تاريخ ومآسٍ الغوص في البحرين.. يوسف أحمد بن ماجد النشابه


عرفت البحرين وهي جزيرة في الخليج العربي، مهنة الغوص منذ آلاف السنين، وكما تفيد المصادر، فإن الغوص كان المهنة الرئيسية لأهل البحرين. ففي العام 1833، كان عدد سفن الغوص المتجهة للهيرات قد بلغ 1500 سفينة، وهو عدد كبير بالنسبة لبلد صغير، كان عدد القرى قد وصل إلى أكثر من 300 قرية في نهاية القرن السادس عشر، كما ورد في «الوثيقة العثمانية الصادرة سنة 1573»، وكان ريعها السنوي أربعين ألف «فلوري» (عملة ذهبية كانت تستخدم في مدينة «البندقية» في إيطاليا) وكان هذا الدخل يأتي من صيد اللؤلؤ.
استعان جلجامش خامس ملوك أروك الذي قام برحلة محفوفة بالمخاطر إلى أرض دلمون أرض الخلود وذلك قبل 2000 سنة قبل الميلاد، بحثًا عن زهرة الخلود في قاع البحر، بغواصين مهرة يتمتعون بنفس طويل يبقيهم مدة كافية تحت الماء وبعمق بعيد.
ولاحقًا أثبتت المكتشفات الأثرية لحضارة دلمون (2300 قبل الميلاد) التي كانت سائدة في جزيرة البحرين منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، العثور على «لؤلؤ» في إحدى الجرار يعود لتاريخ ما قبل 4500 سنة.
كانت النسوة في حضارة تايلوس (300 قبل الميلاد إلى 600 بعد الميلاد) يتزين بعقود اللؤلؤ، كما أوضحت التماثيل الأثرية للنسوة في ذلك العهد.
ولم تتراجع مهنة الغوص إلا بعد ازدهار مهنة النفط في الثلاثينيات، لكنها استمرت بالرغم من ضعفها حتى مطلع الستينيات.
المناطق وعلاقتها بالغوص
يمكن تقسيم البحرين إلى مناطق ثلاث:
المناطق الساحلية، والمناطق الداخلية (بعيدة عن البحر)، والمناطق الخالية من الزراعة: ومن البديهي أن المنطقة التي شهدت كثافة في الإقبال على الغوص هي المناطق الساحلية، حيث ركب جميع أهلها البحر في موسم الغوص لإجادتهم السباحة والغوص. وبعد «القفال» يعود البحارة إلى مهنهم وهي في الغالب مهنة الزراعة.
تقسيمات مهنة الغوص
للغوص رجاله ويكون في مقدمتهم «الطواش» وهو تاجر اللؤلؤ وصاحب السفن، وهو مالك لعدة سفن يتم تأجيرها لمن يرغب في دخول الغوص. وربان السفينة «النوخذة» وهو أمير البحر الذي يقوم باختيار البحارة.
يجتمع البحارة في مقاهٍ خاصة بهم حيث يأتي النوخذة ويتفاوض مع مَن يريده من البحارة ويتجمع في السفن الصغيرة ما يقارب الـ25 بحارًا أو أقل، ويسمى هذا النوع من الغوص بالخماسي ومفردها «خماس»، أي أن صاحب السفينة يأخذ «الخمس» من الدخل قبل توزيعه على البحارة، أما السفن الكبيرة فيصل العدد فيها إلى 40 بحارًا.
ويضم البحارون، بالإضافة للغواصين، الذين يقومون بمهام الغطس وجمع اللؤلؤ من أعماق البحر، هناك أيضًا: السيوب، جمع «سيب» وهم عادة يكون عددهم أكبر من عدد الغواصين في السفينة ويتم اختيارهم من ذوي السواعد القوية والعضلات المفتولة على ظهر السفينة ومهمتهم إنزال الغيص وسحبه من البحر سالمًا وقد يستدعي الأمر الغوص لإنقاذه حين يتعرض للمخاطر.
- النهامون: جمع «نهام» وهو الرجل ذو الصوت الشجي صاحب الذاكرة القوية لحفظ المواويل، والذي يتنافس للحصول على خدماته العديد من السفن، لما له من دور بارز في رفع همم البحارة أثناء القيام ببعض المهمات مثل رفع المرساة ورفع الشراع، وهو الذي ينشد المواويل (النهمات) التي تذكر البحارة بالديار والأحبة، وقد يكون من بين البحارة نهامون غير محترفين يتعاونون مع النهام الرئيس، والأشعار التي يؤديها في مهمات أعدت لها ألحان خاصة، وجميع هذه الألحان لها مسميات، وكثيرًا ما كانت نهمات الغواصين تؤثر في قرارات «النوخذة» الذي قلما تكسر قراراته.
