خطبتى عيد الفطر المبارك من المسجد الحرام
مع الشكر لموقع الحرمين الشريفين




ألقى فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله -
خطبة عيد الفطر لعام 1432 بعنوان: "التفاؤل والتشاؤم بالأحداث الجارية"،
والتي تحدَّث فيها عن التفاؤل والتشاؤم وبيَّن أهم الفروقات بينهما، وقام بإنزال ذلك وإسقاطه على واقعنا المعاصر، وحثَّ على ضرورة التفاؤل وإن حدث ما حدث في ديار المسلمين من ظلمٍ وقهرٍ واضطهاد.

الخطبة الأولى
الحمد لله وأكبِّره تكبيرًا، والله أكبر وأذكره ذكرًا كثيرًا، والحمد لله رفع أقدار ذوي الأقدار، والله أكبر أنفَذَ تصاريفَ الأقدار،
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)
[القصص: 68]،
والحمد لله عددَ ما ذرَفَت العيون في مواسم الطاعات من عبَرات، والله أكبر ما تقرَّبوا إلى مولاهم بالعبادات؛ صلواتٍ وصيامًا وصدقات، والحمد لله أفاضَ علينا من خزائن جُوده ما لا يُحصَر، والله أكبر شرعَ لنا شرائعَ الأحكام ويسَّر، أحمدُه - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو الكريم الجواد، أحقُّ من عُبِد، وأحقُّ من ذُكِر، وأحقُّ من يُشكَر، ذو الفضل والإحسان والمنَّة يمنحُ الجزاءَ الأوفَى، ويهَبُ الفضلَ الأكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له والعزَّةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، والذِّلَّةُ والصّغَار والهوانُ لأهل الكفر والفُجور والمُعاندين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وإمام المرسلين ورحمةُ الله للعالمين، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين أقاموا الدين، وجاهدوا في الله حقَّ جهاده صابرين مُخبتين مُحتسبين، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، اتقوا الله وأطيعوه، وعظِّموا أمره ولا تعصُوه؛ فمن اتقى اللهَ حسُن توكُّله على ربه فيما نابَه، وحسُن رِضاه بما آتاه، وحسُن زهدُه فيما فاتَه.
اتقوا الله حق التقوى، وتقرَّبوا إليه بما يحبُّ ويرضى، تزيَّنوا بلباس التقوى؛ فالفائز من ألبسَه مولاه حُلَل مولاه، وتأهَّبوا للعرض الأكبر يوم يُعرضُ الناسُ حُفاةٌ عُراة، وينظرُ كلُّ امرئٍ ما قدَّمَت يداه،
(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)
[الحاقة: 18].
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
أيها المسلمون:
عيدُكم مُبارك، وتقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم، وصلواتكم وصدقاتكم، وجميعَ طاعاتكم، وكما فرِحتم بصيامكم، فافرحوا بفِطركم، وقد علِمتم أن للصائم فرحتين: فرحةٍ عند فِطره، وفرحةٍ بلقاء ربه، أدَّيتم فرضَكم، وأطعتُم ربَّكم، صُمتم وقرأتُم وتصدَّقتُم، فهنيئًا لكم ما قدَّمتم، وبُشراكم الفوزَ - بإذن الله وفضله -.
افرحوا وابتهِجوا واسعَدوا، وانشروا السعادةَ والبهجةَ فيمن حولكم، إن حقكم أن تفرحوا بعيدكم وتبتهِجوا بهذا اليوم يوم الزينةِ والسرور، ومن حقِّ أهل الإسلام في يوم بهجتهم أن يسمعوا كلامًا جميلاً، وحديثًا مُبهِجًا، وأن يرقُبوا آمالاً عِراضًا ومُستقبلاً زاهرًا لهم ولدينهم ولأمتهم.
