الشكل الجديد لمدن ( الخيار الثالث)
{نُشرت في موقع "مها بنت سليمان الوابل" في 19/11/2009م}
قررت أخذ استراحة،وقراءة كتاب بعيدا عن هذه القضايا – شبه اليومية - التي تطاردنا،فاستعرت،من مكتبة الجامعة الإسلامية، كتاب : (الشكل الجديد لمدن العالم الثالث) من تأليف / تشارلز كوريا،وترجمة الدكتور محمد بن حسين البراهيم،والكتاب من منشورات جامعة الملك سعود،سنة 1420 هـ ( 1999م). قررت الاستراحة فإذا بالكتابة تطاردني،والأسئلة – المعتادة – تطاردني هل استفدنا من أفكار الآخرين وتجاربهم؟! أم أننا لابد أن نقع في نفس الأخطاء،ثم نسعى لحلها؟! ثم خطر لي أن أكتب هذه الأسطر،والتي تمثل (سياحة) في هذا الكتاب. لم أتجاوز الصفحة الثانية من الكتاب – المقدمة – حتى وجدت الكاتب يذكر سبب اختياره لكلمة "العالم الثالث" كلمة"العالم الثالث"إنني أجد هذا المصطلح أفضل من تلك التعبيرات التعسة وغير الدقيقة مثل "المتخلف" أو "النامي". إن مصطلح "العالم الثالث"الذي نستعمله الآن كان قد ابتكره نهرو وتيتو في الخمسينات من القرن العشرين وعبد الناصر وغيرهم (..) وكان القصد منه هو تعريف خيار ثالث يختلف عن الخيار الأمريكي (..) والخيار السوفيتي (..) إن هذا الخيار الثالث هو ما أريد أن ألفت انتباه القارئ إليه.){ و}.الحقيقية أنني لا أعرف مصطلح "العالم الثالث"إلا صفة سلبية أقرب إلى الذم،ولست أعرف من أين ترسخ في ذهني أن "العالم الثالث" تعني الدرجة التي نقبع فيها، في ذيل التسلسل الحضاري الحديث؟!! العالم الأول،هو العالم المتقدم جدا،أي "الغرب" يليه في "الدرجة" العالم الثاني أي الاتحاد السوفيتي وغيره من الدول الشيوعية،ثم يأتي "العالم الثالث" في ذيل القامة! فكيف تحول المعنى الإيجابي للعالم الثالث إلى معنى سلبي،نحاول التملص منه باستعمال مصطلح "الدول النامية"؟!! قبل أن يذكر المؤلف سبب اختياره لمصطلح العالم الثالث،كان قد قال ليس هناك شك لديّ أن التمدن السريع (الناتج عن الهجرة المتزايدة من الريف إلى المدينة) سيكون المسألة الرئيسية في الأحقاب الثلاثة القادمة : اقتصاديا وسياسيا وأخلاقيا. ومع ذلك،فليس هناك نظرية متكاملة يمكن أن توفر قاعدة للعمل لمواجهة هذه المشكلة. ولابد أن نعطي أكبر الأولويات لتطوير نظرية كهذه. ولابد أن تأتي هذه النظرية من أولئك الذين يشتغلون بهذه القضايا يوميا إذ إن نظريات حرب العصابات لم تأت من الأكاديميين،ولكن من المشتركين فعلا في القتال ..){ هــ}.تمهيد من التمهيد نقتطف هذه الأسطر مدينة بومبي على سبيل المثال قبل عشرين سنة،لم يكن هناك أكثر من 400000 ساكن رصيف من بين إجمالي عدد سكان قدره 4.5 مليون نسمة. أما اليوم فهناك 4.5 مليون ساكن رصيف تقريبا من بين السكان الذين بلغ عددهم تسعة ملايين. ومن ثم يتضح أن عدد سكان الدولة قد ازداد بنسبة 50% وعدد سكان المدينة زاد بنسبة 100%،فيما زاد عدد سكان الأرصفة بنسبة 1100 % (أكثر من 10 أضعاف). ستغير مثل هذه الحقائق الصور التي تبدر إلى الذهن عندما نسمع كلمة "مدينة".){ ي}. ويقول أيضا قال لي صديق من أمريكا اللاتينية مهتم بالتنظيم العائلي : "كيف تقول لمزارع مكسيكي إنه لو صار لديه عشرة أطفال فستحل الكارثة بالعالم،بينما يعيش هو بالفعل في كارثة." ومما لاشك فيه،أن اهتمامنا بمصير الإنسانية في الطوفان البشري القادم ربما كانت دوافعه أنانية. إننا قلقون : كيف يمكن أن نعيش خلال الكارثة بدون وسائل الحياة التي تعودناها. أما الفقراء فهم يعيشون بدون أي شيء كما يفعلون ذلك الآن.