الإعجاز القرآني في منظور علم النفس المعاصر
موضوع لقائنا هذا سيتناول مظهر الإعجاز القرآني في ما أسفرت عنه البحوث في علم النفس الاجتماعي الحديث. وقد دعت الضرورة إلى عقد مقارنة بين ما توصل إليه رواد هذا العلم مما تم البحث فيه من التفاعلات البشرية لمحاولة فهم جوانب من السلوك البشري من خلال تجارب أجريت في جامعات متخصصة في العلوم الإنسانية في شتى بقاع العالم، بما سبق وأشارت له النصوص في القرآن الكريم – وهو الكتاب المحكم الذي لا يطاله ولا يأتيه الباطل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها- تلك الإشارات التي تناولت بصورة شاملة كل التصرفات البشرية بالتفصيل المستفيض، إذ لم تترك جانبا من جوانب التفاعلات الاجتماعية إلا وبيّنت ما يخفى وأوصت بما يرفع من مستوى العلاقات إلى ما يجزى عنه من جنس ما بنيت عليه تلك العلاقات من نيات لا سبيل للعلم لكشفها إلا عن طريق استقراء نتائج التجارب التي لا تعبّر إلا بواسطة نسب ومعاملات تفرزها الإحصائيات بما لا يخلو إلا نادرا من رواسب الظن. ونظرا لما سيتاح لنا من مجال زمني قصير، سنحاول التطرق إلى موضوع التحية التي تبتدئ بها كل علاقة بين اثنين من الناس أو أكثر؛ بها يبدأ التعارف وعلى صيغتها تنشأ تصورات لدى الملقي والمتلقّي أي المسلّم والمسلم عليه بمنظور الإسلام، على أن نواصل مناقشة موضوع الإعجاز القرآني من منظور علم النفس المعاصر في لقاءات لاحقة، حيث سنتناول عمليات التفاعل الاجتماعي وكيف يتطرق لها النص القرآني الحكيم، وننظر فيما يواجه علم النفس الاجتماعي من صعوبات في بحوثه ودراساته العلمية البحثة .
فبظهور علم النفس الاجتماعي غدا المتخصصون فيه يتدربون ويكتسبون خبرات في تحول اهتماماتهم عن مجال الدراسات النفسية البحثة، إلى نظرات تشمل كل دقائق ما يجري في المحيط الاجتماعي مما يترك أثرا في تفكير العامة من الناس وفي مشاعرهم وسلوكاتهم وتفاعلاتهم في ما بينهم. ومن هنا بدا اتساع المنظور ليجعل من علم النفس الاجتماعي ميدانا علميا يتلمس المتغيرات الكامنة وراء ما يطبع بطابعه العمليات النفسية تبعا للمؤثرات الاجتماعية المتعددة التي تدخل في تشكيل الشخصية كما تبدو للناس.
ومن هذا المنطلق يهتم عالم النفس الاجتماعي بالخبرات الاجتماعية المتكررة بصورة نمطية تؤثر على الحياة العامة للمجتمع؛ فيجري التجارب ويكون النظريات ويقيس بشكل أدق ما يتناوله بالدراسة من متغيرات. وقد تعرض له في دراسته حالة خبرات اجتماعية شاذة في نوعها وأثرها نظرا لارتباطها بظروف خاصة، وهذه الخبرات ليس بنفس أهمية سابقتها المتكررة بصورة دائمة.
ولنبدأ بإلقاء نظرة على عملية تتكرر في حياتنا باستمرار؛ ولنأخذ على سبيل المثال عملية التعارف التي تحصل بين شخصين كل منهما من بلد أو من منطقة مختلفة – وسنغض الطرف هنا عن ديانة الشخصين لنعود إليها بالتفصيل لاحقا- وقد لا يرى الشخص العادي أي تعقيد في هذه العملية البسيطة كما يظن البعض بينما هي جد معقدة وتحتاج إلى دراسة مثل ما قام به العلماء أمثال "سكينر" الذي أصدر كتابا طرح فيه خطة جذرية لتحسين حياة المجتمع ووضعية الإنسان. حيث رأى هذا العالم أن الإنسان نظام سلوكي معقد يتشكل كل عنصر منه بالتفاعلات الاجتماعية التي تنشأ منذ سن الطفولة، ويعتقد "سكينر" أن الاعتقاد بكرامة الإنسان و بحريته لا يعدو كونه ادعاءات تقف عائقا في وجه التقدم الإنساني؛ ولتتحسن أوضاع الإنسان يجب الأخذ بأسلوب تطور مستقبلي يعتمد التخطيط يتيح التحكم في آليات صنع المستقبل من خلال التفاعلات الاجتماعية وتفاعل الإنسان مع بيئته، إذ أن هناك كما يقترح "سكينر" أساليب موثوقة لتطبيق إجراءات الإشراط التي يمكن أن تعيد بناء ثقافة بأكملها.