- بقية طاقم السفينة: أعلاهم رتبة «النوخذة» وهو ربان السفينة (أمير البحر) رجل ذو خبرة ودراية بالهيرات، ومواقعها في بحر الخليج وله شخصية مستبدة في اتخاذ القرارات الحاسمة دون شفقة في بعض الأحيان. يليه القعدي (الجعدي) وهو الرجل الذي يقوم بمهام النوخذة، ومن ثم المجدمي الذي يطبق تعليمات وأوامر النوخذة ويقوم بمعظم أعمال النوخذة وينفّذ توجيهاته، والعزال وهو غيص يعمل لحسابه الخاص وله «سيب» خاص به، وهذا لا يكون إلا في السفن كبيرة الحجم، في المقابل يدفع «الخمس» للسفينة، وأما الرضيف فهو شاب يدخل الغوص تحت التدريب وبعد ذلك يتحول إلى غواص أو سيب حسب قدراته وإمكاناته.
مسميات وأجور العاملين بمهنة الغوص
التسكام: يعتمد الغوص على ما يسمى بـ«التسكام» وهو مبلغ يقدم للبحارة قبل دخولهم البحر كي تستعين به الأسرة في غياب عائلها في فترة الغوص وعليه أن يسدد ذلك الدين بعد عودته من الدخل الذي كان له نصيب فيه من بيع اللؤلؤ.
وتسكام الغواص ما يقارب 100 روبية، أما «السيب» فتسكامه 80 روبية.
السلف: يقدم مبلغ 60 روبية لكل من الغواص والسيب قبل دخول البحر.
الخرجية: مبلغ من المال يدفعه النوخذة للغاصة والسيوب في فترة الصيف إذا ما عادت السفن لغرض ما إلى البر.
كل هذه المبالغ تقيد في دفتر حسابات النوخذة، مضافًا عليها نسبة الربا التي تلزم البحار بدفعها، ويسمون هذه النسبة «العشر» (10 %).
الاستعدادات الخاصة بدخول «الغوص» (الدشة)
«أول السنة» هذا الاسم يطلق على بدايات أيام «الغوص» حيث تكون عادة بعد انتهاء موسم «الغوص» (القفال) حيث تجر السفن الكبيرة إلى البر لتجفيفها وإجراء الصيانة اللازمة كتبديل الألواح التالفة والمسامير «القاصة» (المصدية)، ويتم استخدام فتيل جديد بدلا من الفتيل القديم (حبال قطنية متينة مغزولة) تغزلها النسوة في البيوت بمقابل مادي. وهذه الحبال القطنية توضع بين الألواح لمنع تسرب الماء إلى داخل السفينة. ويتم غسل الأشرعة في عيون الماء التي هي كانت متوافرة في جميع أنحاء البحرين من مدن وقرى. وبعد جاهزية السفينة للإبحار، يقام احتفال كبير يشارك فيه البحارة والأهالي، وتقرع فيه الطبول ويصفق المشاركون لرفع همم الرجال وهم يجرون السفينة للبحر، فيتفاعلون مع الأهازيج والنغمات التي تتزامن مع جر الحبال بسواعد الرجال الأشداء ذوي العضلات المفتولة.
تسحب السفينة بجرها حيث يكون «بيصها» (قاعدتها) مستندة إلى أغصان سميكة عدة من الأشجار المدهونة بالشحم الحيواني يطلق عليها اسم «الطعوم» كي تسهل عملية انزلاق السفينة من غصن لآخر، مع تجديد وضع الأغصان في المقدمة، حتى يكتمل سحب السفينة بنزولها إلى مياه البحر. أما إدخال «خزان الماء» (الفنطاس) في بطن السفينة (الخن) فهو بحد ذاته عمل كبير، فخزان ماء الشرب يكفي ما يقارب 50 بحارًا، كبير في الحجم ووزنه ثقيل جدًا حتى من دون ملئه بالماء، وهو مصنوع من ألواح خشب الساج المشدودة ببعضها بالحبال (الكنبار) المصنوعة من ألياف النخيل، ويتم تعشيق الألواح «بالفتيل» المغموسة بالقطران (الكار) ومكانه (الخن) بطن السفينة، ويتم طلاؤه بمادة القار كي يمنع تسرب الماء، ولإدخال «الفنطاس» في «خن السفينة» وموضعه في مقدمة السفينة يتم إبحار السفينة لمنطقة «الخور» وهي منطقة ليست بعيدة عن الساحل ولكن مياهها غزيرة، فيتم ملء السفينة بمياه البحر لتسكن في القاع. يتم توصيل «الفنطاس» وهو «طافح» على سطح البحر لتسهيل نقله إلى بطن السفينة وإدخاله من دون عناء، لأن البحر يساعدهم في نقله ووضعه في مكانه المناسب في «خن السفينة»، بعدها يتم نزف الماء من السفينة كي «تطفح» ترتفع إلى سطح البحر.