إن قابلية الإنسان على التحمل والابتكار مدهشة حقا.){ل}.التمدن هذا هو عنوان الفصل الأول من الكتاب،والذي استهله المؤلف بهذه العبارات غالبا ما نعجز عن رؤية الصورة الجديدة،لأن رؤيتنا للعالم الثالث محدودة وضيقة الأفق. خذ مثلا إحدى مزايا العالم الثالث التي يمكن اعتبارها أعجوبة. بالرغم من الفقر والاستغلال وقرون من الاحتياج والعوز،فإن الناس بوصفهم كائنات اجتماعية وإنسانية لا يزالون بخير. إن هذه حقيقة في غاية الأهمية لمن يهتمون بشؤون التنمية. ربما كان سكان الأرصفة في عيون الأثرياء أناسا مزعجين،لكن جهود سكان الأصفة {هكذا } بأي مقياس آخر،هي جهود إيجابية من الناحية الاجتماعية ورائعة مثل جهود الطائر الذي يبني عشا.(..) إن أي حل لهجرة الفقر لابد أن يكون معقدا ومتعدد الأوجه. في البداية،ينبغي إعادة توزيع الأراضي وإجراء إصلاح اجتماعي في القرى لزيادة قدرتها على إعاشة السكان. وثانيا،ينبغي تحديد مدن الأسواق في كل مقاطعة وتقويتها لتصبح مراكز نمو جديدة. وثالثا،ينبغي وضع كل الصناعات الجديدة وبنايات المكاتب الكبيرة (بما في ذلك المكاتب الحكومية) في المدن الصغيرة المتوسطة الحجم وليس في المدن الكبيرة.) { 1 – 3 }.ويقول المؤلف أيضا على كل حال،ليست الهجرات الكبيرة إلى المدن بالظاهرة الجديدة. لقد ازداد عدد السكان في أوربا عدة مرات في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين. وكان الناس يهاجرون للأسباب نفسها: زيادة عدد السكان بالنسبة للأراضي القابلة للزراعة. لكن الهجرة في أوريا كانت تختلف اختلافا جذريا عن الهجرة في الهند. لم يكن الأوربيين مقيدين بحدود بلادهم. بسبب قدراتهم العسكرية كان باستطاعتهم أن ينتشروا في بقاع العالم المختلفة،مما أدى بالتالي إلى ارتفاع مستوى المعيشة وانخفاض حجم العائلة.){ ص 5 }. كما يأسف لأن : ( إعادة توزيع السكان على نطاق عالمي لم يعد خيارا مفتوحا لدى دول العالم الثالث الآن. (..) على سبيل المثال،لا تتيح المباني العالية فرصة بنائها إلا لعدد محدود من الممولين الكبار القادرين على تنظيم تمويل المشاريع الكبيرة وعدد قليل من المهندسين والمعماريين القادرين على تصميم هذه المباني وعدد قليل من المقاولين القادرين على تنفيذها. أما الأرباح فغالبيتها تعود إلى عدد قليل من البنوك التي تمول المشروع.قارن هذا بالبناء الذي نجده في المناطق القديمة وسط مدن العالم الثالث : بنايات صغيرة متلاصقة،ارتفاع كل منها أربعة أدوار أو خمسة. في هذا النمط من البناء تنتشر فرص التوظيف خلال قطاع عريض من الناس هو قطاع الأسواق الشعبية : البناؤون،النجارون،المقاولون الصغار،وهلم جرا. وهكذا،فإن فوائد الاستثمار تعم جزءا أكبر من السكان.للأسف،فإن هذه المسائل لا يدركها صانعوا القرار والأثرياء ذوو النفوذ.){ص 7- 9 }.الفراغ أحد الموارد في هذا الفصل،وهو الفصل الثاني،يخبرنا المؤلف : ( أن الفقر في الريف الهندي له وجه مختلف جدا. يُعد سكان الريف فقراء مثل سكان المدن بل ربما أكثر فقرا،لكنهم ليسوا في حالة بؤس كالتي يعيشها فقراء المدن. في القرية،هناك دائما،أماكن يلتقي فيها الناس ويتحدثون ويطبخون ويغسلون ثيابهم. وهناك،أيضا،أماكن يلعب فيها الأطفال. كيف تتم هذه النشاطات في المدن؟ من الواضح أنه ليس هناك علاقة بين الطريقة التي بنيت بها مدننا والطريقة التي يستفيد الناس بواسطتها من تلك المدن. (..) يتكون نظام الفارغات من أربعة عناصر رئيسية :أولا : الفراغ الذي تحتاجه العائلة للأغراض الخاصة،كالنوم والطبخ وتخزين المؤن الغذائية والأمتعة الشخصية.ثانيا : مناطق الاتصال القريبة مثل الفراغ أمام عتبة الباب حيث يتحدث الجيران ويلعب الأطفال.ثالثا : المناطق التي يلتقي فيها سكان الحي (..)رابعا : الأماكن العامة،كالميادين التي تستعملها المدينة بأكملها.){ ص 22 }.ويواصل المؤلف حديثه عن الفراغات والحقيقة الثانية التي لا ينبغي تجاهلها في النظام الفراغي التدريجي هي إمكانية التبادل بين عناصره. (..) يمكن التعويض عن صغر الوحدة السكنية بفراغات جماعية كبيرة والعكس صحيح. ويوجد،أحيانا،عدم اتزان هائل : فالفراغات العامة المفتوحة في دلهي،مثلا،تتبع المعتاد 1.5 هكتار لكل 1000 شخص،وذلك يعني 75 مترا (مربعا) لكل عائلة. تخيل الفرق الكبير في نوعية حياة العوائل المكدسة في مساكن صغيرة في دلهي القديمة لو أن جزء بسيطا من هذه الفراغات العامة (الضائعة الآن في ميادين هائلة ومتنزهات ضخمة في دلهي الجديدة) يمكن مبادلتها بفناء صغير لكل عائلة. إن فهم هذا التدرج الفراغي وطبيعة هذه المبادلات هو أول خطوة مهمة نحو توفر السكن المناسب،وبدون ذلك هناك،دائما،خطر صياغة الأسئلة صياغة خاطئة،وسوء الفهم. هذا هو السبب وراء مشاريع الإسكان المنخفضة التكاليف التي همها الرئيسي صياغة تكديس أكبر عدد من الوحدات (الخلايا) السكنية في الموقع بدون الاهتمام بالفراغات الأخرى التي يشملها التدرج الفراغي. والنتيجة : بيئة غير إنسانية وغير اقتصادية وغير صالحة للاستعمال.لقد تجاهل مخططو هذه المشاريع حقيقة رئيسة في الأقطار الحارة،فالفراغ نفسه هو أحد الموارد المهمة تماما مثل الحديد والإسمنت. إن توفر الخصوصية للعائلة هو أمر في غاية الأهمية عند استخدام الفراغات المسقوفة،إذ أنه كلما كانت البنايات المجاورة عالية قلت صلاحية الفراغات للاستعمال. إن فناء الدور الأرضي يمكن لعائلة استعماله لعدة أغراض،بما في ذلك النوم أثناء الليل. وإذا أصبح ارتفاع البناية دورين فلا زال بإمكان العائلة أن تطبخ فيه. وعندما يصل ارتفاع البناية المجاورة إلى خمسة أدوار،يصبح الفراغ مجرد مكان لتوقيف السيارات. ){ص 26 – 28 }. ويقرر المؤلف أيضا،أننا : ( لو رجعنا إلى الوراء قليلا لنرى المدينة ككل سنجد أن آثار الفروقات في الكثافة على المدينة أقل فأقل أهمية. على عكس ما يظنه كثيرون،فإن مضاعفة ارتفاع المباني لا توفر كثيرا في المساحة الإجمالية للمدينة. إن المساكن لا تستهلك أكثر من ثلث المساحة الإجمالية للمدينة أما الباقي فتستهلكه المرافق الأخرى كالصناعة والمواصلات والأماكن الخضراء والمنشآت التعليمية (..) وزيادة على ذلك،تؤثر هذه التغيرات بشدة على تكلفة البناء.