سلطانات الرمل - رائعة لينا هويان الحسن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا مقطع رائعة لينا هويان الحسن "سلطانات الرمل"(نقل )
قُطْنَة
«كانت لا تشبه أيَّ امرأة أخرى رأيتها في حياتي، كانت أنثى مثل أنثى أي حيوان، ثمة شيء فيها حاد وموجع مثل حدّ السيف»..
* الأمير أمين أرسلان/ الذي رأى «قطنة» مرتين في عمان
«كان هذا من جيل مضى، ولكن الذين عرفوا «قطنة»، وتحدثوا معها من بني صخر والسردية كثيرون، وكثيرون هم الذين مات آباؤهم وإخوتهم «منشان عيون «قطنة»» عندما التهبت فتوتها البهية، وروت الصحراء بالدماء من تدمر حتى حدائق بغداد»..
* الكاتب والرحالة الأمريكي/ ويليام ب. سيبروك

يقيناً عندما يشذِّب العرب أنوفهم فإنهم لن يروا النجوم مجدداً، كانوا ينظرون بأنوفهم. يتلألأون طاغون جريئون معسولون، في أنوفهم دهشة الأصول والسراب حولهم يلفّق بطباشير كذبه شتى الحكايا، تطفو مثل زبد فوق ذؤابة الأفق.
يحكى أن «ابن الكنج» شيخ قبيلة السردية في بادية الأردن غزا الجزيرة الفراتية في سنة محل، رافقه أكثر من خمسمئة فارس ونهب الأعلاف من مخزن للأتراك، خلال ذلك بلغ ضفاف الفرات. وكان بياض القطن قد سيطر على محيط النهر.
بدوي على ظهر فرسه يقف على مشارف الفرات، ما الذي فتنه أكثر شيء؟!.. إنه القطن، جمالٌ في مكانه الصائب.
عند الفرات اصطبغ كل شيء بلون الهوى، الماء يسابق رغباته، وأشجار الطرفاء تنصب الأعشاش مثلما تخبئ الكمائن لشتى أنواع الطيور. لكن القطن وحده أثار دهشة «ابن الكنج»، ورأى أن القطن شطحة من شطحات الطبيعة، كان لأول مرة في حياته يبصر تلك الزهرة النقية.
عاد إلى ديرته مفتونا بذلك البياض، حدَّث زوجته التي كانت حاملاً عن جمال القطن وبعد عدة شهور ولدت طفلة بيضاء كالقطن، فسماها ابن الكنج: «قطنة».
يومها في الخارج كان الربيع بدأ، وشقائق النعمان تتشمم طريقها إلى السماء.. للريح هناك رهافة غبار الطلع، وعنوة ينفخ ريحه «الحظ» في ظهر الكلمات فتبدل أماكنها ويحدث ما يحدث...
والسراب يمزج الخدعة بخدعة، وعن بعد يتحكم بانطباعاتك حوله، يخلط الورق والتواريخ والأيام وأخيراً يبلغك يقينٌ، يقول لك: أن لا شيء نعرفه يشبه السراب غير الحب.
* * *
«ومن الأحداث المشهورة بشكل خاص الحرب التي اندلعت، بسبب وقوع «طراد بن الزبن» في غرام الفتاة الجميلة «قطنة»، أخت متعب شيخ السردية. وقد وصف بالتفصيل هذه الحرب كل من شوماخر وموزيل»
* أوبنهايم ـ «البدو ـ ج 2»
عصفة ريح تكفي لتؤرجح السراب ولك أن تتوقع احتمالات كذبته القادمة في عمق الحقيقة التي تتسع لكل القتلى الذين تسببت بموتهم «قطنة» من بني صخر والسردية والرولة من العنزة.
حين بلغت «قطنة» الخامسة عشرة كان والدها ابن الكنج قد مات وتركها في عهدة شقيقها الأكبر «متعب»، وبدأ صيت حسنها يجتاح الصحراء، وحين بلغت العشرين كانت أينما مشت سحلت وراءها العيون.. وكأن الزمن ذاته يقول لك: اصغ قبل أن تنظر، فالجمال قد يخضلك بالعمى ويغافلك وحش القدر الخرافي وتتلوى وتتشابك المصائر تحت دواليب السراب..
