صوموا لرؤيته: هل المقصود الرؤية العيانية؟


يوسف أباالخيل

هل المعنى هنا للرؤية لازم على ظاهره الذي يقصره على العين المجردة. أم هو متعد إلى ما يحقق مقصد النص من إثبات دخول الهلال المتيقن بأي طريقة كانت؟
الأهلة إذ هي مواقيت للناس والحج. لا بد أن تثير مسألة ثبوت دخولها ما تثيره كل عام من اللغط والتلاحي والاختلاف. طالما لم تحسم طريقة إثباتها بما لا يدع لذي كل رأي خلاف. فما أن يقترب دخول شهر رمضان بالذات حتى ينفر من كل فرقة طائفة ليحاجوا غيرهم في الطريقة الأجدى في إثبات دخول الشهر وخروجه. فمن قائل: إن الرؤية بالعين المجردة هي الطريقة الشرعية المنصوص عليها بلا مثنوية. ومن مراهن على قدرة المراصد الفلكية (التلسكوبات) على إثبات رؤية الهلال خلال جزء من الثانية. ومن آخر لا يرى بديلاً عن توسيط الحساب الفلكي. فيما قال أوسطهم: إن ثمة مجالاً للجمع بين واحد وأكثر من تلك الطرق. وهكذا. فالكل في أمر مريج.
وإذ لا تُعنى هذه النقاشات التي من جنس هذا المقال بالتساؤل عن مدى صحة دخول شهر رمضان أو خروجه. أو دخول هلال ذي الحجة. بالنسبة لتمام شعيرتي الصوم والحج. ذلك أن الفيصل في ذلك حكم الإمام. فإذا أعلنها صوما فهي صوم. وإذا أعلنها فطراً فهي فطر. وإذا أذّن في الناس بالحج كان عليهم أن يأتوا رجالاً وعلى كل ضامر. ومصداق ذلك ما جاء عن أبي هريرة. كما في سنن الترمذي. أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصوم يوم تصومون. والفطر يوم تفطرون. والاضحى يوم تضحون". فإنها تُعنى تحديداً بالتساؤل عن ان كان ثمة حظ شرعي لمن قصر الشرعية عن الطرق الأخرى سوى رؤية العين المجردة.
وإذ لا يخالف مسلم في ضرورة رؤية الهلال لإثبات دخول الشهر وخروجه. فإن الإشكال يتعدى إلى معنى الرؤية نفسها. بمعنى: هل المعنى هنا لازم على ظاهره الذي يقصره على العين المجردة. أم هو متعد إلى ما يحقق مقصد النص من إثبات دخول الهلال المتيقن بأي طريقة كانت؟. وبغض النظر عن المعنى القاموسي ل"الرؤية". وعن إن كان ذلك المعنى متعدياً أو لازماً. فإن نقطة الانطلاق في هذا الحديث تأتي من أن الرؤية بالعين المجردة لمّا تزل هي المعتمدة رسمياً في إثبات دخول الشهر وخروجه. بصفتها الطريقة المنصوص عليها "شرعاً" من جهة. ولعدم وجود (سلف) للطرق الأخرى من جهة أخرى. ويستصحب أصحاب هذا الرأي لدعم موقفهم. حديث:" صُومُوا لرُؤْيَته وَأَفْطرُوا لرُؤْيَته". فيؤكدون أن الرؤية في هذا النص مقصورة على رؤية العين المجردة. وفي تقديري. فإن التمسك بظاهر النص هنا يأتي على حساب مقصوده. الذي رام التأكد القطعي الذي لا مرية فيه من دخول الشهر أو خروجه. ومن هذا المنطلق. فإن تحديد النص ل"رؤية" الهلال لتكون مجالاً لإثبات دخول الشهر وخروجه. لا يعني. في ظني. عدم تعدية مقصوده إلى ما يستجد من طرق وآليات أخرى وفق تطور العقل البشري على مر الزمن.
