هَرَمٌ مِن ثَلج


(ما كُنتُ أصَدّقُ راوِيةَ العُشّاقِ قَديماً
كُنتُ أجاري صَبوةَ فُسحاتِ الروحْ
وأنا أتَصفّحُ كُتباً أقرأ نَزفاً
كم قُلتُ هُوَ الوَهمْ)

شدوُ عصافير، تطير وتحطّ أمينة بين قدميه، ومقعد خشبي خشن في حديقة أسوارها عالية، وراء بوّابة حديدية محكمة الإغلاق، وأشجار لا تثمر..
وهذا المهدود المتلفّح بدثار يغطي ركبتيه، يضع على عينيه نظّارة سميكة، ويعتمر قلنسوة بيضاء، يغفو بين الحين والحين، وعندما تداهمه الذاكرة ينتفض، ويرنو ببصره الضعيف إلى الفضاء المُفرج عنه من مكان يبدو رغم جماله وهدوئه.. سجناً.!
(في رُكنِ الأرضِ هنا
يومَ تَباعَدَتِ الزَفرات
أعيشُ مُواتي)

قدرٌ يتلاعب بمصائر الناس، ويتقاذفهم من قطب إلى قطب، وهم غارقون في حومات الغرور، يحسبون أنهم يصنعون أقدارهم.؟!
يتناول كتاباً، يقلّب صفحاته، ثم يلقيه جانباً..
كل شيء حوله طافح بالكآبة.. هذه الأسوار الشاهقة تقبض على أنفاسه، والمشرفة الشابّة البدينة، تتجوّل بينهم، بتأفف وتراقبهم بعين بوليسية.. تمارس عليهم سطوة من نوع لا يختلف كثيراً عمّا يمارسه السجّانون على العتاة من المجرمين.
ذلك الرجل النحيل، يرتدي ثوباً طويلاً، ويجلس على حافَة حوض فارغ من التراب، يمسح شيئاً يبلل خدّيه.. يصارع شيخوخته وذاكرة لم تعد تستوعب غير المرارة.. ابنته الوحيدة بين خيارين، إما أن تتخلى عن رعايتها لأبيها، أو تستقبل الطلاق من زوجها الذي لا تقبل رجولته أن يشاركه بها أحد، حتى لو كان أبيها، وبين الخيارين كان الأب الرقم الأسهل لتلقي به في دارٍ للمسنين..
تلك المرأة البدينة، شاء لها حظها العاثر أن تبقى عانساً بلا زوج ولا أولاد، مضى بها الزمن بطيئاً، ورماها في بؤس الشيخوخة.. إخوتها يسحبون من تحتها حتى الفراش، ولا تجد غير هذه الدار، تحمل بؤسها وقلّة حيلتها وعجزها..
منذ متى بدأت بهم الحياة.؟ وإلى أي مصير أوصلتهم.؟
ومنذ متى استوقفتهم تلك اللحظة الفاصلة، وحملتهم مراكب المجهول إلى شواطئ لم تكن في رسوم حساباتهم، أو في أدنى تصوّراتهم أن تكون.؟
ثم.. لم يبق لهم من ماضيهم، غير طيوف الذكريات.
ويمضي بـ "فارس" أيضاً المصير المجهول، إلى ركنٍ وسرير في دار للمسنين، بعد أن فرغت من حوله قيم الحياة.
وانفضّ من حوله كلّ الذين تسلقوا أسوار ذاته، وكم أغلقوا أمام ضوء عينيه حتى فرجة النظر إلى مرآة نفسه، ليتلاشى فيهم ومن أجلهم، يصبّ تعبه على مدار اليوم عدواً وزحفاً، ليؤمن الكفاية إلى أطفال يتامى ما بلغ أكبرهم سنّ الحلم، وأرامل رحل عنهم أحباؤهم شهداء من أجل حبيبة أكبر.
يلقي نظرة عابرة على الكتاب السميك الملقى على المقعد الطويل.. ويبتسم ابتسامة كسيحة..
كل شيء صار يفقد معناه وقيمته، ما جدوى تلال من الكتب، ونزيف لم يتوقف، أنتج تلالاً من روائع الإبداع، وشواهد الحقيقة، وتصاوير النبل، وعيون ما أبصرت غير المعرفة، ثم اندثرت رماداً في ركن لا يلتفت إليه أحد..
الأطفال يكبرون، وهم في طريقهم لاكتشاف حيواتهم، يمتصّون حتى فسحة النَفَس من صدره، وما إن تقوى أجنحتهم، وينمو عليها الريش حتى يطيروا بعيداً في شتات الأرض..
تتقزّم الحاجة، وتتعرى الأشجار في مواسم الخلع الرتيب، ويصير كل شيء إلى موت مقيت.
يومها.. كانت لحظة لم تتعدَ وقوفاً أمام جملة..
"عندما تعشق الأنثى، يصبح لون دمها بنفسجياً..!"
جملة غريبة.. مدهشة دخلت إلى قلبه، وفتحت أمامه مساحات مليئة بالأسئلة.
مفردات من لغة تدفقت إلى شرايينه، وحملت كل طموحاته إلى "سلمى"..!
تلك المجهولة إلا من حروف وقّعت بها على ذيل خاطرة لها منشورة على صفحات مجلّة أدبية، قد يكون اسمها أو لا يكون..
أتراه بعد هذا العمر يبدأ استدرار لحن جديد، يزخرف جفاف حياته بلون من الفرح.؟