في ذلك الوقت كانت الصحراء تضج بتحركات القبائل وكثرة النزاعات بينها، كان بنو صخر والسردية والسرحان والعيسى والفحيلية يجمعهم حلف يسمى حلف «أهل الشمال» وهذا الحلف كان في حال قتال دائمة مع عشائر «عنزة» التي قدمت مهاجرة من نجد واصطدمت بقبائل البادية الشامية مثل قبيلة الموالي في ديرة الشمبل، وقبيلة شمر في الجزيرة الفراتية، فاضطرت «العنزة» إلى بسط نفوذها على جنوب الشام وأصبحت الحرب سجالاً دامياً بين «العنزة» وحلف أهل الشمال..
ذات مرة و بغياب «متعب» مع خيرة الفرسان عن المضارب، غزتهم عشيرة «الرولة» من «عنزة» ونهبتهم وخلَّفت واحداً من أشقاء «قطنة» قتيلاً، وعشرة مدافعين آخرين.
بعد انتهاء الغزو علا صوت عويل النساء وبزغت «قطنة» على ظهر ناقة بيضاء مغطاة بحرير أحمر و قد ضفَّرت ليرات الذهب مع شعرها ووراءها خادمتها على ناقة حمّلتها كل ذهبها وحريرها، ساقت الناقة تشق طريقها بين الرجال الذين ظلوا في المخيم، وتخاذلوا وقصروا عن اللحاق بالغزو الذي راح ضحيته خيرة من شبان القبيلة، والعربية حين تفعل ذلك كأنها تسلم نفسها للعدو لإلحاق المزيد من العار بقومها إذا ما رأت فيهم جبناً أو خوفاً.
وخرجت من فمها كلمات قصيدة شهيرة لا زالت تحفظها الصحراء، تُذلّ فيها أبناء قومها الذين تأخروا عن اللحاق بالغزو وأخذ الثأر للقتلى. وسربلتهم بالعار الذي يلحق براكبي عتاق الخيل، وحاملي حدب السيوف القابعين بالمضارب، يبكون ويندبون مثل النساء.
على أثر تلك الحادثة ذاع صيتها أكثر وراح يتقدم لها الخاطبون من أنحاء مختلفة من البوادي والصحارى.. خرافتها كانت بحجم خرافة، أن تولد «هيلينا الطروادية» في الصحراء.
الصحراء ذلك المكان الذي اختلسه الأدباء ليحركوا عليه أبطال قصصهم الرومانسية، زارها الجواسيس ليعرف التاريخ شيئاً اسمه الاستشراق، وللأنبياء سيرة أخرى مع الصحارى: إنه الوحي.
أما «قطنة»..
فيما السراب ذئباً ينام بإحدى مقلتيه.. ما زالت البوادي ترتجل حكايتها، وثمة معادلة هناك تقول: الحسناوات يشعلن الحروب ويكُنَّ سبباً بالسلام. وبعض أشكال الحب تشبه الخمر وقد صُنع من عنب الثعلب.
«قطنة» عَشقت..
حدث وأن اختار قلبُها الرجلَ الناحل ذاته الذي خاطر بحياته لتقفيز «الرثوعي» على فرسه «رفعة»، «طراد بن زبن» شيخ بني صخر، أحد الذين رأوه وَصَفهُ بقولهِ: «له جسم نمر نصف جائع».
يحكى أنها رأته وحدها مرتين فقط، أول مرة جلس صامتاً أمامها وراح يرسم بإصبعه على الرمل خطوطا متشابكة عابثة. ونهض لا فرحاً ولا حزيناً ولا قاسياً ولا رقيقاً، لكن صامتاً مثل ليلٍ شتائي غير منتهٍ. رغم أنها لم تسمع صوته في تلك الليلة، عرفت «قطنة» أن «كل صوت سواه صدى يتلاشى»، في المرة الثانية كانت ترتجف، وضحك هو، ثم قام ومضى.