ويتم سحب السفينة للسيف أو «المجدف» (شاطئ البحر) وذلك كي تجف من مياه البحر التي غمرتها وبعدها يتم دهنها من الأسفل بـ«الودك» (الشحم) حتى يسهل انزلاقها على الماء أثناء الإبحار.
بعد تجهيز السفينة يتم تزويد «الفنطاس» بالماء من العيون الطبيعية المنتشرة على السواحل وفي جميع القرى الساحلية، وهذه العملية تسمى «المزر» وذلك بتعاون البحارة بنقل الماء بصورة يدوية.
يتم تزويد السفن بالمؤن الغذائية المتمثلة بالتمر والأرز والقمح وذلك لشحته إبان الحرب العالمية الثانية.
والبحارة لا يتناولون إلا وجبة واحدة في المساء فقط وهي تتكون عادة من رز محمّر وسمك يصطادونه من البحر، والأرز المحمر يعطي طاقة لوجود «الدبس» فيه «عصير التمر» (المريس) حيث يهرس التمر في قطعة من القماش.
أما مكان الطبخ فشكله متوازي الأضلاع (12 × 120 سم) وارتفاعه 45 سم ويتم وضع الطين وعظام سمك «الحبار» (الخثاق) في قاعدته كي يمنع انتقال الحرارة ليصبح عازلاً للحرارة ويتم تزويد السفينة بحطب «السمر» للطبخ وهو يعطي حرارة عالية.
أما الفطور في الصباح فيتكون من القهوة العربية وكمية بسيطة من التمر، بعدها يتم وضع «الدقل» ومن ثم يتم تثبيت «الفرامن» ومفردها «فرمن» وهي خشبة طويلة يربط بها الشراع من الأمام إلى الخلف.
أدوات الغوص
1 - الفطام: مشبك يصنع من عظام السلاحف الكبيرة يثبت في الخشم (الأنف) لمنع دخول الماء في الجوف ويمنع الغواص من التنفس تحت الماء.
2 - الديين: شبك من الخيوط مثبت في قرص دائري يصنع من خشب الورد المتوافر في البحرين.
3 - الخبط: واق للأصابع يصنع من جلد البقر يحمي أصابع البحارة أثناء جمع المحار في أعماق البحار الصخرية.
4 - الحجر: ثقل من الرصاص يساعد الغيص على الغوص بسرعة لقاع البحر.
5 - الشملول: سروال يلبس كحماية من (الدول) قنديل البحر الذي يسبب الحساسية في الجسم، ويلبس معه قميص بأكمام طويلة.
6 - حبل «ليدة»: حبل خاص بالغواص يبلغ طوله حوالي 16 مترًا.
7 - حبل «الزيبل»: حبل خاص بالسيب وهو أقل طولاً من «حبل ليده» ويكون في نهايته ثقل من الرصاص ويطلق عليه «الحجر»، وهذا الحجر يثبت الغواص قدمه في حلقة حبل أعلى «الحجر» كي ينزله إلى قاع البحر في أسرع وقت ممكن ومن ثم يتركه ويتم سحبه إلى الأعلى من قبل «السيب»، حيث يكون مثبتًا في أحد المجاديف الممتدة من داخل السفينة ويطلق عليه «الملقط»، ويغوص الغواص بمساعدة حبل «الزيبل» ويبقى معه حبل «ليده» الذي يشده حين الحاجة للخروج من الماء وذلك بشدّه مرات عدة. تصل هذه الإشارة ليد «السيب» الذي يهمّ بسحب الغيص قبل أن ينقطع نفَسَه أو حين مواجهة الغواص هجومًا من «الجرجور» (سمك القرش)
8 - المفلقة: سكين لها طرف معقوف تستخدم لفتح المحار.