قد يقول بعض المتأملين - أحسن الله إليهم -: إن المسلمين اليوم يعيشون مِحَنًا ورزايَا، وفتنًا وبلايا، لهم في كل أرضٍ أرملة وقتيل، وفي كل ركنٍ بكاءٌ وعَويل، وفي كل صِقعٍ مُطارَدٌ وأسير، صورٌ من الذلِّ والهوان والفُرقة والطائفية والإقصاء، دماءٌ وأشلاء، وتسلُّطٌ من الأعداء، وكأن الناظرَ لا يرى دماءً سوى دمائنا، ولا جراحًا سوى جراحاتنا، زاغَت الأبصار، وبلغَت القلوبُ الحناجِر، وظنَّ ظانُّون بالله الظنُونا.
ثم يقول هذا القائل: هل بعد هذه الأحزان من أفراح؟ وهل بعد هذه المضائق من مخارج؟ وهل وراء هذه الآلام من آمال؟ وهل في طيَّات هذه المِحَن من مِنَح؟ ومتى يلُوحُ نورُ الإصلاح؟
يقول المُستبشِر المُحتفِي بعيده حسنُ الظن بربه: نعم، ثم نعم، فاهنأوا بعيدكم، وابتهِجوا بأفراحكم، وهل يكون انتظار الفرج إلا في الأزمات؟ وهل يُطلَبُ حسنُ الظن إلا في المُلِمَّات؟ يقول ربكم في الحديث القدسي - عزَّ شأنه -:
«أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء».
والمؤمنون قال الله فيهم:
(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)
[الأحزاب: 22]،
وقال في آخرين:
(وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا)
[الفتح: 12]،
وقال تعالى:
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
[فصلت: 23].
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال:
"والذي لا إله غيره؛ ما أُعطِي عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حُسن الظنِّ بالله، والذي لا إله غيره؛ لا يُحسِن عبدٌ بالله - عز وجل - الظنَّ إلا أعطاه الله - عز وجل - ظنَّه؛ ذلك بأن الخير بيده".
وفي الحديث:
«إذا تمنَّى أحدُكم فليستكثِر؛ فإنما يسأل ربَّه»؛
حديثٌ صحيح على شرط الشيخين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ما تنزَّلت الرحماتُ من الرحيم الرحمن، والله أكبر ما صلَّى المُصلُّون وسلَّموا على المبعوث بالسنة والقرآن، صلَّى الله عليه وسلَّم.
عباد الله:
ما دام أن أمتنا شاهدةٌ على الأمم فهي باقيةٌ ما بقِيت الحاجةُ إلى الشهادة، وما دام أن رسالتنا هي الخاتمة فهي باقيةٌ إلى آخر الدهر، وفي تاريخ الأمة مئاتُ العُظماء بل آلافٌ وآلاف قد وُلِدوا وسوف يُولَد أمثالُهم وأمثالُهم - بإذن الله -، وهذه سنة الله.
بل ها هي أحداث ومُستجِدَّات، ونوازِل ومُتغيِّرات تحدث أمام ناظرَيْكم مما يوَدُّه المُتابِعُ وما لا يوَدُّه، ظنَّ أصحابُها أنهم مانعَتُهم حُصونُهم فأتاهم الأمرُ من حيث لم يحتسِبوا فُدَّت عليهم المخارج وضاقَت عليهم الحِيَل، وها هي أساليب الاتصال ومواقع التواصل وطرق التعبير فتحت من الأبواب، وهيَّات من الأسباب مما يحسُن فهمُه وفقهُه.
معاشر المسلمين:
وأنتم في استقبال عيدكم أحسِنوا الظنَّ بربكم، فكلما ازداد التحدِّي ازداد اليقين، ولا يرى الجمالَ إلا الجميل، ومن كانت نفسُه بغير جمال فلن يرى في الوجود شيئًا جميلاً، والكون ليس محدودًا بما تراه عيناك ولكن ما يراه قلبُك وفكرُك، فجفِّف دمعَك، واجبُر كسرَك، وارفع رأسَك؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العُسر يُسرًا.