في اليوم التالي قصد شقيقها «متعب الكنج»، الذي لا يكن المودة مطلقا لـ«طراد» بسبب الفرس «رفعة» التي كان يريدها له. رفض «متعب» تزويج «قطنة» لـ«طراد» وعمد إلى تقليدٍ بدوي صارم يؤكد الرفض المطلق «اذهب، ولا ترجع» ذلك لما ابتعد «طراد» حوالي خمسين خطوة عن البيت رفع «متعب» مسدسه وأطلق ثلاث طلقات نحو السماء، رسالة على الطريقة البدوية تقول : «إذا عدت ستقتل» خلالها لم يلتفت «طراد»، أكمل دربه قاصداً شيخ مشايخ قبائل الأردن وهو رجل لا يرد «متعب» له طلباً، لكن متعباً كان أسرع منه حين أعطى كلمته لشيخ عشيرة «الرولة» أكبر عشائر عدوتهم اللدودة «عنزة»، وعرفت الصحراء أشهر مهر دفع لعروس.
كان مهر «قطنة» يتضمن، خمسمائة ناقة بيضاء وثلاثين بندقية وستين حمل جمل من الحبوب وسروجاً وبسطاً، أي ما يعادل تقريباً نصف ثروة قبيلة.
الجميع ظنوا أن «قطنة» ستكون سبباً للسلام بين عشيرتين متحاربتين منذ عهود طويلة. منذ ذلك الزمن الذي جاءت فيه قبيلة العنزة من نجد وزاحمت السردية التي كانت على قدر كبير من الصولة والجولة في حوران والمناطق المحاذية لها جنوباً، فالسردية كانت قد امتلكت حق مرافقة قوافل الحج، وحاز شيوخها امتيازاتٍ كثيرة، منها لقب شيخ حوران، لكن «عنزة» سلبتها مكانتها في نهاية القرن الثامن عشر. وبين وقت وآخر كانت تعلو صيحة حرب السردية «شمّا بنجه» مقابل نخوات «عنزة» الكثيرة. وانتقل حق مرافقة قافلة الحجيج إلى «العنزة». رغم أن زعماء السردية حافظوا أول الأمر على لقب شيخ حوران وتلقي عباء شرفية وأسلحة خلال الاحتفالات السنوية بتجديد منحهم اللقب، وقدموا بالمقابل فرساً إلى والي دمشق تعهداً بتقديم القوات والإمدادات وقت الحرب، بالمقابل واصلوا أخذ الخوة من قرى النقرى والجولان وعجلون ومعان والسلط وبعض قبائل جبال حوران، لكن حقوقهم تلك أضاعتها سنين القرن التاسع عشر، إلى أن وصل بهم الحال ليصبحوا ممحوقين بين قبيلة «الرولة» من «عنزة» و «بني صخر» الذين تحالفوا معهم في وجه الرولة.
فراراً أيها السراب المتنكر بثياب غزالة.. بلا لجام ومهاميز، غادر صورك العطشى حيث لا ممرّ، لا طريق، وغازل «البخت» لعله يفتح لك درباً تمرق منه حافياً..
زُفت «قطنة»، كان صوف خروف أبيض مبقع بدم بكارتها معلقاً على عمود خيمة عرسها، و «طراد» في قلبها.
في ليلة دُخلتها عوت الذئاب وجاوبتها الكلاب، وعرفت «قطنة» أن الحرب قادمة. وعقب زفافها بأيام عثر العبد الذي يعد القهوة على حيّة ميتة ممددة في وسط البيت، وحزرت «قطنة» بأن خسارة كبيرة ستنال مال زوجها.
في تلك الليلة بالذات، أغار «طراد الزبن» على ظهر فرسه الشهيرة «رفعة» مع خيالته من «بني صخر» على عشيرة الشيخ «سطام» زوج «قطنة» وخلف القتلى وراءه، وساق الكثير من إبلهم وهو يصيح: «منشان عيون قطنة» ونشبت الحرب بين القبيلتين.