يدهن الغواصون أجسادهم بمرهم يتكون من «هليلة» و«قرض» حيث يوضع في «قبعة» هي نصف قشرة جوز الهند، وذلك تفاديًا للأمراض الجلدية التي تصيب الجسم في فترة الغوص.
التقاط المحار
حين خروج الغواص لسطح البحر يصرخ «السيب» (قوه قوه قوه) وذلك لرفع معنوياته، ولكي يخبر النوخذة أن الغواص قد أحضر الكثير من المحار.
أما في حالة وجود كمية قلية من المحار، فإن الغيص يرميها على سطح السفينة بقوة كي تصدر صوتًا يوهم الآخرين بكثرة المحار.
يقوم الغواص بالغوص 10 مرات في اليوم، أما في الشتاء فتكون 8 «تبات»، وتسمى هذه المرات «القحمة»، والواحدة منها تسمى «تبّة»، وبعد كل «قحمة» يتم استبدال الغواصين والسيوب للراحة ويستمر ذلك حتى وقت الوجبة أو حلول الليل.
يتم جمع المحار في مكان مخصص في «خن السفينة» في الوسط يطلق عليه «الخدع» ويترك حتى اليوم الثاني، من صيده لتتم عملية فتحه «يفلق» وفترة فتح المحار تسمى «الفلاق» ويفتح في اليوم الثاني لأن المحار يكون حيًا ويصعب فتحه في اليوم الأول.
يقف النوخذة أمام البحارة معلنًا وقت الفلاق بقوله: «طلبوا الله» أي ادعو الله أن يرزقكم. وهي بداية الفلاق.
يراقب البحارة وهم يفلقون «المحار» كي لا يبتلع أي منهم «لؤلؤة». وقد يكلف أحد البحارة بالمراقبة ويسمى «ناطور».
ويضع البحارة ما يعثرون عليه من لؤلؤ بين أصابع أقدامهم كي يشاهده الجميع ويتفاخروا بما حصلوا عليه، ومن ثم يتم جمعه بأمر النوخذة.
يتم جمع اللؤلؤ من البحارة بوضعه في محارة كبيرة أثناء جمعه ثم يضع النوخذة اللؤلؤ في قطعة قماش (صرة)، يتم صبغها بالقهوة لتكون داكنة اللون مقابل لون اللؤلؤ الفضي أو المصفر ويطلق عليها «لبّابة».
يتم بيع اللؤلؤ على الطواشين الذين يجوبون البحر بسفنهم الخاصة، قاصدين سفن الغواصين لشراء ما لديهم من لؤلؤ ويتم التفاهم بين «الطواش» و«النوخذة» بسرية تامة دون معرفة البحارة من «غواصين» و«سيوب» بما يدور من بيع وشراء.
يغطي كل من «الطواش» و«النوخذة» يديهما بقطعة قماش ويتم التفاهم التجاري بلمس الأصابع للوصول إلى السعر المناسب الذي يتفق عليه، وبناء عليه تتم الصفقة بصورة سرية تامة.
يدخل الرجال البحر في سفينة واحدة شيعة وسنّة دون أي تمييز للطائفة.
ومن النواخذة الشيعة الحاج ناصر بن حسين وهو من قرية دار كليب كانت سفينته تبحر من ساحل قلالي (جزيرة المحرق) ومعظم بحارته من أهالي جزيرة المحرق، وكذلك النوخذة راشد الفضل الدوسري من المنامة من حي «أبو صرة» ركب معه العديد من أهالي سماهية والدير وقد قابلت بعضًا منهم أنا شخصيًا، كما أن الكثير من أهل السنّة، من بلاد فارس كانوا يأتون من ديارهم من أجل دخول الغوص فقط ومن ثم يعودون لأهاليهم بما كسبوه من مال.
وأدى اختلاط الأجناس واللهجات والطوائف إلى ظهور بعض الأغاني المختلطة، فمن تراث أهل السواحل الفارسية العرب نقرأ مثلاً:
يا من بحسنه بطل كل عالم داري
ودعيت دمع (البيابي) على الوجن داري
إنت سبب علّتي وانت اللي بها جاري
ريت الملاح أوردن قبل أنهلك ياجون
ودعيت دمع المتيّم على الهوى يا جون
سايلتها مسألة (مردن كجار ياجون)
قالت (برو يا بسر أز من جكار داري)

ويلاحظ أن البوذية العربية قد امتزجت ببعض الكلمات الفارسية لكونها اللغة الرسمية في بلادهم.
العودة من الغوص (القفال)
لا تحد السفن في البحر حدود فكل بحارة الخليج يجوبون البحر عرضًا وطولاً، فقد يزور بحارة من «البحرين» بحارة آخرين من «قطر» على ظهر سفينتهم للتسامر والسمر.