يمكن في المناخ الحار أن يبنى السكن من أنواع كثيرة من مواد البناء البسيطة،من الطين وخشب البامبو إلى الطوب المجفف بالشمس. تصلح هذه المواد،بطبيعتها،للإنشاءات غير العالية. وعندما يعلو الإنشاء إلى أربعة أدوار أو أكثر فإن مواد البناء لابد أن تتغير إلى الحديد أو الخرسانة،ليس بسبب المناخ ولكن للحصول على القوة الإنشائية. والزيادة في التكاليف نتيجة ذلك كبيرة جدا. والأمر مختلف في البلدان الباردة مثل أوربا و أمريكا الشمالية حيث تكون الزيادة في تكلفة البناء بسبب زيادة ارتفاع المبنى أقل مما هي عليه في المناخات الحارة،لأنه،حتى المباني ذات الدور الواحد،لابد أن تبنى من مواد مكلفة نسبيا حتى تكون قادرة على توفير قدر من العزل الحراري. وعندما نتحدث عن المباني المنخفضة،لا نعني،فقط،المباني التي يبنيها أصحابها بأيديهم (Self-Help Housing)،لكننا نعني،أيضا،المباني التقليدية عامة،تلك المنشئات التي يبنيها الناس في كل أنحاء العالم بدون الاستعانة بالمعماريين. هذه المباني ناجحة،ليس فقط،من الناحية الاقتصادية والجمالية والإنسانية (كما يعترف بذلك أي معماري أمين) بل إن النواحي الاجتماعية والاقتصادية لطريقة البناء تناسب الوضع.){ ص 30 – 32}. ويختم المؤلف هذا الفصل بقوله منذ مدة طويلة،أطول مما يجب،ونحن نحسب كثافة مدننا بحسابات ضيقة تحددها مصالح المستثمرين العقاريين. كانت تؤدي الكثافة العالية إلى ارتفاع في أسعار الأراضي،وتلك تؤدي إلى الكثافة العالية،وهكذا نستمر في دائرة حلزونية مثل الثعبان الذي يقتات على ذيله. في هذه الأيام تقوم صناعة البناء بأكملها في معظم مدننا بإنتاج مبان لا يستطيع شراءها سوى الطبقة المتوسطة الثرية،وهكذا ندفع بنصف مجتمعنا إلى الأرصفة. وفي خضم هذه الربكة واليأس،يحاول المعماريون والمهندسون أن يبحثوا عن معجزات تقنية،مثل الكيميائيين في القرون الوسطى الذين يحاولون العثور على الحجر السحري الذي يحول كل شيء إلى ذهب. منذ مدة طويلة،ونحن نجاهد للعثور على أجوبة بينما الأسئلة نفسها صياغتها خاطئة.إن مشكلة إسكان الغالبية العظمى من سكان مدننا لا تكمن في إنتاج مواد بناء أو طرق بناء خارقة،إنها،أساسا،مسألة كثافة،مسألة إعادة تنظيم استعمال الأراضي.){35 - 36}.العدالة يفتتح المؤلف فصله الثالث بالقول كانت المجتمعات عبر القرون تنتج المساكن التي تحتاجها بطريقة طبيعية،كل مجتمع حسب ظروفه. إن قرية ميكانوس (اليونان) وجيزلميت (..) وصنعاء ليست مساكن صممها أناس من خارج البلد،إنها نتيجة طبيعية مثل الأزهار التي تنبت في المراعي. وإذا كانت مدننا تشهد نقصا في السكن فإن ذلك دليل على خلل في النظام. مهمتنا إذن هي معرفة هذا الخلل ومحاولة إصلاحه. بدلا من ذلك نشرع في تصميم المساكن؟ لماذا نفعل ذلك؟بالرغم من النوايا الحسنة في الظاهر،فإن نظرتنا،في الحقيقة،قبيحة جدا. يبدو أننا نريد أن نعتقد أن السبب في نقص المساكن لدى الفقراء هو جهلهم،ولابد لنا أن نريهم الطريقة. إن هذا الاعتقاد أسهل على ضمائرنا من مواجهة الحقيقة : إنهم بدون منازل لأنهم الطرف الخاسر في النظام الاجتماعي.){37 - 38}. في هذا الفصل يكرر المؤلف مزايا المباني المنخفضة صيانة المباني المنخفضة أسهل كثيرا من المباني العالية. فالنورة (الجبس الأبيض) الرخيصة يمكن لشخص واحد أن يدهن بها بيته باستخدام سلم عادي. بالمقابل،فإن المباني العالية ليست،فقط،غالية الصيانة (تتطلب سقالات خارجية خاصة لدهانها من الخارج) لكنها،تعلو