلينني كما أُعيلك ،يوم أكبرُ..
إذن كل شيء واضح , فليس أمامها سوى اِنتظار اليوم الذي تَرِث فيه عن أمها ايهاب العهر, ويصبح جسدها ملكا مُشَاعا لكل عابث وماجن...
إن أمها مافتئت تذكرها اليوم تلو الآخر بأن السبيل الوحيد للحصول على لقمة العيش هو الذعارة..............
تابت الطفلة الى نفسها وأمسكت عن التفكير ثم جرت الغطاء وانكمشت حول نفسها..لكنها سرعان ما أحست باختناق شديد وتسربت إلى خياشمها رائحة الدخان ...فاسرعت تزيح الغطاء عنها..كانت النار حولها تلتهم حطب الكوخ وأثاثه الوضيع ...وكانت أمها وزبونها يصرخان................

محضار 1979................