كان قد أرسل لي صديقي رسالةً حاول أن يفرغ بما احتوته من شكوى وغضب وحُزنٍ وهم تلك
الحمولةَ الثقيلة التي جثمت على صدره بعد أن خسر كل معارك الحب التي خاضها وبعد أن
أُسقط في يده فما عاد يعرف في أي قلبٍ سيجد تلك الجوهرة الثمينة التي تُدعى الحب ثم طلب
النصيحةً والمشورة والتوصيف الصحيح والوصفة الأفضل لحال قلبه المُتعب فما كان مني إلا أن
أرسلت له جواباً قد حرصتُ جاهداً على أن أجيب من خلاله على أكبر قدرٍ من تلك التساؤلات
التي استشعرتها من رسالته فجاء في الجواب بعد التحية والسلام :
صديقي العاشق : جميل أن تسمع أحاديث العشاق وهي تتهامس كلمات الحب همسا و أن
تراهم قد باتوا ولشدة العشق يحسبون القمر في كل الليالي بدراً منيرا و جميع الورود
الحمراء من حدائق الجنة وكل موجة من أمواج البحر نفحة من نفحات الحب وجميل أن تراهم يُقبلون على قصائد الغزل
وما هم من الشعراء وعلى سهر الليل وما هم من النُساك العباد وعلى الوقوف تحت المطر وماهم بالأرض المُقفرة .
وعندي لو أخبرهم من صعد القمر كم كان موحشا مظلما لا حياة فيه ومن أقتلع تلك الورود
الحمراء الجميلة كم آلمته أشواكها وتلك الأمواج كم تاه خلفها من سفن وكم غدر البحر بأصحابها
ولو علموا أنّ من الشعر
ما يفتك بصاحبه وأنّ من السهر ما يؤرق العيون من كثرة البكاء وأن من المطر ما يجعل
البساتين المثمرة مدافن للموتى لعقدوا العزم على عدم دخول مملكة العشق قبل زيارة جميع
الأوابدالأثرية لعلهم يعثرون على قبر جميل وبثينة و وليلى العامرية وقيسها الملوح ليسألوهم
كيف ماتوا ولماذا انتهت قصة عشقهم بلا لقاء ولقرؤوا قصة ماجدو لين وميموزين ألاف
المرات لعلهم يدركون طبيعة النفس البشرية ولعلهم يعقلوا كيف هم بها أبن يعقوب وهمت به
لولا أن رأى برهان ربه .
يا صاحبي إن امرأة قد داست على قلبي بقسوة ولست بلائمها وإن امرأة أخرى أخبرتها بقصة
العشق فاستمعت لها ثم صدقتها ثم غابت ثم عادت ثم قالت لي :أنت مثل أخي ولست بناقم عليها
ولعلي أراك تقرأ كلماتي هذه و الدهشة والحيرة هي نصيبها منك فكيف برجل شرقي قد أعتز بكل
ملكات الرجولة و انتهل من ينابيع العلم والحكمة يُلدغ من الجحر مرتين وتصيبه تلك الجهالة
ورغم ذلك ليس بلائم ولا ناقم على معشر النساء .
هون عليك يا صاحبي فأني مخبرك بحقيقة الأمر لعلي أمسح عن ذهنك بعض غبار العجب من
ردة فعلي على خيبتي في العشق أما الأولى فقد أحببتها وهي طفلة في حينا تلعب تروح وتجيء
أمام ناظري مرّ العشي والمرّي ولما شعرت أن بداخلي نداء بدأ يتردد صداه في أرجاء قلبي بقوةٍ وعُنف
و أنه قد آن لذلك النداء أن يعرف طريقه إلى قلبها أرسلت لها الرُسل طالباً ودّها
فكان الجواب أنها ليست لي من العاشقين و أن في حبي لها جريمة أخلاقية تخدش حياءها
و شغاف قلبها ورغم ذلك أنبعث في نفسي خيط صغير من الأمل بأنها ستحبني يوما ما فكتبت
لها من الخواطرما كتبت واستمعت لأجلها من الأغاني ما سمعت وأحببت زهر الياسمين ما أحببت
حتى جاء الخبر اليقين... لقد تزوجت!!