ويقوم بحارة من «الكويت» بزيارة إخوانهم بحارة البحرين في البحرين وتتم استضافتهم في حفلات السمر في «الدور»، ويطرب البحارة الكويتيون بمشاركة إخوانهم في البحرين برقصات «لفجري» حتى الصباح.
وحين تمر سفينة على أخرى في عرض البحر يقوم البحارة بدعوة الآخرين عن بعد بقولهم:
حياهم (تعني تفضلوا عندنا) وهذه تسمى (عزيمة بحارة) أي أنهم لا يعنون شيئًا من هذه الدعوة لكونهم لا وقت لديهم إلا للغوص.
يعود البحار إلى أهله فرحًا وغالبًا ما تكون هديته إلى أولاده (نجمة البحر) «العوعو»، والغواص له مكانة اجتماعية كبيرة في المجتمع، حتى أن بعضهم يجد من العيب أن يعمل أي عمل، فتجده يقضي أوقات فراغه في المقاهي، وفي الليل يكون الغواصون في «الدور» وهي حجرة ليست بها نوافذ، كي لا يخرج صوت الغناء وقرع الطبول لمسامع الجيران في بيت مخصص للطرب والالتقاء للرقص والمرح. أما في ليالي الصيف فيحلو السمر على «السيف» حيث يقوم البحارة بممارسة فن «لفجري» وهذا النوع من الغناء يعتمد على قرع أفواه «الجحال» وجوانبها والجحال نوع صغير من الجرار الفخارية، ومفردها «جحلة».
من مآسي حياة الغوص
كثير من البحارة، خصوصًا في المناطق التي لا توجد بها زراعة أو مهن معتمدة يعود لها البحارة بعد عودتهم من الغوص، تتزايد الديون عليهم مع مرور الأشهر دون دفع، ونظرًا لعدم وجود أي ضمان اجتماعي للبحارة فإن الدّين لا يسقط في حالة وفاة البحار وتكون أسرته ملزمة بالدفع، وفي حالة عدم التمكن من الدفع قد يحصل التالي:
يدخل ابنه الغوص بدلاً منه، دون مقابل كي يسدد الدّين الذي على أبيه.
قد يتزوج بعض الطواشين أو النواخذة (صاحب الدّين) زوجة البحار بعد تطليقه منها جبرًا،
يتزوج صاحب الدّين ببنت البحار المدين حتى لو كانت صغيرة في السن، يُغتصب بيت البحار منه بالقوة. وقد حدث أن رمى أحد تجار اللؤلؤ المشهورين في المنامة عائلة من أهالي السنابس المعروفين في الطريق، واستولى على البيت.
يعامل البحارة كالعبيد حيث يتم نقل البحار من ملكية نوخذة إلى آخر ويتنقل الدّين معه ولا يسقط عنه.
كثير من الشباب يدخل الغوص كي يجمع مالا ليكون مهرًا لحبيبته أو ابنة عمه أو قد تكون بنت الجيران، وتكون الصدمة قاسية حين يجد تلك الفتاة قد زفّت لرجل آخر في غيابه.
ومن الحكايات التي تروى في هذا الخصوص أن شابًا غادر للغوص مودعًا حبيبته، على أمل أن يعود سالمًا غانمًا، فيزف عريسًا على حبيبته، ولكن غدر الزمان وقسوة الرجال الميسورين في ذلك الوقت حالاً دون ذلك، وجد أن حبيبته قد زفت إلى أحد النواخذة الميسورين دون مراعاة لمشاعره، أو يطلب من امرأة حامل أن تدر حليبًا من صدرها في إناء ويقذف به في مياه البحر، معتقدين أن هذا الحليب سيسبب رياحًا مغبرة تلزم النوخذة بالرجوع مبكرًا للديار.
تتوجه الشابات من النسوة لإحدى النساء كبيرات السن (العجائز) ويضعنها عنوة من دون رضاها في كيس من الخيش، يحملنها وهن يضحكن من مقاومتها ورفضها بالترفيس والضرب، وما أن يصلن ساحل البحر حتى يقذفن المسكينة في المياه الضحلة على الساحل، وبهذا يقلن للبحر سيكون مصيرك نفس مصير هذه العجوز إن لم يعد أهلنا سالمين غانمين.
-----------------------------------
* باحث بحريني في التراث - مملكة البحرين.



يوسف أحمد بن ماجد النشابه*