وبالعودة إلى ما توصل إليه كل من "جون تيبو" و "هارولد كيللي" من أن التدعيمات الاجتماعية تحدد مدى استمرار التفاعل الاجتماعي أو قطعه نجد أن ما توصل إليه علم النفس الاجتماعي في دراسته لعملية التعارف والاتصال وتكوين الجماعات يعتمد جوانب من التعقيد بمكان تتجلى في تقديم الذات والتدعيم والرفض والقبول للآخر وما يماثلها من عمليات تفاعلية قد سبق إلى بيانها الخالق في كتابه الكريم بدء بالتحية وبأسس التعامل داخل البيت ومعاملة الجار إلى أصول المتاجرة ثم التعامل مع المجتمعات على اختلاف عقائدها وهوياتها.
وسنخصص حديثنا في هذه العجالة لأثر التحية في عملية التفاعل الاجتماعي وسنحاول إبراز نظرة الإسلام لما يترتب على التحية من رد فعل وقبول واحترام للآخر.
التحية لغة واصطلاحا:
لا يخفى أن التحيّة مشتقة من الحياة، يقال: حييت فلاناً بمعنى قلت له: (حيّاك الله)، أي أبقاك الله وعمرك عمراً صحيحاً، فإن التحية إنما تستعمل في العمر الصحيح، دون ما كان مريضاً مرضاً شديداً؛ إذ نحيي المريض بالدعاء له بالشفاء العاجل بعد "السلام عليكم" ولا يليق أن نقول له أبقاك الله لكي لا يفهم من دعائنا أبقاك الله على حالك.
والمراد بالسلام في كلام من فسّر التحية به؛ كل ما يكون دالاً على طلب السلامة، فيعم غيره أيضاً، ولذا لم يكن تفسير مطلق التحية السلام، فإذا قلنا لزيد: (سلام عليكم) أي أن تكون سالماً وسليم البدن والعقل. وأما قولنا: (السلام على الأموات) إذ لهم في الآخرة أيضاً كما في الحياة الدنيا سلمٌ وغير سلم، فنطلب إما من الله سبحانه وتعالى أو بقصد التحية، أن يكون للذين لحقوا بالدر الآخرة سلام هناك.
والتحية عرفاً اسم لنوع خاص من التكريم والاحترام الذي يستعمله عامة الناس عند ملاقاة بعضهم البعض، أو في رسائل يكتبونها، أو ما أشبه ذلك، فالتحية أعم من السلام، بدليل قول الله سبحانه وتعالى (تحيتهم فيها "سلام").
ويمكننا ملاحظة اتفاق معظم شعوب الأرض على أن مفهوم التحية هو إعطاء الأمن والطمأنينة والسلام لمن نحييهم، إلا أن أنماط وطرق التحايا تختلف من شعب إلى آخر، تبعا للمعتقدات والأعراف والثقافات. وإن ما يهمنا في هذا الباب؛ أن التحية هي العملية الأولى للتعارف في أغلب الأحوال، وتكون عبارة عن فاتحة لتقديم الذات للآخر عموما. وفن تقديم الذات صار موضوعا مهما في مجالات عدة تخص الاتصال بالعموم أو بالزبائن في مجال السياحة والأعمال التجارية، وهذا مجال اهتم به علماء في علم النفس الإداري وفروع أخرى، ووضعوا له قواعد خاصة نذكر منها ما أورده د.عبد الرحمن الشلاش في مقال له نشر بجريدة الرياض بالعدد 14351 يقول:
هناك كثير من المهارات التي يجب على الفرد امتلاكها ليقدم انطباعا حسنا وصورة ذاتية براقة وزاهية للآخرين خلال هذه الدقائق المحدودة ومن أهمها ما يلي :
1- الاهتمام بالمظهر الخارجي والهيئة التي تتم بها المقابلة وتتمثل في الملبس ووضع الجسم وطريقة الجلسة ونبرة الصوت وأسلوب المقابلة.. والسلوكيات غير الكلامية مثل الإيماءات وتعابير الوجه والالتفات والتركيز.. الخ.. فنبرة الصوت الحادة مثلا تدل على السلوك العدواني.. والتركيز في النظر على كل الأشياء يدل على الفضول.. والانشغال بين وقت آخر بالهاتف الجوال يدل على عدم اهتمامك بالمقابل.. وهكذا
2- التعريف بالذات: ويتم عن طريق المشافهة أثناء المقابلة ويشمل وصف الذات والتعبير عن موافقة أو عدم موافقة الآخر.. وشرح الموقف وطريقة الاعتذار أو التأييد أو الثناء على الطرف المقابل ولابد أن يبتعد الفرد ما أمكن عن الحديث عن الذات والإنجازات الشخصية.. أو عتاب الآخرين وتحميلهم كافة المسئوليات .
