إعادة إحياء الأثرياء إدارياً
الصفحات من 197 -232
(1)
في التسعينات من القرن التاسع عشر، كانت الطبقة الحاكمة الأمريكية قد أصبحت بدينة وفاسدة. وكان أفرادها هدفاً لإهانة معنوية من قبل الإصلاحيين ومحّط سخرية الهجائيين مثل (ثورشتاين فبلين) الذي اعتبر تبذيرهم إسرافاً في عملية تبني أساليب طبقة ثرية حاكمة على وشك أن تصبح قديمة الطراز.
كانت مراهنات (فبلين) وغيره الذين كانوا يتوقعون انهيار تلك الطبقة ليست في محلها، وإن كان (فبلين) يضع سيناريو لهذا الانهيار، لأن الطبقة الثرية الحاكمة في نظره والتي أصبحت نتيجة تنعمها بأوقات الفراغ، عديمة الخبرة والكفاءة في إدارة الشركات العملاقة. فقد انتبه هؤلاء الأثرياء الى استخدام طبقة محترفة من التقنيين، وأغدقوا عليهم بالرواتب ليكونوا هم القيادات الحقيقية لتلك الشركات.
لقد حدث انعطاف شديد منذ أيام الرئيس (ثيودور روزفلت) في التسامح في إدخال غير (الأنجلو سكسون البيض) الى دائرة النخب الإدارية والحاكمة، حتى لو كانوا كاثوليك أو يهود أو سود.
كما أُدخل فرع جديد في النشاط الإداري، وهو العلاقات العامة التي كانت مهمتها نزع الصورة عن تلك الطبقة بأنهم (أقطاب سرقة) وتحويلهم في نظر الناس الى (رجال دولة صناعيين، ومُحسْنين تقدميين!).
بمحاذاة ذلك، كان (الاستعراق) أي تفضيل العرق الأبيض المسيحي والرياضي يتم التركيز عليه في شؤون التربية والأخلاق، وهذا السلوك (مستوحى من إنجلترا).
وانتشرت ظاهرة (التنفجية) [ التنفجية: مصطلح يبدو أن المترجم نحته نحتاً أو واضعه مواضعة، فهي بلسان العرب الوثوب والتكبر والعلو، وإن ما قصده المترجم من محاكاة علية القوم لمن هم أدنى منهم باللباس والصراخ ولكن دون إخفاء أنهم يستعلون على من حولهم. هذه الظاهرة لا زالت منتشرة في الولايات المتحدة، وغيرها من دول العالم بظهور الرؤساء بملابس غير رسمية أو مشاركتهم الآخرين أفراحهم ورقصاتهم، مع التندر على الآخرين، أثناء ممارسة تلك العادة (الظاهرة)].
(2)
ظهر في تلك الفترة ملامح من الإيمان القوي بضرورة التناغم بين الجسد والروح، فكان الرجل الجدير بالقيادة والاحترام من طبقة الأغنياء، هو ذلك الرجل ذو الجبين العريض وشعره مرفوع الى الخلف والى الأعلى ليدلل على نمو دماغه الكامل.
وهناك من أفرط في الأناقة، حتى أنه يُحكى عن رجلٍ يدعى (بيري وال الأنيق) أو كما كان يعرف ب (ملك المتأنقين)، إذ ظهر في أحد أيام أغسطس/آب بأربعين بدلة مختلفة في يوم واحد، كان يحتفظ بها في غرفة بفندق (ساراتوغا سبرينغر)*1
وقد كانت العضلات المفتولة قد رُبطت بالقدرة الذهنية، ولعل الرئيس (تيودور روزفلت) قد جسدها تجسيداً كاملاً. فقد كان في بداية حياته ضعيف البصر مصاب بالربو، وقد حول صراعه الخاص للتغلب على الضعف الى درس لقنه لكل أفراد (الطبقة الرائدة). فقد أخبره الطبيب وهو في الثانية عشرة من العمر، بأن عليه مزاولة التربية البدنية القاسية وإلا فإن عقله سيصاب بالوهن.