فوق مستوى الأشجار وتفسد المنظر عدة أميال حولها أيضا. لقد أصبحت هذه مشكلة حادة في معظم مدن العالم الثالث.){42}. ويضيف المؤلف ميزة أخرى هناك ميزة أخرى لهذا النوع من السكن قد تفوق في أهميتها الميزات الأخرى وهي العدالة. (..) ولو كان بالإمكان إيجاد قانون للحقوق الأساسية للسكن في العالم الثالث فلا بد أن يشتمل على ثمانية مبادئ رئيسية : التدرج،العدالة،الانفتاح إلى السماء،انعدام الطبقية،التعددية،المشاركة،فرص العمل،التنوع الفراغي.){42 - 45}.المواصلات من أزمة السكن،إلى أزمة المواصلات،ودور (تخطيط المدن)،في تلك الأزمة،يرى المؤلف أنه : ( من الأفضل لسكان مدينة أن يتوزعو فيها بالتساوي على مساحتها وأن يكون لديهم وسيلة نقل خاصة (سواء بالسيارة أو بالأحذية المزودة بعجلات).وإنه بإمكان الإنسان إذا وجد ازدحاما شديدا في أحد التقاطعات أن يتفادى ذلك التقاطع وأن يختار طريقا آخر. لهذا السبب نجد أن صناع القرار في الهند ( وكلهم لديهم سياراتهم الخاصة) يفضلون دلهي على بومبي. لكن المواطن العادي يفضل بومبي على دلهي. والفرق بين الخدمات التي تقدمها شركة الحافلات في بومبي ومثيلتها في دلهي ليست بسبب نوعية الإدارة في كل منهما. إن السبب الحقيقي يعود إلى تخطيط كل مدينة.){57}. ثم يقول في مكان آخر : ( وبوضع مراكز العمل داخل المناطق السكنية،يمكن التقليل من تكلفة المواصلات أو حتى إلغاؤها تماما. وفي هذا المجال،فإن النظام الموغل في القدم في بلدان العالم الثالث الذي تختلط فيه أماكن العمل بالسكن (كما في الدكان الذي يكون جزءا من السكن الشائع في جنوب شرق آسيا) لهو نظام أكثر إنسانية واقتصادا من تخصيص مناطق لكل استعمال كما في الطريقة الحديثة لتخطيط المدن.){59}. يحدثنا المؤلف – مع كثير من الرسومات – عن بعض المخططات في هذه المخططات،استخدمت أماكن العمل ونظام النقل السريع لكي نبني الأراضي المدنية،ونبقي على الكثافة السكانية قريبة من المعدلات المثالية وبذلك نتفادى الضغوط المتزايدة التي تشوه مدننا وتدمرها أخيرا. وحتى لو كان من الضروري أن تقدم الحكومة دعما ماليا لنظام النقل السريع،فإنه،في الحقيقة دعم مباشر للإسكان،وهو دعم اقتصادي أكثر فاعلية من الدعم المباشر للإسكان الذي يؤدي،في أحيان كثيرة،إلى بيع غير شرعي للوحدات السكنية. إن هذه النقطة في غاية الأهمية. لو أعطينا ساكن الرصيف وحدة سكنية بسعر أقل كثيرا من سعر السوق فإنما نغريه ببيعها والاستفادة من فارق السعر،ثم العودة إلى الرصيف ( كما يحصل في كل دول العالم الثالث). دعم النقل العام يزيد كمية الإسكان المتوافر بدون إغراء البيع.(..) إن نظام النقل ليس كيانا قائما بذاته.إنه جزء من جهاز حساس معقد يؤثر على قرارات اختيار الموقع في المدينة. إن الذي يحدث في غالبية الأحيان هو أن نعطي لمهندسي النقل تعليمات يكون فيها نمط استخدام الأراضي الموجود ثابتا غير قابل للتغيير،ويطلب منهم تصميم طرق سريعة مكلفة وجسور وأنفاق وما إلى ذلك. لكننا نعرف أن مثل هذه الحلول الجزئية قصيرة العمر،إذ كلما سهلت الحركة زاد الناس رحلاتهم حتى تغص الطرق بالمرور مرة أخرى. فالرحلات تزداد دائما،حتى تمتلئ الطرق،إنه قانون باركنسون في تخطيط النقل.