3- تقديم الفرد لرؤيته وأهدافه بصورة واضحة.. والتفاؤل والتقليل من التذمر والتشكي والهدوء والإنصات وعدم المقاطعة والابتسامة والرد بقدر السؤال.
ونرى في هذا الاقتباس صبغة من توصيات علم النفس المعاصر بما يجب أن يكون وما لا يجب في سلوك من يقدم نفسه للآخرين كي ينال القبول والرضا. وقبل كل هذا نجد التحية تتصدر كل السلوكات المرغوبة، إذ أنها تمثل المدخل الأساسي للتفاعل البشري، وقد صنف الكثيرون التعابير غير اللفظية في إطار التحية باعتبارها رمزا للإقبال على معاملة مع الغير. ثم إن من هذه الرموز ما يعتبر واجبا ضروري التنفيذ مثل التحية العسكرية وتحية الكشافة وما يدخل في حكمها... ولن نضيف أكثر بالدخول في عملية المصافحة باليد أو بحك الأنف لكون المصافحة مرحلة أخرى تلي التحية.
ونعود لعلاقة التفاعلات البشرية بالتعاليم الدينية، فنجد أن البشر أينما وجدوا على سطح الأرض وفي أي زمن وجدوا، كانت لهم ديانات فلا يكاد يوجد شعب أو تجمع بشري دون عقيدة تنظم تعاملهم مع بعضهم ؛ يقول محمد عابد الجابري رحمه الله "...فقد عمد علماء أصول الدين في الإسلام إلى التماس الجواب لا من الدين الإسلامي وحده بل من جميع الأديان السماوية. وهكذا قاموا باستقراء الغايات والأهداف والمقاصد التي تشترك فيها الأديان السماوية والتي تبرر بعثة الرسل، فوجدوها ترجع إلى مبدإ واحد، وهو أن جميع الديانات السماوية إنما تهدف من وراء مختلف تعاليمها، أوامرها ونواهيها، إلى شيء واحد، هو مصلحة الناس، مصلحة البشرية كلها." وخاتمة الديانات جاءت بما يكمل النصوص التشريعية السماوية، فكانت المعجزة المستمرة في الزمن والفكر. ذلك أنها لم تترك جانبا من الحياة إلا ألقت عليه نور البيان وفصّلت العمليات الداخلة فيه أيما تفصيل. وفي موضوعنا الذي نخوض فيه، شرع الإسلام تحية لفظية جامعة مانعة بقول المحيي للمحيا: "السلام عليكم"، تحية وردت في القرآن الكريم بهذه الصيغة ست مرات:
1. في سورة الأنعام 54 ".. وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة .."
2. وفي سورة الأعراف 46 ".. ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون"
3. وفي سورة الرعد 24 ".. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار .."
4. وفي سورة النحل 32 ".. الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون .."
5. وفي سورة القصص 53 ".. وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين "
6. ثم في سورة الزمر 73 ".. حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين "
وجاءت بصيغة "سلاما" ثماني مرات:
1. سورة الواقعة 26 ".. إلا قيلا سلاما سلاما."
2. سورة هود 69 ".. لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام.."
3. سورة الحجر 52 ".. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون .."
4. سورة مريم 62 ".. لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا .."
5. سورة الأنبياء 69 ".. قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم .."
6. سورة الفرقان 63 ".. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .."
