ين يَدَيَّ ديوانٌ فريدٌ من نوعه، بعنوان «تباريح الفصيح»، للشاعر محمّد حسن العَمري(1). والشاعر من أبناء قرية آل عليان، ببلاد بني عمرو، في جنوب مملكتنا الحبيبة. لواءٌ في الشِّعر، وفي الأمن العسكريّ، والأمن اللغويّ أيضًا. زميلُ دراسةٍ، نجيبٌ، حبيبٌ، وفيّ، فاجأني بهذا العِلق الثمين، الذي لا أذكر أن شاعرًا قَبْله أفرد اللغة العربيّة بديوانٍ كاملٍ مثل هذا، في خمسٍ وثمانين ومئة صفحة. ولئن لم تكن كلّ القصائد عن اللغة العربيّة، فإن معظمها يحمل مِشعل هذا الهمّ المضطرم، وباقيها عامرٌ بالجزالة، أو «العَرامة»- على حدّ تعبير صلاح فضل، في «أمير الشعراء»، وهو نعتٌ لا أراه لائقًا بشاعرٍ، وإنْ كان «أبا عَرَّام»!

إنه انتصارٌ جزلٌ للعربيّة، ولا أقول «للفُصحى»؛ لأن «العربيّة» هي «العربيّة» كما نعرفها، ومن رَغِب عنها وعن أصولها، فليسمِّ نفسه وعمله ما شاء، فليست العُروبة بمشّجرات الأنساب، بل العروبة باللِّسان. وأذكر هنا طُرفة، بمناسبة عدم التفريق بين الانتساب العِرْقيّ والانتساب اللغويّ، في احتداد إحدى الحاضرات، في إحدى الندوات العربيّة، حينما قالت لي، عَقِبَ الجلسة الصاخبة التي شاركتُ فيها، وتحدّثتُ عن خطورة العاميّة وتشجيعها من خلال الإعلام، وهو حديثٌ «فَرَسها»، في ما يبدو؛ لأنها تقف على الضفّة النقيضة: «إيهْ الكلام اللي بتؤولو دَهْ؟ دحنا عرب زيّك، يا راقل!»، وكادت تُضيف: «... يا الدَّلْعَدِي!».. ولكنّ الله سَلَّم!

