الإقطاع السياسي الحديث


يرتبط الإقطاع ـ في العادة ـ بالأرض وامتلاكها، والنفوذ الذي يحظى به الإقطاعيون، لما لهم مكانة في استتباب الأمن وإعطاء الشرعية لنظام الحكم، وتزويده بأسباب البقاء.

وبالرغم من قِدم نظام الإقطاع وتوغله في التاريخ لعهود الفراعنة والسومريين، فإن الفهم لعلاقاته مع التعاطي السياسي، بدأ مع معركة (نوبل بين) التي دارت رحاها في سنة 378م بين قبائل (الجرمان) الأوروبية والدولة الرومانية، حيث قُتل الإمبراطور الروماني (فالنز) وقُتل معه (45) ألف جندي، وقيل أن عدد القتلى تجاوز (785) ألف جندي روماني، لتنتصر في تلك المعركة قبائل الجرمان ومعها الطبقة الفلاحية، ولتتدفق بعد ذلك الانتصار لتحتل مساحات واسعة، حيث سيطر الجرمان على الغرب الأوروبي، وتحتل قبائل (الوندال) الجنوب الأسباني وتعبر الى المغرب والجزائر وتونس وليبيا وتحتلها، كما احتل (الغوط الشرقيين) إيطاليا، و(الغوط الغربيين) أسبانيا والأندلس. واحتلت قبائل الفرنجة (الغال) التي أصبحت بعدها (فرنسا). واحتل السكسون بريطانيا.

لقد تشكل بعد هذا التحول التاريخي الكبير فهمٌ جديد لنمط الحكم و (التراتب) السياسي في الدولة، فكان الفرسان من الأمراء والملاك للأراضي، في حين يكون الرماة من المشاة (الأفراد العاديون)! ولقد عَبَّر عن ذلك التراتب ملك إنجلترا (الفريد) في القرن التاسع الميلادي، عندما قال: (لقد خلق الله البشر على شكل مثلث: ضِلعٌ يَحكم وضلعٌ يُصلي، وضلع يخدم الضلعين).

الإقطاع في المنطقة العربية والإسلامية



عند تصفح كُتب التاريخ العربي والإسلامي، والمرور على تواريخ المدن والقرى، فإننا نقرأ للمؤرخين (تلك المنطقة اقتطعها الخليفة فلان للأمير فلان)، واستمر الحال من العهد الراشدي لعهد العثمانيين.

وكان الحكم (القاجاري في إيران) يقتطع المقاطعات لأمراء مقابل مبلغ من المال يدفعه الأمير سنوياً لمركز الحكم، ويتعهد بتجنيد أعداد معينة من الجنود وقت الحرب. وكذلك كان يفعل العثمانيون، ولو أن العثمانيين كانوا يعتمدون على الجيش الإنكشاري قبل حله في بداية القرن التاسع عشر، لكنهم اعتمدوا الطريقة (القاجارية) بعد حل الإنكشارية.

وكان موظفو الدولة يشترون مناصبهم في الدولتين القاجارية والعثمانية، مقابل مبلغ من المال، فإذا اشترى والي (دمشق) مثلاً، المنصب بمليون ليرة ذهب، عليه أن يجتهد في جمع أكبر من هذا المبلغ سنوياً ليربح من وراءه.

هذا الأسلوب جعل من الجيوش الإيرانية والعثمانية من الضعف بمكان لسوء تدريب جنودها وعدم احترافهم الحالة العسكرية، فترك البلاد ـ في الحالتين ـ عرضة لهزائم متكررة على أيدي الجنود الروس والبرتغاليين والفرنسيين وغيرهم. كما أن تنمية الأرياف والولايات كان شبه معدوم لعدم اهتمام الولاة ومدراء (السناجق: الأقضية والنواحي) في جوانب تطوير مناطقهم، حيث أن تخصيص الأموال سيكون على حساب حصصهم الخاصة.

كان الإقطاعيون يحتمون بما يشبه المليشيات أو (الشبيحة، أو البلطجية، في الوقت الراهن)، فكانوا إذا أرادوا الظلم باختطاف فتاة أو حتى زوجة أحد الفلاحين، فإن اعترض أهلها، أمر الإقطاعي بمعاقبتهم الفورية، وكانت العقوبات تصل الى طرد زوجها من (ديرة) الإقطاعي أو حتى قتله، فليس هناك من يحمي هؤلاء الفلاحين من سطوة الإقطاع.


عصر النهضة في أوروبا وأثره على زوال دور الإقطاع


مع بدء الاختراعات الصناعية (الآلة البخارية وما بعدها)، دخل العالم الغربي، في ظهور أنماط جديدة من العلاقات الإنتاجية، فقد ظهرت الثروات من الصناعة والنقل وغيرها، وبالتالي فإن أهمية الناس لم تعد محصورة بما يضعون عليه أيديهم من أراضٍ.

وظهر مع هذا التطور، أنماط فكرية وفلسفية، تتحدث عن الدولة وحقوق الإنسان، وغيرها، وقد ساهمت كتابات (فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو) وغيرهم، في خلق فضاءٍ ذهني، نقل العالم من حالة الى حالة..

فهذا الأرستقراطي (مونتسكيو) يكتب: لا يجوز قتل أحد إلا بقانون، ولا يجوز استيلاء أحد على أملاك أحد إلا بقانون، ولا يجوز سن قانون إلا بحضور ومشاركة ممثلي الشعب، وقد كان مونتسكيو متأثراً جداً بالأسبقية الإنجليزية في استحداث مثل تلك الأنماط التي سُميت بالديمقراطية.

الإقطاع السياسي في الوقت الراهن



بعد مرور أكثر من اثني عشر قرناً على مقولة ملك إنجلترا (لقد خلق الله البشر على شكل مثلث: ضِلعٌ يَحكم وضلعٌ يُصلي، وضلع يخدم الضلعين)، فإن المثلثات التي اصطنعتها القوى الأكبر في العالم، قد تداخلت في أشكالها، وتطاولت أضلاعها لتغطي كل العالم، وإن استبدل الإقطاع المقترن بامتلاك الأرض بإقطاعٍ من نوعٍ آخر، يقسم الصلاحيات والنفوذ السياسي حسب القوة التي يمتلكها مَنْ يستحق لقب (إقطاعي سياسي).

وفي منطقتنا العربية يبدو أن الإقطاع السياسي أكثر وضوحاً ومطابقةً للأساليب القديمة، حيث تمتلك قلة من المجتمع العربي لا تتجاوز نسبتها 7% من عموم السكان، ما يعادل أكثر من 85% من ثروات البلاد، وتسخرها الى تكديس ممتلكات تلك النسبة الضيقة، في حين تعاني الكثرة من الفقر والحسرة والتخلف وعدم القدرة على الإبداع. وتحمي القلة المالكة نفسها بذراع الدولة القوي الذي يمتلك السلاح وسن القوانين (التي تُطبق فقط على الكثرة البائسة)، وأحياناً تشكل القلة المالكة ما يشبه المليشيات (شبيحة، بلطجية، جهاز أمن مركزي الخ)، لمعاونة نظام الحكم المكون من اتحاد غير مرئي من أركان القلة، ويعيد إنتاج نفسه بين حين وآخر بتغيير أسماء فقط.