7. سورة الفرقان 75 ".. يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما.."
8. سورة الذاريات 25 ".. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون.."
ولمن يتدبر ما في هذه الآيات يجد أن المواقف الذي تلقى فيه التحية مختلفة لا تقتصر على تقديم الذات أو المبادرة فقط مثل "إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما.." بل تتعداها إلى موقف يحد من الجدل مع الجاهلين وموقف إبطال مفعول النار وقلبه إلى برد وسلام "نجاة من الشر المعهود في النار" وموقف التهنئة والتنويه بعاقبة الصبر ... والمقصود بالكلام هنا أن التحية في الإسلام تحمل لطفا ولينا وحسن سلوك في موقف يستدعي ما يليق بالمقام، بينما تلقى لحسم موقف الجدال دون عدوانية أو تطاول وهذا ما يضمن الانصراف إلى موقف آخر غير المتنازع فيه حتى في حالة عدم الاتفاق حول موضوع ما تجنبا للقول الفاحش أو النطق بما قد يجعل الوضع يتفاقم إلى مالا تحمد عقباه... وإن كان الناس يسعون إلى الحرص على التوافق وخلق الوئام فيما بينهم فهل هناك من تشريع يعلو على ما جاء في الكتاب الحكيم في المبادأة بالتحية الإسلامية؟ هنا تكمن صورة الإعجاز في مجال ترويض النفس البشرية على البدء والإنهاء بقول لا يثير الحفيظة ولا يشعل الفتن.
هناك وجه آخر لتنظيم السلوك، سبق به القرآن الكريم كل التشريعات البشرية، ويتجلى في قوله سبحانه؛ في سورة النساء 148 ".. لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم.." وهي صورة لموقف المجاهرة بالسوء من القول في عموم الأحوال مع استثناء لحال المظلوم الذي قد يفيض به الشعور بالإهانة أو ما يشاكلها. فليس للمؤمن أن يسيء القول وهو يحمل بين جنبيه نفسا تنعم بالهدوء والانسجام فيكون ذا رد فعل متوازن يراقب الله في أفعاله وأقواله. ولا يغيب عنا قول الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه " ما الشديد بالسرعة ..." ثم لنتدبر الآية الكريمة من سورة آل عمران 134: ... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ..." ولعلنا نلاحظ أن المسلم في كل العالم مهما بلغ به غيظه، يردّ السلام على من يبادره بقول "السلام عليكم" ثم يعرض حالة غيظه بعد ذلك على من قد يتدخّل ليهدّئ من حاله.
أثر التحية الإسلامية :
وبقراءة الآية 86 من سورة النساء " وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ..." نقف على وجوب ردّ التحية إذ لا يجوز أن تلقى علينا التحية ونصمت لأن ذلك يعتبر خروجا عن العرف العام الذي لا يخص المسلمين دون غيرهم. وقد جاء في تفسير الطبري : قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا حييتم بتحية"، فحيوا بأحسن منها أو ردُّوها"، يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم "أو ردوها" يقول: أو ردّوا التحية.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة"التحية" التي هي أحسن مما حُيِّيَ به المُحَّيي، والتي هي مثلها.
فقال بعضهم: التي هي أحسن منها: أن يقول المسلَّم عليه إذا قيل:"السلام عليكم"، :"وعليكم السلام ورحمة الله"، ويزيد على دعاء الداعي له. والرد أن يقول:"السلام عليكم" مثلها. كما قيل له، أو يقول:"وعليكم السلام"، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له.
وفي تفسير ابن كثير: لسورة المجادلة (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
قال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه، إذ أتى عليهم يهودي فسلَّم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون ما قال؟". قالوا: سلم يا رسول الله. قال: "بل قال: سام عليكم، أي: تسامون دينكم". قال رسول الله: "ردوه". فردوه عليه. فقال نبي الله: "أقلت: سام عليكم؟". قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك" أي: عليك ما قلت
وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح، وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها.