مشى المُعافَى بن سليمان مع صاحبٍ له، فالتفتَ إليه صاحبُه عابسًا مُتبرِّمًا وقال: ما أشدَّ برد هذا اليوم! فقال له المُعافَى: وهل استدفأتَ الآن؟ قال: لا. قال: فماذا استفدتَ من الذم؟ لو ذكرتَ اللهَ لكان خيرًا لك.
المهزومُ من هزمَته نفسُك، ومن قال: هلكَ الناس فهو أهلكُهم، ومن أجل هذا أمرَ دينُنا بالتفاؤل، ونهانا عن التشاؤم؛ بل إن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ التفاؤل ويُعجِبُه الفأل، ويُعجِبُه أن يسمع: يا نجيح، ويا راشد؛ لأن التفاؤل - أسعدكم الله، وزادكم في عيدكم بهجة -: كل ما أدخل على الإنسان سرورًا وبهجةً وانشراحًا مما يدفعُ إلى العمل، ويفتحُ أبوابَ الأمل، وتنطلِقُ معه النفوس.
يقول ابن بطَّال:
"جعل الله من فِطَر الناس: محبة الكلمة الطيبة والأُنس بها، كما جعل فيهم الارتياحَ بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربُه".
الإنسان يبتهِجُ بالهيئة الحسنة، والمكان الفسيح، والمنظر البهيج، الفألُ حُسن ظنٍّ بالله وتعلُّقٌ برجائه، التفاؤل استعانةٌ بالموجود لتحصيل المفقود، وهو تقويةٌ للعزم، وباعثٌ على الجِدّ، ومعونةٌ على الظَّفَر.
التفاؤل يقلِبُ العلقمَ زُلالاً، والصحراء جنة، والحنظلَ عسلاً، والدار الضيقةَ قصرًا، والقلةَ غِنًى، وهل يشعُر بسعَة الدنيا من كان حِذاؤه ضيِّقًا؟!
المتفائل يسقط من أجل أن ينهض، ويُهزَم من أجل أن ينتصر، وينام من أجل أن يستيقظ، ومن جدَّ وجَد، ومن زرعَ حصَد.
المتفائل لا تُزعزِعُ يقينَه المصائب، ولا تفُلُّ عزيمتَه الفواجِع، ولا تُضعِفُ إيمانَه الحوادث، وفي الحديث:
«إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر،
وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للشر،
فطُوبَى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه،
وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه»؛
رواه ابن ماجه.
ولهذا قيل:
"قُدراتُك هي السببُ في كل ما يحدث لك،
ونفسُ المرء مثل غرفته إن شاء فتح النوافذ فدخل النور والضياء والهواء والعليل،
وإن شاء أغلقا فبقِيَ في الظلام".
وقال أهلُ الحكمة:
"إن قسَمات وجه المرء انعكاسٌ لأفكاره،
ومصائب الحياة تتماشى مع هِمَم الرجال صعودًا وهبوطًا،
وتشيبُ الرؤوس ولا تشيبُ الهِمَم".
فاحترِم نفسك - رحمك الله - فهي أجملُ مخلوقٍ على وجه الأرض، والذين لا يُغيِّرون ما بأنفسهم لا يُغيِّرون ما حولَهم، ولهذا ترى الجميعَ يُفكِّر بتغيير العالَم، وقليلٌ منهم من يُفكِّر بتغيير نفسه، وفي التنزيل العزيز:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
[الرعد: 11].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ما قصَدوا هذه البِقاع الطاهرة وعمَّتهم نعَمُ مولاهم الباطنة والظاهرة، والله أكبر ما سعَت الأقدام لزيارة مسجد سيد الأنام، وحظِيَت بالسلام على الحبيب المصطفى - عليه الصلاة والسلام -.
