فراشات الصباح
صباح كئيب أطلّ بعد قلق طويل..
نواقيس صاخبة تقرع في رأسي منذ الأمس، أحسست أنني ذاهب إلى ضياع وسط زحمة بشر، وآلات تضرب هنا هناك، وأخرى تمدّ الشارع بحضارة إسفلتية جديدة، وبلاط ملون يحطّ على أرصفة ضيّقة، ومطارق..
أيها الصباح.. كنتُ، أقطف أحلا أوقاتي فيك، أعشق السكون عندما يظلّل صمت الأشياء، فألونها بهدوء اللحظات كي تستمع إليّ..
فراشتي الزاهية تتقافز على إفريز الشرفة، كما في كلّ صباح، تخرج من حضن الوريقات الخضراء، وتزّف إليّ بشائر ما كنت أفهمها، تقدم لي.. لي وحدي نوّارة الفجر السابح على مدى سهوب خضراء، تمتد بعيدة عن مرمى نافذتي..
فراشتي الوردية، تحمل إليّ الصباح، وهي تتخاطر بجناحيها الرهيفين على وجنتيّ، تباعد بين شفتيّ، لتتسلل من بينهما ابتسامة هادئة، سرعان ما ترسو على حوافي فنجان يودّع آخر رشفة قهوة فيه.
استرخيت أكثر على "الكنبة" الرطيبة، قلت في نفسي: قد يقف هذا الصخب المدوّي في رأسي..!
أطبقت جفنيّ، أبحث عن صورة تزيح من رأسي هذه المطارق، فلم أجد غير صورٍ مدمّاة، وفضاءٍ ملوّث بدخان أسود، وصراخ مفزع..!
اقتربت الفراشة مني كثيراً، حتى حسبت أنها ستحطّ على رأسي، لكنها أرجفت جناحيها قريباً من أذني، ثم عزفت لحناً أحبّه، وهمست بشوق أليف:
ـ أزهرت القرنفلة..
قفزت:
ـ يااااااا الله، لقد تفتّحت القَرنفلة حقاً..
دارت فراشتي حولها بفرح، تواكب فرحي، وحطّت على كُمِّ القَرنفلة الأحمر الموشى برشقات بيضاء..
شرفة بيتنا في يافا، تطلّ على البحر، في حيّ المنشية، وعلى صفّ العمارات الممتدة على طول الشاطئ، العمارة الثالثة، بعد معمل بلاط "أبو شندي" الطيب، تطلّ أمي من الشرفة، تلوّح لي بيدها، أعرف أنها تمنعني من الذهاب إلى البحر، فالصباح بارد، لم تطعنه الشمس بعد، ولن يحتمل جسدي الصغير برودة الماء.
تحرّك بيدها وريقات الريحان الشامخة في الأصيص الزهري، فأشمّ، على البعد رائحة الحبق الغارق نشوةً في أنفاس أمي..
في ركن الشرفة الآخر، أصيص آخر، ليس فيه إلا تراب، دَفنت فيه أمي بذوراً غريبة، قالوا: إنها بذور زهور نادرة، سرعان ما تعفّنت في قلب التراب، وماتت قبل أن تتفتق، وقبل أن ترى النور، أحسّ التراب أنها غريبة عن ثراه وأرضه.. فلفظها..
لم أكن أعرف أن تلك الشتلة الصغيرة المقبلة على الذبول هي شتلّة قَرنفلة.. حملتها برفق، وغرستها في تراب الأصيص..
ـ يمّه.. فتّحت القرنفلة..
قفزت من الفراش، الشرفة تستقبل أول خيوط الشمس، فراشات ملونة تحوّم حول الزهيرة البيضاء، مطرشّة بنثرات حمراء كالدم.
اقتربت من النافذة، هدأ الصباح، وتوقفت المطارق عن العبث في رأسي، وقبل أن أشعل "السيجارة" الثالثة، قادتني الفراشة إلى عبق القرنفلة، شممتُ، مع ترنيمات عطرها النقيّ، بعض أنفاس أمي، ما زالت تلوّح لي من شرفة بيتنا على شاطئ بحر يافا.