(..) نجد أن كثيرا من طرق التخطيط الغربي لا تناسب العالم الثالث حيث المشكلات مختلفة تماما. بينما تحاول نيويورك أن تجذب الناس ليعودوا إليها،تحاول شنجهاي أو بوجوتا أو هونج كونج أن تمنعهم من دخولها. ينبغي على مخططي العالم الثالث أن يطوروا طرقهم الخاصة،من الصفر إذا كان ذلك ضروريا،شريطة أن يكونوا مخططين فاعلين.){64 - 68}.مدينة عظيمة .. ومكان سيئ هذا العنوان ذي الضفتين،شبه المتنافرتين،هو الفصل الخامس،والذي استهله المؤلف بهذه العبارات ربما نعطي اهتماما أكثر مما ينبغي للنواحي التخطيطية والاقتصادية للمدينة على حساب النواحي الروحية والجمالية. قد تكون المدينة سكنا جميلا،بشوارع غير مكتظة ومشجرة وأماكن عامة،ومع ذلك،تفشل في توفير تلك الميزة المدنية الخاصة التي نسميها "المدينة" كلنا نعرف أمثلة على هذا. بومبي،بالطبع مثال مناقض.إنها تسوء يوما بعد يوم من الناحية المادية (المرافق والأشياء الملموسة) لكنها تزداد حسنا كمدينة. أي أنها تقدم كل يوم المزيد من المهارات والنشاطات والفرص لكل طبقات المجتمع من ساكن الرصيف إلى الطالب الجامعي إلى رجل الأعمال والفنان.){69-70}. من الطبيعي أن تكون أمثلة المؤلف من بلده،بينما يستطيع القارئ أن يصنع أمثلته "المحلية" إن إهمالنا الإجرامي لمدن مثل لكلكتا{هكذا} و بومبي خلال العقود الماضية سمح للأحوال أن تنحط إلى دون المستوى الإنساني. ومع ذلك ما زالت بومبي تعيش بطاقة وحماس مثيرين للدهشة،أكثر من عاصمة مدللة مثل دلهي حيث يبلغ نصيب الفرد من ميزانية المدينة بضعة أضعاف مثيله في بومبي.إضافة إلى ذلك تمثل بومبي و كلكتا قطاعا حقيقيا من السكان من ذوي الدخول المتفاوتة،بينما لا يوجد في نيودلهي فقراء (إنهم جميعا مختبئون في دلهي القديمة). إن أفقر من يراهم الإنسان في شوارع نيودلهي هم الموظفون الحكوميون الذين يركبون دراجاتهم لكي يذهبوا للعمل.وفي فصل الشتاء،ترى هؤلاء أنفسهم في ملابس صوفية. إن في العالم الثالث أمثلة كثيرة من هذا النوع من العواصم. مدن حيث الثراء الظاهري ثراء كاذب،لا يعطي صورة حقيقية عن الواقع،خصوصا للسياسيين والبيروقراطيين الذين يعيشون هناك.){75}. ويقول تعدّ المدن منذ أمد بعيد مؤشرا فريدا من مؤشرات الحضارة،من موهنجودارو إلى أثينا،من بيرسيبوليس إلى أصفهان،من بكين إلى روما. من الممكن إيجاد موسيقى عظيمة أثناء الأزمات المتعفنة،وربما رسوم وحتى الشعر،ولكن لا يمكن إيجاد عمارة عظيمة ومدن لماذا؟ لأن البناء يحتاج إلى شرطين أساسيين : أولا،نظام اقتصادي يركز السلطة وصنع القرار،وثانيا،أن يكون في مركز السلطة وصناعة القرار قادة لديهم البصيرة والذوق والإرادة السياسية لاستخدام الموارد استخداما ذكيا. أما الشرط الأول فما أكثر توافره،وما أقل توافر الشرط الثاني. اجتماع الشرطين معا لا يحصل إلا نادرا.){76-77}. تفصيل الأرقام في تفصيل تلك الأرقام يقول المؤلف : (إن الأرقام التي نحن بصددها خيالية يصعب استيعابها،وفي ذلك مخاطر بالتأكيد يمكن أن نضيع في خضمها كما حصل للحكام البريطانيين عندما كانوا يفكرون في الأعداد الهائلة من المواطنين المحليين المحتاجين إلى"التمدن" وللمنصرين الفيكتوريين عند تأمل البلايين من الأفارقة والآسيويين في انتظار"إنقاذهم"! لكي نتلافى هذا الخطر الحقيقي،من الضروري التفصيل في الأرقام. عندئذ،فقط،نبدأ في رؤيتها بوضوح.