نعم تزوجت وهنا علمت يا صاحبي لماذا لا يطير النورس بجناح واحد ولماذا لا ينبت الزرع دون ماء
و أني قد طلبت منها حُباً ليس في قلبها وشعورا لا يروادها وكأنها مُخبري بأن الحب الذي لا يتوج بالزواج
لجديرٌ به أن يذهب الى الجحيم ومتى كان الحب غصبا أو قهرا وهل الحب إلا اتحاد قلبين وجسدين وروحين
وهل الحياة ستنتهي عندي فبئس الرجل أنت من الرجال تلك هي الرسالة التي أرات إفهامها لي
وقد ........نجحت
وأما الأخرى أحبها عقلي قبل قلبي ووجدت بها نصف الكأس الفارغة والحلم المنتظر والهدف
المنشود فكنت مُخبرها بما يختلج من صدري حاسبا نفسي من الذين كتب الله لهم الشفاء من
أمراض الحب وعشت على أحلام تراودني كل حين وآخربأنها الأميرة لقصري والحروف الأولى
من قصائدي فلم تجد حرجاً من فتح أبواب قلبها لي إلى أن جاء ذلك الكابوس المزعج الذي قتل
جميع أمنياتي السعيدة و أقفل جميع تلك الأبواب و أضاع كل مفاتيحها لقد أرسلت لي رسالةً
تعلن من خلالها أنها باتت في حلٍ من عهدِ حبها لي و أنها تدعوني إلى التوقيع على وثيقةِ أخوة
......متأخرة و إلى مُباركة ولادةُ عهد حُبٍ جديد مع حبيبٍ جديدٍ أيضاً
فعلمت أن المرأة كالرجل قد تتحكم ريح الهوى بمشاعرها و تجنح بسفينة قلبها عن شواطئه
الأولى إلى موانئ قلبٍ آخر و كما يتحدث الرجل عن المرأة الثانية و الثالثة كذلك هي المرأة
تتحدث عن الرجل الأول والثاني والثالث لكن كل ذلك يا صاحبي لم ينل من عزيمتي و إصراري
على المُضي قُدماً في البحث عن حُبٍ جديد يحترم مشاعري و يعترف بقضية حُبي الصادقة
ويقبل بي شريكاً حقيقياً فنعمل سوياً على رعاية شجرة حب نغرسها في تربة الوفاء وُ نسقيها
من ماء العطاء نعم يا صديقي لم أعد ناقماً على معشر النساء و لم أعد أرى في خيبتي إلا طريق
نجاحي يا صديقي أمعن النظر جيداً في لوحة الحب سترى ألواناً أخرى غير ذلك اللون الأنثوي
الساحر و اسمح لعواطفك أن تحلق بعيداً عن سماء الأنثى فإن للحب فضاءات أخرى أوسع
و أجمل وتجاوز ببصيرتك أسوار المرأة فخلفها أُشيدت قلاع حُبٍ عظيمة ببنيانها راقيةً
بمكانتها ساميةٌ بمعانيها تستحق منك الرحيل إليها و التفيؤ بظلها والتنعم بحلاوتها
يا صاحبي إن لشجرة ِ الحُب أغصانُ كثيرة ومُتفرعة تستحق منا أيضاً بذل العطاء وتقديم
التضحيات و أن نذرف لأجلها كثيراً من الدمع و أطواراً من العمر فحب الوطن و الشريعة وحب
الأهل و الصديق وحب العلم و الخير كل هذه المفاهيم يجب أن تحتل مكانة الصدارة والريادة
في حياتنا وقلوبنا وفكرنا و لعلي في هذا المقام أذكر نفسي و إياك بقصة من قصص الحب النبيل
الراقي إذ يُروى أن شابين من الأندلس كانا يتباريان أيهما يصيب بنبله أكبر عدد من الطير
ويُمنيان النفس بيومٍ تعرف فيه تلك النبال طريقها إلى صدور أكبر عددٍ من المتربصين الطامعين
وما استقوا تلك الأماني إلا من نبع الغيرة على الدين و الحب للوطن و الدفاع عن الأهل
والعرض و ما تنافسا وما بكيا إلا لأجل الحب لكنه الحُب الذي تحتفي به كتب التاريخ و يتوارث
الأبناء والأحفاد سيرته العطرة المُشرفة هو الحب الذي لا حزن ولا آسى ولا ندم ولا غلو في
الإسراف فيه والتوغل في أسراره يا صاحبي لا تجعل نصيبك من الحب الخيبة والفشل والهم
والكدر ولا تسمح لجراح الماضي أن تحدث ثقباً تتسلل منه مشاعر اليأس إلى قلبك المكلوم
و أوقد في ظلام نفسك جذوةً الأمل بقدوم مستقبل جميل يجمعك بحبيب ..........أجمل