ويذكر أصحابه كيف تحول هذا الطفل الوديع الى رياضي يحدث في لعبه ضجيجاً وصخباً، وكيف أنه امتنع عن شرب الخمر وممارسة الجنس، وحول ذلك السلوك الى نظرية قريبة من الإيمان، ولكي يجعلها كذلك انتمى الى أندية مسيحية وجمعيات محافظة.
ويروي هو، كيف أنه ضرب متنمراً حاول اللمز بشخصيته: فيما كنت أنهض وجهت ضربة باليمنى سريعة وقاسية الى فكه وضربة باليسرى عندما وقفت منتصباً وقد سقط على الأرض... ففي بعض الأحيان، يكون على المرء القيام بما يتوجب القيام به ـ حتى وإن كان رجلا نبيلا ذا سلوك حسن...كان الجسد والعقل عند روزفلت متصلين بصورة كاملة*2
وقد تسللت مواصفات الأمريكي القوي والوسيم الى الروايات والأفلام فهي عند (ويسر) في روايته (الفرجيني) نبيل مخشوشن ذو سلوك حسن قليل الكلام بطيء الغضب ولكنه متمسك بحسه الدمث بالسمعة الطيبة وهو في المنزل متحمل لمسؤولياته حيال العائلة، وحيال الرفاق أيضاً والنساء المهذبات*3
وقد شدد الفيلسوف البراجماتي (وليام جيمس) على ضرورة أن تبتعد الفلسفة على إيقاع الخريجين في فخ الاستغراق بالتفكير وتحويلهم الى عالات يفتقرون الى الشخصية الفردية والرجولة الصريحة... ودعا الى سحب الشبان الأثرياء للعمل في مناجم الفحم الحجري والحديد وقطارات الشحن وأساطيل الصيد وغسل الصحون والثياب وسبك المعادن وفتحات الأفران وتركيب هياكل ناطحات السحاب وغسل النوافذ وشق الأنفاق فهذا سيعيد المجتمع الى أن يكون أكثر متانة ورزانة*4 وكان متأثراً بأفكار (روزفلت) ورشحه ليكون رئيساً لجامعة هارفارد.
(3)
تهيئة الناشئة اجتماعياً هي أحد العناصر الأساسية لإعادة بناء طبقة حاكمة. وبينما كان (وليام جيمس) قلقاً. كان هناك المربون الأصغر سناً يجددون المدارس الإعدادية وينشئون المعاهد المتكفلة بالدور الذي أراده.
فمدرسة (غروتون) الديكتاتورية خضع طلابها لبرامج قاسية في السلوك والأخلاق والانضباط، وقد جاء باحتفالها بعيدها الخمسين أن هناك أكثر من ألف خريج من تلك المدرسة تبوؤوا مراكز قيادية (1 رئيس جمهورية؛ اثنان وزيرا خارجية؛ ثلاثة أعضاء في مجلس الشيوخ، واحد في الكونجرس، وزراء وسفراء وحاكمان على الولايات واثنان من مساعدي وزيرين للأسطول البحري ومساعد لوزير الجيش الخ.
وفي مجال الصفات المسيحية القائمة على العضلات، قدم المربون صورة واصفين إياها بأنها صراع أخلاقي صعب (وأن يكون المرء ثرياً ونافذاً يعني أن لا مكان للترهات في حياته؛ فالسلطة والألم متلازمان في هذه الحالة.
والى جانب المدارس المتخصصة بإعداد النشء، فإن النساء قد طورن ثقافتهن وأدائهن ليكون ملائما للمرحلة.
هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Lears, No Place, 26-32; Cleveland Amory, The Last Resorts ( New York: Harper, 1952), 432
*2ـ Theodore Roosevelt, An Autobiography (New York: Scribner's, 1920), 122
*3ـ Owen Wister, The Virginian (1902; New York: Penguin Books, 1988); G. Edward White, 265-273
*4ـ William James, "The Ph.D. Octopus" (1903), in Writings, vol. 2, 1902-1910, Library of America ed. (New York: Viking, 1987), 1111-18