في تلك الليلة فجراً صاحت الثعالب مثل بنات آوى، وعرفت «قطنة» أن المناحات قادمة لا محال.
أرض متورطة سلفاً بلعب التاريخ. والسراب هناك هو الحاكم الذي داس أبداً على رفات الماضي، فيما الفراغ مثل ضباب لا مرئي يمشي، يتشابك مع الدروب، ليصنع حيرتك، وأنت تقف على مفترق لأكثر من درب ترابي عتيق شقّه يوماً حدس وحسب، وكل الدروب مشغولة وفق منطقهم اللامبالي بالاتجاهات والمسارات، لا قانون لوجهاتهم.
بعض الدروب تسلكها رغم أنه ثمة ما يلوح يؤكد أنها دروب مخادعة، لكنك تستمر في خطئك، جمال فريد ذلك الخطأ الذي يظل يذكرك بكل ما هو عابر.
خلال أقل من سنة مات الكثيرون «منشان عيون قطنة» وأنجبت «قطنة» طفلة كارثية الجمال سموها: «عنقا».
ليس هنالك ما هو أصعب من كره النساء للنساء، إنه البغض بعينه. انصبَّ الكره الأعمى على «قطنة». كرهتها النساء وتربصن بها كلما خرجت من خدرها ورافقن خطوها وهن يهمسن بخفوتٍ أقسى اللعنات. و دعونها: حُرْمة دِما، وحُرْمة «حمرا». تسمع كل ذلك وتلوذ بكبريائها بصمت، تتجاهل همسهن الغاضب وتكمل طريقها.
صباح يوم انتفش ذيل حصان زوجها وعرفت أنه ذاهب إلى حرب قد لا يعود منها، وعقب مذبحة أخرى فعلها «طراد» بحق عشيرة الزوج خرجت «قطنة» إلى النساء اللواتي تجمَّعن أمام خيمتها وقد ارتدت الحرير الأحمر القاني وهي تصيح بهن بثقة: «انظرن ، أنا هي الحرمة الـ«حمرا» حرمة الدِما، انظرن كم هي فاتنة»، خلال ذلك عاد زوجها من الحرب، كان جريحا في كتفه ومضمداً، رأى جرأة «قطنة» وحزن نساء عشيرته، كان لا فرار من العقاب، سحبها إلى المحرم ومزق الحرير وانهال بالخيزران على ظهرها العاري. اغتسلت بدمها ولم تصدر منها أنة وجع، خرج وقد اختلط دم جرحه بدماء ظهرها.
بعد أيام حدثت حرب أخرى هزمهم فيها «طراد» هزيمة مذلة، وهجمت النساء إلى منزل «قطنة»، وتلك المرة لم تسكت، واجهتهن بالشتائم، وخلال ذلك قالت ما لا يغتفر: «تنجبن غنماً ليذبحهم «طراد»، اذهبن إلى «طراد»، واستلقين على ظهوركن لتنجبن الرجال»، قالت ذلك وجثت أمام «سطام» وعرضت حنجرتها لسيفه.
بعض البشر كانوا ـ في أغلب الظن ـ مصنوعين من الأنوف، أنوفهم تصلصل، ترن، تعصف، لا تأفل. موعظة حقيقية تعلمك معنى أن ترفع أنفك وتنفث نرجسيتك مثل ماء سيل عجول ناعمة مهددّة، مزودة بطبائع الجارفين، إضافة إلى أنها نحت بارز في الصخر.
لم يطاوعه قلبه، لم يستطع أن يقرب حدَّ سيفه من عنق طالما قبله متلذذاً، لكنه طلقها. ويممت وجهها صوب العراء.
في ذات الليلة أخَذَت الماء والخبز وعلى ظهر «ذَلول"() اتجهت إلى ديار بني صخر حيث «طراد». كان الوقت ربيعاً من النوع الذي يسميه البدو ربيع «الصفارى» حيث لا تنمو إلا الأزهار الصفراء، وبعد منتصف الليلة الثانية أناخت «ذلولها» عند أول خيمة بلغتها عند أطراف المخيم. كانت عطشى وجائعة. الخيمة كانت لراعي غنم فقير بلع دهشته من امرأة فاتنة على «ذلول» تأتي في منتصف الليل.