كما أن في ديوان «تباريح الفصيح»- إلى مجابهة الهجمة العامّيّة «العارمة»، التي لا تُبقي ولا تَذَر- مجابهةً لهجمة الحداثة، اللواحة للشِّعر! ويا ليت حداثتنا العربيّة اليوم كانت كحداثة البَشَر، أو كحداثة أبي تمّام، أو السيّاب، أو درويش، تجديدًا وتحديثًا، ووعيًا، وموهبةً، ولكنها اليوم -غالبًا- أكوامٌ من غُثاء الكلمات، في دعاوَى حداثات، لا تَلْوِي على شيءٍ، لا من موهبةٍ، ولا من لغةٍ، ولا من شِعريّةٍ؛ فلا تعدو هَرَبًا من الشِّعر إلى ملاجئ فُتحت في النثر، بما سُمّي- لهوًا ولعبًا، واستخفافًا بالعقول، والأذواق، والشِّعر، والنثر: «قصيدة النثر»، وفي بعض الأقطار اسمها: «قصيدة النَّسْر»! في حُمَّى من تدجيلٍ على الناس، وإنكارٍ للعقل والمعرفة والأنواع، من أقلامٍ لم تجد لها في الحياة من أعمال تنفع الناس ولا أنفسها، تَبني ولا تهدم، فأرادت أن تفتح في أسواق الشِّعر «بَسْطات» عامّةً، نسائيّةً أو رجاليّةً، خواطريّةً نثريّةً، تحت مِظَلَّةٍ مرقّعةٍ تسمّى الشِّعر العربيّ الحديث، أضحت تُؤوي كلَّ مَن هَبَّ وكَتَب، وإنْ على أرصفة الشوارع الخلفيّة للشِّعر. وهي تُناضل في سبيل ذلك بكلّ ضرواة، ممّا يدلّ على عدم الثقة في المنجز؛ إذ ما رأينا مِن قَبْل حركةً أدبيّةً مدجَّجةً بكلّ ما جاءت مدجّجةً به قصيدةُ النثر من تشنُّجٍ وادِّعاءٍ عريض، ومن بُغضٍ لمن يرفض نسبة النثر إلى الشِّعر. ولا رأينا مثلهم طائفةً تمتلك قاموسًا من الحجارة لقذف العرب بالظلاميّة والتخلُّف، إذ لم يسلِّموا أرضَ الشِّعر للنثر، أو لم تُعجب معظمَهم قصيدتُه المزوّرة. ذلك لأن قصيدة النثر حركةٌ نضاليّةٌ فكريّةٌ واجتماعيّةٌ أيديولوجيّةٌ، بالأساس والفعل، ويجب أن تُكشف هذه الورقة بجلاءٍ، لا غمغمة فيه، وليست بحركة شِعرٍ، أو بخيارٍ فنّيٍّ بريءٍ من الغايات التدميريّة لبنيات الثقافة العربيّة وقِيَمها، بوصف تلك خطوةً ذهنيّةً لها ما بعدها. تلك الاستراتيجيّة التي يديرها القادةُ، وإنْ غابت عن وعي الرَّعاع والأتباع. وكذلك كانت، منذ إعلان (سوزان برنار) أنها حركة احتجاجٍ ونضالٍ فكريّ، لا حركة تطويرٍ للشِّعر(2). ولأنها كذلك؛ فهي لا تستطيع أن تُخفي وجهها الآخر، وراء الأصباغ أو الكلمات أو الحروف والفواصل والنقاط؛ فخطابها أبدًا ناضحٌ بآمالها ما بعد الشِّعريّة. ومراتع الاحتفاء والمحتفين بها آياتٌ وشواهدُ لا تُخطئها البصائر. منذ ذلك التاريخ النبيذيّ في النشأالفرنسيّة الأولى، ما زال القوم يكافحون باستماتةٍ كي يفرضوا عقيدتهم، مفخَّخين بالعَدَم المنفوش، والسَّغَب الصاخب. ويا ليت معظمهم ذوو فكرٍ وأدبٍ ولغةٍ، أو ليتهم يتمتّعون بروحٍ متحضّرةٍ من قبول الآخر، والاختلاف، وتنوّع المشارب والتجارب، فيُحسب لهم نثارهم في النثر الأدبيّ! ولكن.. ولكن مَن قال إنّ هذا سوف يرضيهم أو يشفي غليلهم؟! كلاّ، لن يرضَى عنك صاحبنا الكريم «كراميل» إلاّ أنْ تَعُدَّه شاعرًا مستفحلاً، «على سنٍّ ورُمح»، وإنْ طارت عنزُه وانتثر! ذلك أن معظمهم من العَجَزَة، وهم يعانون الشعور بالأنيميا الحادّة، وقد وجدوا في قصيدة النثر ملاجئَ ومغاراتٍ، يولُّون إِلَيْها أدبارهم وَهُمْ يَجْمَحُون! ولا بُدَّ -لكي لا يزعلوا، فتركبهم عفاريتهم النثريّة وكوابيسهم المستشعرة- أن تُسَلِّم لهم، شئتَ أم أبيتَ، أعجبكَ هذرُهم أم لم يعجبكَ، بل أن تُصغي، وتَطْرَب، وتُصَفِّق، و»تُغَطْرِف»، ثم تقف لتُدبّج فيهم المدائح العصماء، معترفًا بأن ملاجئهم ومغاراتهم قصورٌ شمّاء ممردةٌ من شِعر! إلاّ تفعل ذلك ككلّ الطيّبين الوُدَعاء، فيا ويلك ويا لسواد ليلك! مَن ليس معهم، ووَفق نظريّتهم بحذافيرها ومصطلحاتها، فهو عدوّهم! وهم -لفرط التشبّث بصفةٍ، لم يصدّقوا أنْ شَمَلَتْهم مذ خمسين نكسة ونيّف، ولو وَهْمًا- لن يَقْبَلوا أن تَجُبَّ أكذوبة تاريخهم، فتَصِف إنجازهم بالنثر. كلاّ، وإنْ أضفتَ: «الأدبيَّ»- فهذا لا يكفي، فـ»الشِّعريّ»، وإلاّ: ثكلتكَ أُمّك! أو حتى لو قلتَ: «الرائع»! لا، وحتى لو تَبَدَّى لك في بعضه إنجازًا أهمّ من قصيدة النثر، ومن قصيدة الشِّعر، فإمّا أن يكونوا «شعراء، يعني شعراء»، وعلى رغم أنف كلّ قواعد الجنس الأدبيّ، والتراث العربيّ، والذوق البشريّ، وإلاّ فعلى الدنيا السلام.