لو فكرنا،مثلا،في الإنتاج الرائع للعمارة الحديثة في هذا القرن،لوجدنا أنها فشلت في قطاع الإسكان الجماعي. بلا شك،كان المعماريون يظنون بإخلاص أنهم يبنون بيئة إنسانية جيدة. ولكن الحقيقة في معظم الأحيان أن إنتاجهم كان بلا شخصية،قبيحا ومملا. هل كان ذلك فشلا في المهارة التصميمية؟ لا أعتقد. بل أرى أنه نتيجة حتمية للطريقة التي حددنا بها المشكلة. إن النجاح الكبير الذي حققته طريقة خط التجميع الذي ابتكره هنري فورد،وإنجازات القرن العشرين الأخرى،أغرت المعماريين على التفكير بأن تقليد طريقة إنتاج السيارات بالأعداد الكبيرة كان مناسبا في حقل السكان. حتى لوكوربوزييه،وقع في هذا التشبيه،أيضا،عندما صمم سكن سيتروهان يبدو أن المبدأ كان هكذا : ابن أولا : البيت المثالي،ثم كرره. للأسف يفشل هذا المبدأ عند التطبيق. إن طريقة هنري فورد لا تأخذ بالاعتبار كثيرا من الأشياء الضرورية في الإسكان : التنوع،الشخصية،المشاركة (..) وإذا أخذنا باعتبار الطبيعة البشرية فمن المستحيل أن اختار حالة واحدة ثابتة على أنها الحالة المثالية.إن طريقتنا في الوصول إلى الحل المثالي كانت خاطئة ومحكوما عليها بالفشل.وللأسف،فإن الأخطاء نفسها في الإسكان مستمرة حتى هذا اليوم. أول خطوة (في الوقوع في الفخ) هي جمع أرقام الطلب على الإسكان . في العادة،يشمل ذلك ليس،فقط،الطلب الحالي،ولكن الطلب الماضي المجتمع أيضا،وأحيانا الطلب المستقبلي كذلك،والأرقام التي تنتج عن ذلك هائلة مثيرة للمعماريين. والخطوة الأخيرة المميتة،وهي التي تجعل الفخ يقفز،هي إنشاء مؤسسة مركزية ضخمة للتعامل مع الطلب المجمّع. وليس من المهم إن كانت تلك المؤسسة وكالة أو وزارة حكومية أو كانت من القطاع الخاص،النتيجة واحدة : عُد أرجلهم واقسم العدد على أربعة. كثيرا ما نلقي اللوم على العقائد السياسية للنتائج غير الإنسانية المعدومة الشخصية،ولكن،بالطبع،لا علاقة للسياسة بالموضوع.هذا النوع من الإسكان موجود في كل أنحاء العالم،في حي برونكس في مدينة نيويورك،في موسكو،في سنغافورة،في بومبي،في باريس.){82 - 84}. الإرادة السياسية نقتطف من هذا الفصل،هذه الأسطر القليلة هناك مجموعة من الأعراض موجودة في كل مدن العالم الثالث. يبدو أن كلا منها مكون من مدينتين مختلفتين،إحداهما للفقراء والأخرى (مشتبكة معها) للأثرياء. وفي كثير من الأحيان،لمدينة الأثرياء اسم خاص. في بومبي،مثلا،تسمى "القلعة". وفي دكار تسمى "الهضبة". وهي اسم دقيق جدا سواء من الناحية الجغرافية أو النواحي الاقتصادية / النفسية لتلك المدينة.){87 - 88}.استعراض الخيارات يبدو المؤلف هنا شديد التفاؤل،حين يحلم بالخروج من "النفق" ونحن أحسن حالا إن حجم المشكلة يحدد الحل.هذا هو مفتاح الإستراتيجية التي ينبغي تبنيها في الخمس والعشرين سنة القادمة. ولو نجحنا في محاولاتنا ربما أمكننا استغلال النمو ليعود بالمنفعة الدائمة أو أن نخرج من النفق أحسن مما كنا عليه عندما دخلنا. إن معظم المدن،على أية حال،نمت في مراحل تدريجية مستمرة. وهكذا،فإن السلطات لم تدرك أبدا إمكانية إعادة ترتيب المنظر. فلنعد إلى الوراء،إلى الوقت الذي كانت فيه نيويورك لا تحتوي إلا على مليون أو مليونيين من السكان. لو كان واضحا،عندئذ،أنها ستصبح مسكنا لعشرة ملايين من