كانت تشرب الماء، حين تيقن الراعي أنها «قطنة» بذاتها، جمالها لم يكن يخفى على أحد، ذبح لها جديا صغيرا ووضعه بالقدر وسألها: «هل أذهب وأخبر طراد»؟!.. أحنت له برأسها وغادرها وهو يقول لها بأن «طراد» وراء التل التالي و إذا ما تأخر عليها فلتتولى أمر اللحم وتأكل ما طاب لها من الأكل.
هرع إلى «طراد»، وعندما وصل إليه طلب أن تكون البشرى ناقتين وفرساً وعشرة مواعز وعشرين شاة..
قال «طراد» قولاً شهيراً تحفظه الصحراء كلها: «إن كانت «قطنة» قد تركت سطام من تلقاء نفسها أعطيك ثلاثة أضعاف ما طلبت، أما إذا تركته رغما عنها عماني الله إذا نظرت إلى وجهها».
لما رجع الراعي كانت «قطنة» تقرب أول قطعة من لحم الجدي إلى فمها، هتف الراعي بلهفة السؤال: «قولي يا«قطنة» بأنك تخليت عن سطّام من تلقاء نفسك»، لم يفت «قطنة» الحديث الذي دار بين الراعي و«طراد»، قبّلت قطعة لحم كانت تهم بأكلها امتناناً للراعي وألقتها على الرمل، كان الراعي آخر من رآها.
في ذلك الفجر بالذات بَرَحَ عن شماله قطيع غزلان إلى يمينه والعرب يتشاءمون من قطيع الغزلان البارح... وتمضي آلهة الصحراء عارية، أشباح اللات والعزى ومناة من طين وكبرياء.
مطلقٌ هو الحب، والكلمات هناك ليست حُليّاً، إنما كائنات من روح ودم تلبس حرير مصبوغ بالعاطفة.
خرجت «قطنة» إلى «ذلولها» وغادرت على ظهره دون ماء أو زاد واتجهت صوب عتمة الصحراء.. الصمت التائه في وهاد الزمن.. حيث لا طرقات أو لافتات، فقط دروب افتراضية.. دروب يمكن أن تنمحي بعد أن تعبرها، أو درب حرون يقودك عبر انحناءات لطيفة إلى الصرامة بعينها.. ويمكن للدروب هناك أيضاً أن تتقاطع مع بعضها بشكل متحمس فتقف هناك لتمزقك الحيرة باحتقار فخور، ودروب تحدثك عن كل ما هو عابر. السراب مبتلّ بلعاب الشمس والأفق المرشوش بالأوهام يعلن عن بزوغ زهرة فريدة..
أيضاً.. هنالك أشياء لا يقولها الذئب لأحد، تحديداً للغزالة، لا يخبرها كم أن الصبر يقضمه ليلاً وهو جائع وتتبدى له الغزالة كحلم، أيضاً يستمع لقرقرات معدته الفارغة يصمت جوعه إلى أن تلوح الغزالة، ولأن ذاكرته يحفظها بين أسنانه، يقتل الغزالة.
* * *
«ومن المعروف أن أصل الخيول الإنكليزية الكريمة كافة يرجع إلى ثلاثة جياد عربية نقلت إلى إنجلترا في القرن الثامن عشر وهي بايرلي تورك ودارلي أرابين وجودولفين بارب.. وقد كان هذا الحصان من سلالة «معنقي» وقد أرسله توماس دارلي ـ وهو مندوب للمؤسسة التجارية الإنجليزية في حلب ـ سنة 1705 م إلى أخيه السيد بروستر دارلي الذي لقب «فارس ألدبي بارك» وقد نشأت في هذا القرن في عدة بلدان أوروبية إسطبلات حكومية وخاصة للخيول العربية، إلا أنها كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى التهجين مع خيول عربية أصيلة»..