نرى هنا التحدي الكبير الذي جاء به النص القرآني في إبراز ما يجول في دواخل النفوس إن أريد بالتحية غير وجهها المقصود لفظا ونيّة. وهذا ما لا يستطيع أي عالم –بشر- أن يحيط به مهما أوتي من وسائل لكشف ما يحدث في خبايا النفس. وجاء به الكتاب الحكيم مبينا ما يبيت ذوو النفوس الخبيثة قائلا : "حسبهم جهنم" وأكبر تحد هنا يكمن في أن المقصودين بهذه الآية كانوا على أشد الكفر ولا سبيل إلى إسلامهم؛ وهم في عدائهم للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، كانوا يسعون لتكذيبه مهما كلفهم ذلك، ولم يدخلوا في الإسلام. ولو أنهم أسلموا لكان التحدي بشريا لأنه سيلزم حجب ما ورد في النص في حقهم. وكذلك كان الشأن مع أبي لهب...
وفي كتاب ابن شهر: مناقب آل أبي طالب: ج4 ص18 فصل في مكارم أخلاقه قال:
(حيّت جارية الحسن ابن علي رضي الله عنهما بباقة ريحان، فقال لها: أنت حُرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال: أدبنا الله تعالى، فقال: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) ، وكان أحسن منها إعتاقها). نجد هنا أروع صورة لطاعة الله وصورة تقارب المستحيل عند غير المسلمين أن يحييك شخص بما ترضى فترد عليه بمنة تستمر مدى حياته بأن تعتقه من الرّق في ذلك العصر، أو تقضي عنه دينا في زمننا ...
يرى بعض الفقهاء أن الظاهر جواز ابتداء غير المسلم المسالم بالسلام، للأصل، ولقوله سبحانه وتعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) سورة الممتحنة 8 وهذه صورة أخرى مما يدعو له الإسلام في التعايش السلمي بين الأمم إذ يقرر أن الإحسان لغير المسلمين ممن لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم وبرّهم لم يوجب نهيا فهو من المستحسن من سلوك المسلمين ومن أقلّ وجوه البرّ أن يلقوا التحية.
وإن كل البحوث الجارية حاليا بشكل مكثف تسعى لفهم السلوك البشري بطريقة علمية تعتمد التجربة والإحصاء في معظمها تترك جانبا جد مهم يمكنها أن توفر الجهد والوقت إن هي اعتمدته كمصدر للمعرفة؛ إسوة بما تعتمده دراسات أخرى كالقانون مثلا. وهذا الجانب هو المصدر النصي الذي جاءت به الديانات السماوية، والذي باستقرائه يمكن استخلاص أن التشريع السماوي جاء لتقرير مصالح الناس على وجه الأرض يوجزه الباحثون في ثلاثة أصناف:
1 - الضروريات.
2 - الحاجيات.
3 - التحسينات.
وقد اقترح الكثير من العلماء تصنيفات عليها بنيت قواعد التعامل مع البشر من طرف الهيئات والمؤسسات على اختلاف وظائفها في المجتمع مثل التصنيف الذي ذكره العالم مازلو في تدرج الحاجات والعالم إريكسون الذي كتب في نفس السياق ما يفيد أن للإنسان حاجات تقابلها تطلعات النفس البشرية لبلوغ ما رسمت من أهداف في الحياة. ونرى أن كل ما كتب حتى يومنا هذا مازال يتخبط في محاولات التنبؤ بالسلوك حيال المواقف التي تعرض للإنسان في حياته، وما يواجه تلك المحاولات من صعوبات جمة تفرضها طبيعة الإنسان كموضوع لكونه ذاتا عارفة مدركة تحتفظ بصنع القرار في دواخل النفس التي ليست محددة الأبعاد بالدقة التي تعرفها الموضوعات في العلوم الطبيعية.
غير أننا بالنظر لما ورد في النصوص المحكمة نجد أن هناك مرجع هو الأهم يخبرنا بأن الخالق يعلم السر والنجوى ويعلم ما توسوس به نفس الإنسان للإنسان. وإن نحن اعتمدنا هذا المرجع سنحسم عدة إشكالات بإيماننا بما جاء في النص القرآني وفي السنة الشريفة تفسيرا وقياسا واجتهادا.
لذا نرى أن من الضروري إشراك علماء أصول الدين في إبداء الرأي أو الفتوى في عدة جوانب من علم النفس المعاصر إن أردنا الإلمام بموضوع الإنسان. لأن بقاء هؤلاء العلماء خارج الدائرة العلمية المعاصرة يشكل جمودا يبقي المصدر اليقيني الأول للمعرفة بالنفس البشرية مغيّبا مما يحيط الموضوع بمزيد من الغموض.
د. عبد المختار زادني