معاشر المسلمين المُبتهِجين:
ومن أجل مزيدٍ من الوضوح والإيضاح، ولمزيدٍ من الابتهاج والفرَح وحُسن الظنِّ بالله - عز وجل -، والأمل العريض للأمة تأمَّلوا هذه المقارنات والموازنات:
المتفائل ينظرُ إلى الحل، والمتشائم ينظرُ في المشكلة، المتفائل مُجِدٌّ على الدوام لا يعرفُ الإحباطَ والضررَ، يرى الحياةَ حقًّا له وحقًّا للآخرين، والمتشائم جلاَّد نفسه يرى غيرَه أسعدَ منه، ثم هو يريدُ أن يكون أسعدَ من الآخرين، وهل مثلُ هذا يُحقِّقُ السعادة؟
المتفائل يرى ضوءًا لا يراه الآخرون، والمتشائم يعمَى أن يرى الضوءَ الذي أمام ناظرَيْه، المتفائل مستفيدٌ من ماضيه، مُتحمِّسٌ لحاضره، مُستشرفٌ لمُستقبَلِه، والمتشائم أسيرٌ لماضيه، مُحبَطٌ من حاضره، هليعٌ على مُستقبَلِه.
المتفائل يطلُبُ المعاذير والمخارج لسلامة طوِيَّته وانشراح صدره، والمتشائم يشتغِلُ بالعيوب ويحشُرُ نفسَه في المضائق لظُلمة باطنه.
المتشائم يحسَبُ كل صيحةٍ عليه، يجوعُ وهو شبعان، ويفتقِر وهو غني،
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
[البقرة: 268].
المتشائم يذكُر النعَمَ المفقودة ويعمَى عن النعَم الموجودة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ما تصافحَ المسلمون وتصافَوا في هذا العيد البَهيج، والله أكبر ما استقبَلَت هذه البِقاعَ الطاهرة العُمَّار والزُّوَّارَ والحَجيج.
معاشر المسلمين:
عيدُكم مبارك، وأيامكم بالخير والسعادة محفوظة؛ هل لاحَظتُم أن التفاؤل لا يُحتاجُ إليه في وقت الرخاء والأمن والنعيم؛ إذ في وضَح النهار لا تحتاج إلى الشموع والمصابيح؛ بل إن المصباحَ لا يُضيءُ إلا في الظلام، وشمعةٌ واحدة كافيةٌ لتبديد الظلام، والفرجُ لا يكون إلا بعد الشِّدَّة، والنصرُ لا يكون إلا بعد الهزيمة، والفجرُ لا يكون إلا بعد ليلٍ مُدبِر.
سعادةُ المرء ليست في تمنِّي ما ليس عنده ولكنها بحُسن الاستمتاع فيما عنده، والسعادة ليست محطة وصول ولكنها مسيرةُ الحياة كلها، بالمال تشتري السرير ولكنك لا تشتري النوم، وتشتري الساعة ولكنك لا تشتري الوقت، وتشتري المنزل ولكنك لا تشتري الراحةَ والسعادةَ.
وقتلُ البَعوض لا يُجفِّفُ المُستنقَع، وتجفيفُ المُستنقَع يُنهِي مشكلةَ البعوض، ومن لا يستطيع أن يقِف على قدمَيْه يعسُر إنقاذُه، وأخطرُ الناس من عاش بلا أمل.
كتبَ عمرُ بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما جميعًا -:
"أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبِر، وبعد، عباد الله: فالتفاؤل لا يُنكِر الواقع، ولا يستهينُ بالمُشكِلات، ولا يُهمِلُ الأسباب، ولا أخذَ الحزم من الأمور والاحتياط في المسالك، ولكن الله - عز وجل - لقِسطه جعل الفرحَ والروحَ والسرورَ وراحةَ النفس وسكينتها وسلامتَها في الرضا واليقين، وجعل الغمَّ والحَزَن في السخَط والشك"؛
رواه البيهقي والطبراني في "الكبير".
فلا تُفسِد - حفِظَك الله - حاضِرك حُزنًا على ماضيك؛ فالتفاؤل في المُستقبل هو الشاهدُ على صحة العقل وصفاء النفس، وقد قالوا:
"إن البكاءَ لا يُعيدُ الميتَ إلى الحياة، ولكن يُعيدُه الدعاءُ والثناءُ والذكرُ الحسن والأثرُ الطيبُ".