* أوبنهايم
«خَرْما» الفرس الدهماء مهرة الفرس «رفعة» والحصان «الرثوعي» انتزعها «فيصل» من ««طراد بن زبن» في حرب تواجهت فيها القبيلتان.
طعن «فيصل» غريمه وأوقعه أرضاً، صاح به «طراد»: «ياخيّال، امنع»، من عادة العرب في الغزو والحرب أنه يمكن للمطعون أن يطلب روحه دون أن يكون في ذلك انتقاصاً من رجولته و يعود القرار للطاعن، يومها اكتفى «فيصل» بانتزاع الفرس «خرما» وترك لـ«طراد روحه، وجرياً على عادة العرب، عندما يستولي البدو خلال معركة على خيول لقبيلة أخرى فإنهم يبعثون رسولاً منهم يتمتع بحصانة أكيدة في تلك الحال إلى القبيلة الأخرى ليستفسر عن نسب الخيول المسلوبة.
«فيصل» أرسل رسوله إلى «طراد» وتقصى تماماً عن نسب «خرما»، ولاحقاً أنجبت «خرما» مهرة تشبه الفرس «رفعة» وتوفرت فيها ميزة يعشق البدو توفرها بأفراسهم، فقد كان لون شفتها العليا فاتحاً مع لون داكن لبقية رأسها، أرسلها «فيصل» ـ كما يقتضي العرف البدوي ـ إلى «طراد» الذي أعطى الرسول الذي قادها إليه ناقة وعشرة شياه.
بعد اختفاء «قطنة» بثلاثة أعوام، قُتل «طراد».
قاد «طراد» تمرداً غريباً من نوعه. كان يعرقل صفقات مبيع الخيول العربية التي أصبح الأجانب مولعين باستيرادها لأسباب كثيرة ولعبة البولو التي يعشقها الانكليز كانت سبباً أساسياً لتصدير معظم الأفراس الرشيقة إلى بومباي في الهند. رفض «طراد» خروج الخيول ذات الأصول النجدية الصرفة إلى بومباي لأنهم كانوا هناك يضرّبونها بخيولهم. ورفض معاملة الخيول كما تعامل الماشية حيث اكتشف أن الأجانب كانوا يقومون بتوسيم الخيول على أكتافها. قُتل «طراد» بيد ضابط انكليزي كانت مهمته جمع الخيول الأصائل وإرسالها إلى انكلترة. حدث ذلك خلال رحلة إلى عمّان واختفت الفرس «رفعة» إلى الأبد، فيما السراب يتنكر بهيئة جواد شديد الغرور تحته الكثبان تسفيها الريح ومع كل شكل جديد تأخذه، تنقل رسالة.

***********
هذه الرواية تاريخية بامتياز، يختلط فيها التاريخي بالخيال،والظاهر أن الكاتب يعتمد على التاريخ الحقيقي ويمزجه بتاريخ القبائل وأسماء القبائل الحقيقية . وأسماء الأعلام التاريخية تشوش على القارئ الذي يريد أن يتذوق الرواية. والرواية تبدو لي ككأس حلو ولكن به مرارة الحلاوة بسبب هذه الأسماء و الأماكن التي تعرقل فهمنا ببداوتها و عروبيتها الشرق الأوسطية. .
هذه الرواية قصة حب بدوي عذري جمعت بين "طراد" و" قطنة " ولكن لم يستطع الزواج منها بسبب فرس كان يعشقها أخ قطنة. وبعد اختفاء قطنة بثلاث أعوام قتل طراد على يد ضابط انجليزي كان يتاجر في الخيول العربية. وهنا تحضر الخيل العربية كشامة ، وأعتقد هي الميزة الأولى في هذه الرواية.

هذه الرواية تحيل إلى العوالم العربية و الخيام والصحارى و السراب والحب والقتل و الانتقام .

********
تقول الاديبة آداب عبد الهادي فيها:

ادخلتني لينا هويان ببراعة اسلوبها وصدق وصفها وشفافية روحها الى عالم البدو والصحراء بالنتياز وبكل تفاصيل لغتها وامثالها وحواراتها.
اتمنى ان نلقتي بها معا قريبا.