وإذا كان أمثال (فلاديمير بروب) قد دَرَسَ الحكايات الخرافيّة الشعبيّة، وحكايات الجِنّ والعفاريت، وحاول استنباط قواعد عامّة للقَصّ الخرافيّ الجَمْعيّ، كاشفًا عن البنَى الحكائيّة الروسيّة، في «مورفولوجيا الحكاية الخرافيّة»، وإذا كان (كلود ليفي شترواس) كذلك قد دَرَسَ الأساطير، من خلال كتابه عن «الأنثروبولوجيا البنائيّة»، مستقرئًا الأساطير، مستنبطًا نماذجها النمطيّة، فوجد أنها تحكمها آليّاتٌ فنّيّةٌ وقواعدُ تركيبيّةٌ خاصّةٌ، حدَّدها وقعَّدها- تمامًا كما فعل (الخليل بن أحمد الفراهيديّ) إذ استنبط عِلْم الشِّعر العربيّ والعَروض، ممّا يُختزل سطحيّةً في شأن الأوزان والقوافي، فيما هو منظومةٌ متكاملةٌ: صَرْفًا، ونحوًا، وأسلوبًا، وبلاغة- إذا كان ذلك كذلك، وهو كذلك، فكيف يأبَى (لا عقليٌّ) لدينا اليوم قواعدَ الأدب، ليقول بكلّ ثقةٍ: إنه لا قواعد للشِّعر، ولا قواعد للقِصّة، ولا قواعد للرواية؟! إنه إذ يُعبِّر بذلك عن جهلٍ نظريٍّ مُطْبِق باللغة والإبداع الأدبيّ معًا، فإنما يعبِّر أيضًا عن عقليّة فوضويّة الجِبِلَّة، وعن رؤيةٍ لا عِلميّةٍ للحياة؛ لأن كلّ ما في الوجود، من خَلْقٍ أو فنٍّ، يَحكمه نظامٌ بالضرورة، وذلك شَرطه الوجوديّ، عَلِمَه من عَلِمَه وجَهِلَه من جَهِلَه. وفكرة «الفنّ»، من حيث الجوهر، تتنافَى أصلاً مع فكرة «الفوضى»، أيًّا ما كان المصدر؛ من حيث إن وجود «فنٍّ» يعني: وجود نظامٍ ما، والعكس بالعكس. للشِّعر، إذن، أن يبتكر أنظمةً بديلةً، لا تقف عند حدٍّ، شريطةَ أن تَمُتَّ بحبلٍ سُّرِّيٍّ يصلها بنموذج الشِّعر الأُمّ، لتُعَدّ من جنس الشِّعر، وإلاّ كانت نموذجًا آخر، لا صِلة له بالشِّعر، وإنْ اتّصل -هويّةً- بطبيعة الأدب. إن الجنين لا يبقَى جزءًا من جسد أُمِّه بعد قطع حَبْلِه السُّرِّيّ، بحالٍ من الأحوال. هذا نظام الكون، وذاك قانون العقل، ومن أراد أن يكون خارج ذلك كلّه، فهو وشأنه، وهو شأنه وحده.