ولهذا المعنى. أعني تعدية المعنى الظاهر. إلى كل ما يمكن أن يحقق مقصود النص. شاهد من نصوص تُوقت لعبادات أخرى. فالصلاة كانت. ولمّا تزل. على المسلمين كتاباً موقوتا. (أي مفروضة في أوقات بعينها لا يجوز تجاوزها). وهذه الأوقات حدّدتها السنة في نصوص لا تزال تتلى إلى يوم القيامة. ومع ذلك فظواهرها معطلة في زمننا الحاضر. فيما مضامينها مفعلة بما يتناسب مع إمكانيات وتقنيات العصر الذي نعيشه. من أشهر هذه النصوص ما جاء عن جابر بن عبدالله، "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل فقال له: قم فصله، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر فقال : قم فصله، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب فقال: قم فصله، فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاءه الفجر حين برق الفجر، أو قال: سطع الفجر. ثم جاءه من الغد للظهر فقال: قم فصله، فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال: ثلث الليل. فصلى العشاء. ثم جاءه حين أسفر جدا فقال: قم فصله، فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت". فالصلوات الخمس هنا حُددت أوقاتها بوحي مباشر من جبريل عليه السلام بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. استعانة بظواهر طبيعية بحتة. مما يوحي بأهمية إبقائها على ما حددت به في هذا النص. ربما بشكل يفوق تلك الأهمية التي يعطيها فقهاؤنا المعاصرون لنص" صوموا لرؤيته. وأفطروا لرؤيته". ومع ذلك. فلا يوجد من بين المسلمين اليوم من يوقت لصلاته بتلك الظواهر الطبيعية التي جاءت في ثنايا الحديث الشريف. بل المسلمون كانوا. ولما يزالوا يوقتون لصلاتهم بالساعة الزمنية منذ اختراعها وحتى الآن. فهل تُراهم عطلوا النص الذي حدد مواقيت الصلاة بمراعاة ظواهر طبيعية من قبيل: (ظل الزوال. وغياب الشفق. ونصف الليل أو ثلثه. وبروق الفجر)؟ ألا يمكن القول إن ذلك النص هنا حدد تلك الظواهر الطبيعية لتكون مواقيت للصلاة. عندما لم يكن هناك وسيلة أنسب منها للتوقيت؟. ثم ألا يمكن القول بأن المسلمين الأوائل الذين كانوا يوظفون مقاصد النصوص. أدركوا أن الشارع الحكيم كان يتوخى إدراك الكتاب الموقوت المخصص للصلاة بأي وسيلة متوفرة. فكان أن استبدلوا الساعة الوضعية لما توفرت. بتلك الظواهر الطبيعية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب. وهو بالفعل كذلك. أفلا يمكن قياس توقيت الصوم والحج على ما جاء في نصوص مواقيت الصلاة. فنقول إن الشارع الحكيم حدد رؤية الهلال بالعين المجردة عندما لم تكن هناك وسيلة مناسبة غيرها؟ ثم نحكم. قياساً على استخدام الساعة لتوقيت مواقيت الصلاة. بشرعية ترائي الهلال بأي وسيلة. أو تقنية متوفرة. فالمهم أن (يُرى) القمر ك"غاية". أما (كيف) يُرى. فتلك وسيلة تتغير بتغير الزمان والمكان. وفي زمننا هذا. زمن التقنية والعلم. ليس ثمة أنسب من توسيط تقنية المناظير الفلكية (التلسكوبات) التي يمكن لها بتقنيتها العالية أن تحدد ظهور الهلال خلال جزء من الثانية. فالمهم هنا تفعيل مقصد النص. وليس ظاهره. وها هي الصلاة التي هي أول ما يسأل عنها الإنسان يوم القيامة. استبدلت وسيلة توقيتها بما يناسب العصر. وشعيرتا الصوم والحج ليستا بأولى من الصلاة التي إن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله!.
http://www.alriyadh.com/2011/09/10/article665946.html