ورأسُ التفاؤل الاتصالُ بالعليِّ الأعلى، فالصلاة تفاؤل، وذكرُ الله تفاؤل، والدعاءُ تفاؤل، يُحيطُ بذلك: حُسنُ الظن بالله - عز شأنُه -،
(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ
كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)
[النساء: 104]،
(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)
[آل عمران: 139- 142].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -،
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله ما تقرَّب العبادُ إلى ربهم بالفرائض، وتحبَّبوا إليه بالمندوب، والله أكبر يقبَلُ التوبةَ عن عباده ويغفرُ الذنوب، والحمدُ لله ما شمَّر الجادُّون في تحصيل المطلوب، والله أكبر ما سارعوا وتنافَسوا في تحقيق المرغوب، والحمد لله هدانا للإيمان وأكرمَنا بالسُنَّة والقرآن، أحمدُه - سبحانه - وأشكره على كريم الفضل وجزيل الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما خلق وقدَّر، ولا مُنازِعَ له فيما حكَمَ ودبَّر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله المبعوث للأبيض والأسود والأحمر والأصفر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وبشَّر وأنذَر، وعلى آله السادة الغُرَر، وأصحابه ذوي السلوك الأطهر، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ممن صلَّى وصامَ وحجَّ اعتمَر، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد:
فالمؤمنُ ذو اليقين والرضا يعلمُ أن الله قد أحاطَ بكل شيءٍ علمًا، وأحصى كل شيءٍ عددًا، ووسِعَ كل شيءٍ رحمةً وعلمًا، ومن حكمته في هذه الدنيا أن في الناس من ينجحُ بذكائه، وفيهم من ينجَحُ بذكاء الآخرين، وإذا وُجِد من ينجَحُ بعمله فإن هناك من ينجَحُ بكسل الآخرين، ورُبَّ ساعٍ لقاعد؛ فما منعَك ربُّك إلا ليُعطِيَك، ولا ابتلاكَ إلا ليُعافِيَك ويُثيبَك، ولا امتحنَك إلا ليصطفِيَك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"مصيبةٌ تُقبِلُ بها على الله خيرٌ من نعمةٍ تُنسيكَ رضا الله".
واعلم أن المرء ربما يفشَلُ إذا خاطَرَ وأقدم، ولكن من المُؤكَّد أنه سوف يفشَل إذا لم يُقدِم، وأعظمُ الفشل ألا تعمل.
وقال بعض أهل العلم: "المُشكلات والمِحَن لم تأتِ لتُهلِك الناس؛ بل لتمتحِن صبرَهم وإيمانَهم وعملَهم، والأجرُ عند ربك مربوطٌ بالعمل والاجتهاد وليس بالنتائج والثمار، وقاعدةُ التوازن: اعمل لدنياك كأنك تعيشُ أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموتُ غدًا".
وقد قال رجلٌ لأبي بكر - رضي الله عنه -:
والله لأسُبَّنَّك سبًّا يدخُل معك في قبرك، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -:
"بل يدخلُ معك في قبرك أنت".
وإذا ضاقَ صدرُك وجشمَ عليك همُّك فالزَم التسبيح؛ فقد قال الله لنبيه وحبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم -:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)
[الحجر: 97- 99]،
وقال له - عزَّ شأنُه -:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)
[التوبة: 129].
وبعد:
فإن التفاؤل الحق هو التصديقُ بوعد الله - عز وجل - في قوله - عزَّ شأنُه -:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
[النور: 55]،
وقوله - جلَّ في عُلاه -:
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)
[الحج: 40، 41].