الناس لأمكن عمل كثير من التغييرات الهيكلية والمالية والسياسية،أيضا،ولأصبحت نيويورك مدينة أفضل تنظيما مما هي عليه الآن.){103 - 104}. ويقدم المؤلف بعض النصائح للمعماريين ينبغي على المعماري أن يتصرف ليس بوصفه مهنيا بالغ الأهمية،ولكن بوصفه شخصا يرغب في التبرع بطاقاته وأفكاره للمجتمع. ولهذا الدور سوابق تاريخية مهمة. في معظم أقطار آسيا،كان هناك مشرف الموقع Mistri ،وهو نجار وبناء بالحجر،له خبرة واسعة،يساعد في تصميم السكن وإنشائه. (..) يذهب المالك ومشرف الموقع إلى الموقع،وباستخدام عصاة،يرسمان على الأرض مخطط البيت الذي يريدان بناءه.يحصل بعض الجدل حول الموقع الأفضل للنوافذ وبيت الدرج،وغير ذلك،لكن هذه الطريقة ناجحة لأن الرجلين كليهما يشتركان في النظرة الجمالية نفسها للأشياء.إن كليهما على الجانب نفسه من الطاولة.هذا النوع من التعامل هو،بالضبط،ما أنتج روائع العمارة في القرون الماضية من كاتدرائية شارترCharters إلى قصور الحمراء وفاتح بور شكري.( إذا لم يستطع المعماري الآن أن يقنع زبونا فهل كان بإمكانه أن يعارض إمبراطورا مغوليا قبل 300 سنة وأن يحتفظ بحياته؟){111 - 112}.قبل أن نختم هذه (السياحة) نقتطف هذه الأسطر،من الأوربي (البوهيمي) الهارب إلى الهند،وصولا إلى الهندي (الثري) الذي يركب المرسيدس،وتبادل (الرسائل) : ( في الستينات،عندما بدأ الشباب الأوربيون البوهيميون،يأتون إلى بومبي،اشتكى كثير من الأثرياء الهنود بمرارة منهم. في حفلات العشاء،كانوا يتحدثون عن ألئك الناس "السيئين" "القذرين"الذين يعشش القمل في شعورهم،وينامون على الأرصفة ويشحذون. وجوابا على ذلك،كنا نقول لهم : لماذا لا تستاؤون عندما ترون الهنود يعيشون هكذا؟ لماذا تنزعجون،فقط،عند رؤية الأوربيين؟ أخيرا،أعطاني أحد الأصدقاء الجواب : من الطبيعي أن يستاء الثري الهندي عندما يسوق سيارته المرسيدس ويرى أحد البوهيميين الأوربيين. إن لسان حال البوهيمي يقول للثري الهندي : إنني آت من حيث أنت ذاهب،وهو ليس المكان الجدير بالذهاب إليه. إن هذا يزعجه جدا. ويمكن للبوهيمي، أيضا،أن يدرك أن الثري الهندي في سيارته المرسيدس يبلغه رسالة،أيضا،الرسالة نفسها في الواقع : أنا آت من حيث أنت ذاهب.إنما نحن بواخر تمخر عباب البحر في الليل،كما توحي،ببلاغة،هذه الصورة الفوتوغرافية ( الضوئية) لمباني بومبي العالية. في مقدمة الصورة،هناك سكان العشش والأكواخ. ترتفع في الخلفية مجموعة من المباني العالية الجديدة. بالنسبة لنا،فإن هذه المباني قبيحة وسيئة،ولكن،لسكان الأكواخ،تكوّن هذه المباني الصورة الخيالية غير الواقعية للمدينة التي يشتاقون إليها ويحلمون بها ولكنهم ربما لن يصلوها أبدا.){118 - 119}.ونختم بهذه الصورة – أو الإجابة – الرائعة : (سئل مؤلف موسيقي من القرن العشرين ( ربما كان هندميث) سُئل ذلك السؤال المحير : كيف تؤلف موسيقاك ؟ أعطى جوابا مثيرا لكن دقيقا : "إنه كالنظر من نافذة إلى عاصفة رعدية خلال ظلمة الليل. فجأة،هناك برق يضيء المنطقة بأكملها. في تلك اللحظة،بالذات،يكون الإنسان قد رأى كل شيء ولا شيء". ما يسمى التأليف هو تصميم المكان حجرة حجرة،شجرة شجرة.){120}.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي - المدينة المنورة
mahmood-1380@hotmail.com