على أنه لم يَحدث في التاريخ أن جاء مُدَّعِي إبداعٍ ليفرض ذوقه على المتلقِّي، ويُدير «مليشيّات» تغتال من لم يُعجبه العملُ من الجمهور، أو مَن لم يُهلِّل ويكبِّر للمبدع الدنجوان! لأن العلاقة تظلّ بين المنتِج والمتلقّي سِلميّة وتكامليّة. بيد أن حركاتنا الأدبيّة العربيّة لا تختلف عن حركاتنا السياسيّة العربيّة؛ فهي لا تقبل النقد، ولا تسمح بالمعارضة، بل الولاء المطلَق، والتمجيد الأبديّ، و»بالروح بالدَّم...»! مَن قال غير هذا، مقصًى من رؤية ما لا يُرَى، فهو، إنْ كان شاعرًا، موصوفٌ بالعموديّ، أو التفعيليّ، أو التقليديّ، وإنْ كان ناقدًا، فكلاسيكيّ، ظلاميّ، متكلّس، مأفون، ينطلق من فكرةٍ تقليديّة، تقدِّس المقفّى والموزون! وهكذا قاموسهم في منابذة مخالفيهم، نهجَ كلِّ مضطرب الموازين والجنان. ولا يهمّ مطلِقَ هذه الأقاويل والأحكام أن يكون محض كذّابٍ، أو مزوّرٍ للحقائق، أو خاطئٍ في الاستقراء، أو جاهلٍ بما يقول، أو لم يستقرئ قطّ مواقف الطرف الآخر، أصلاً.. ما يهمّه هو التشويه، والتهويش، والتهميش، والإقصاء، كأيّ موتورٍ أيديولوجيّ. لا يفعل ذلك حُمْسُ الشبيبة من هؤلاء فحسب، بل يفعله كذلك بعضُ من يحملون الشَّيب، وربما الشهادات العُليا في الأدب والنقد. صحيحٌ أن تفشّي الشهادات المزوّرة، والرسائل المقلّدة، وأن التجاوزات العلميّة والأخلاقيّة في الحقل الأكاديميّ العربيّ، ظاهرةٌ من ظواهر الفساد العام، وصحيحٌ أن المرء ليَعجب كيف حصل بعضُهم أو بعضُهنّ على تلك الشهادات، فـ»تمستَّروا» أو «تدكتروا»، وهم بتلك العقول النَّخِرة من الموضوعيّة والمنهاجيّة، إلاّ أن الطامّة المُطَمِّلَة تتمثّل في جرأة هؤلاء على إطلاق الأحكام؛ فما أن يحصل أحدهم على تلك الوريقة التي تسمّى شهادة عليا، حتى ينقلب حاله رأسًا على عقِب، فإذا هو يُرخي وكاءَه للتصريحات المجّانيّة يَمْنَةً ويَسْرَة. وأنت واجدٌ منهم من لا يكاد يَفهم ما يُقال، إنْ لم يُفهِم هو ما يَقول. ذلك لأن الموازين لديهم مختلّة الجذور، لا الموازين الشِّعرية وحدها، بل قبلها الموازين الذهنيّة والأخلاقيّة والمعرفيّة. ولذلك فإن تلك الألقاب «المُلَعْلِعَة» في الساحة، كـ»العموديّة»، و»التقليديّة»، أو حتى «التفعيليّة»، قد باتت رصاصاتٍ يستعملها القنّاصة من حماسيّي تلك الفئة، بما هي مصطلحات هجائيّة، لا هدف منها في أُمِّ فوضانا غير الخلاّقة إلاّ النيل ممّن -لأسباب معرفيّة، قل أيّ شأنٍ آخر- لا يرحِّب ويسهِّل ويصبّ القهوةَ لقصائد النثر، بوصفها شِعرًا فائضًا، أو لا يُداجي هذا التيار، فيصمت عن ترّهاته الشاسعة ودعاواه العِراض، محترِمًا ما تبقَّى من مبادئ عِلميّة وأدبيّة.

[وللتباريح اتّصال].

(1) (الرياض: دار المفردات، 2010).

(2) يُنظر: كتابنا «حداثة النَّصّ الشِّعريّ في المملكة العربيّة السعوديّة (قراءة نقديّة في تحوّلات المشهد الإبداعيّ)»، (ط 1، النادي الأدبي بالرياض، 2005), 122- 137.



المصدر
جريدة الجزيرة

http://www.al-jazirah.com.sa/culture...1/fadaat16.htm

-