الله أكبر، الله أكبر، كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بركةً وأصيلاً، والله أكبر ما انفلقَ صباحُ عيدٍ وأسفَر، والحمدُ لله ما لاحَ برقٌ وأنوَر.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، واهنأوا بعيدكم، وأصلِحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسولَه إن كنتم مؤمنين، فالعيدُ فرحةٌ وبهجة، فمن أحبَّ أن يُسامِحَه الناس فليُسامِحهم، ومن زاد حبُّه لنفسه ازداد كرهُ الناس له، والأُلفة دليل حُسن الخلق، والنُفرة علامةُ سوء الخُلق، التنهئةُ الصادقة والابتهاجُ الحق لمن قبِل الله صيامَه وقيامَه وحسُنت نيَّتُه وصلُح عملُه، تهنئةٌ وبهجةٌ لمن حسُن خُلُقه وطابَت سريرتُه.
هنيئًا لمُوسِرٍ يزرعُ البهجَة على شفَة مُحتاج، ومُحسنٍ يعطِفُ على أرملة ومسكين ويتيم، وصحيحٍ يعودُ مريضًا، وقريبٍ يزورُ قريبًا، العيدُ عيدُ من عفا عمن زلَّ وهفا، وأحسن لمن أساء، العيدُ عيدُ من حفِظَ النفسَ وكفَّ عن نوازِعِ الهوى، يلبسُ الجديد ويشكرُ الحميدَ المجيد من في فرحٍ لا يُنسِي، وبهجةٍ لا تُطغِي.
لا يسعَدُ بالعيد من عقَّ والدَيْه، وحُرِم الرضا في هذا اليوم المبارَك السعيد، ولا يسعدُ بالعيد من يحسُد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وليس العيد لخائنٍ غشَّاش يسعى بالفساد بين الأنام، كيف يفرحُ بالعيد من أضاعَ أموالَه في ملاهٍ مُحرمة، وفسوقٍ وفُجور؟ ليس له من العيد إلا مظاهرُه، وليس له من الحظِّ إلا عواقِرُه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ثم اعلموا - رحمكم الله - أن من أعمال هذا اليوم أن من أعمال هذا اليوم: إخراج زكاة الفطر، فأخرِجوها طيبةً بها نفوسُكم، ومِقدارُها صاعٌ من غالب قُوت البلد؛ كالأرز والبُرِّ والتمر، عن كل مسلم، ووقت إخراجها الفاضل يوم العيد قبل الصلاة.
ومن مظاهر الإحسان بعد رمضان: استدامةُ العبد على نهج الطاعة والاستقامة، وإتباعِ الحسنةِ الحسنة، وقد ندبَكم نبيُّكم محمد - صلى الله عليه وسلم - لأَن تُتبِعوا رمضان بستٍّ من شوال؛ فمن فعل فكأنما صام الدهر كلَّه.
تقبَّل الله منا ومنكم الصيامَ والقيام وسائر الطاعات والأعمال الصالحات.
ثم صلُّوا سلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال - عزَّ قائلاً عليمًا -:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافَك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيِّد بالحق والتوفيق وبالتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا، ووفِّقه لما تحب وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، وارزقه البطانةَ الصالحةَ، وأعِزَّ به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى، ووفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم للحق والهدى، وكل ما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وبسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم احفظنا من شر الأشرار، وكيد الفُجَّار، وشر طوارق الليل والنهار، اللهم يا ذا الجود والمنِّ؛ احفظ علينا هذا الأمن، وسدِّد قيادته، وقوِّ رجاله، وخُذ بأيديهم، وشُدَّ من أزرهم، وقوِّ عزائمهم، وزِدهم إحسانًا وتوفيقًا، وتأييدًا وتسديدًا، اللهم واشفِ مرضاهم، وارحم شهداءهم، واحفظ أُسَرهم وذرياتهم يا رب العالمين.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مسَّهم الضُّرّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكَت دماء، وقُتِلَ أبرياء، ورُمِّلت نساء، ويُتِّم أطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين، ويا مُنجِي المؤمنين، انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى كلمتَهم، ولِّ عليهم خِيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم ارفع عنا وعنهم الغلا والوبا، والربا والزنا، والجُوعَ والعُرِيّ، والزلازل والمِحَن، وسوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، وتقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وصيامَنا، وقيامَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
[البقرة: 201].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وأستغفرك وأتوبُ إليك.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.