أم تراها مبحرةً في عالم المعرفة، وعلمّتها تجارب الحياة الكثير الكثير.. حتى درجة لون الدماء عندما تعشق الأنثى.؟
كان وقتها يصارع شبح حب قديم بدا موغلاً في الشرايين، وغارقاً في ستائر كوابيس لا تنتهي، بدأ دافقاًً عارماً عندما جاءته "دليلة" على حين غفلة، رسمت أطياف وطنه الغائب بين مفردات قصائدها، ولوّنت له بوّابات الأمان بخيالات عشرات الموجات، تهبّ على شاطئه في كل يوم، وملامح حب كبير.. فبذل لها كل ما انهمك في الغياب عبر مسيرة عمر العطاء الطويلة.
وعندما ساقته المقادير إليها، تعشّم أن يجد بين عينيها وطناً، وشاطئ أمان، وهدأة روح.. فأعطاها من دفقات إبداعه، ونزيف أحاسيسه، أيقونات خلود..
ولكن سرعان ما سقط البريق المزيّف، وركبت أمواج الشك والغيرة سفينتهما المبحرة إلى عوالم غيبية، فأغرقت ما بقي من خفقات تحت سياطها المؤلمة، وتوضّعت رواسب نفسها في حلبة ما كان، ليخرج من رحم ذلك النقاء الذي بدأ يطفو على سطح ما بينهما مارداً عملاقاً فضح ماضيها وحاضرها المعتّق بالجنون.
ولم يعد الأمان هو فيصل ما بينهما، بل لهاث محموم لصيرورة حكاية تضمهما، تقود أوهامها إلى الخلود، تشبه حكايات قيس وليلى، وميّ وجبران، وغسّان وغادة..
كانت تستدرجه إليها، وهو يعرف ويشعر بطوفان غرور يسعد روحه..
كتبت له عن حياتها وماضيها وحاضرها، عن عذاباتها وفشلها ومعاناتها، عن أسرتها ورفاقها ومجتمعها، عن بيتها وزوجها وأولادها، عن متاعب لا تحصى تدور في حلقاتها ولا تكفّ.. أوصلتها ثلاث مرات إلى حافَة الجنون، وإلى عيادات أطباء متخصصين بالأمراض النفسية.
وكيف لا تدغدغه مشاعر الغرور، وقد جاءت إليه "دليلة" تحمل بين عينيها وطناً مزيّفاً، وأمنيات جوفاء لم تخرج عن دائرة أناها، فوصلت إليه في الوقت المناسب..
جاءت تحمل فوّرة الأمل في الوقت الدقيق، في تلك السقطة بين مسيرة حياة وصخب وحركة، إلى ما يشبه الصمت المذوّب في فراغ اللا شيء، يوم حمل آخر العصافير مزود البحث عن ذاته.. صفق بجناحيه الضعيفين، وغادر نافذة الصخب..
يوم وضع آخر العصافير التي تقتات من عرقه وتعبه ويديه قدميه على سلمّ الشباب، من كانوا يتحلّقون حول مائدته، ويضخ في شرايينهم قيمة الحياة وأخلاقها ومعانيها إلى جانب دفقتها .. وكرّس لهم القدرة على انتزاع المعرفة واللقمة والتواصل مع الآخر.
وعندما حلّق آخر الطيور بعيداً، كان "فارس" يقف على عتبة الستين من عمره، وكان عبر مسيرة العمر، ووسط دوّامة الآخرين، قد أغلق بوابات قلبه كلها، وفتحها إلى جهة واحدة.. بيته أسرته أولاده وزوجته، وذلك الإرث من الأيتام والأرامل..
كان مساس العمل والحاجة والأفواه الكثيرة التي تنتظر منه وحده بلسم الحياة، وتقاسيم المعرفة، يغلق أمامه كل نافذة بحث عن حاجات أخرى، قد تكون على قدر من الأهمية لثراء روحه، لكنه لم يلتفت إليها، وعندما جاءته من "دليلة" دعوة سهلة وبسيطة وأمينة.. ألقى إليها حبل الصعود وسرعان ما تسلّقت إليه.. وسرعان ما انقاد إليها..
(أذرفُ دمعاً لا يُشبهُ أيَّ دُموعٍ نَزفتْ من مَحروقِ الكَبِدِ
أذرفُ قَطَراتٍ أملاً يَحرِقُني
وَيُواسيني)

بينه وبين "دليلة" أسوار وحواجز وأسلاك وألف حدود مذخّرة بالعسكر، وجدران مرتفعة يستحيل على أحدهما القفز فوقها، أسماه راضياً "الحب المستحيل" ومضى إليه بكل عنفوان الرغبة.
كيف يصبح دم العاشقة بنفسجياً.؟
كلمات مفعمة بالصدق بدت أمام طوفانات الألم والحصار اللذين يعيش في قالبهما منذ نشأت تلك العلاقة بينه وبين دليلة، لتبدو تلك الإطلالة الجديدة منارة الأمان لروحه.. لم يكن يعرف غير حروف اسمها "سلمى" ولا يعرف لها رسماً ولا شكلاً ولا مكاناً.. لكنه ولمقادير لم يجد لها تفسيراً أحسّ أنها شاطئ روحه..
كانت خاطرتها المذيّلة بعبق البنفسج مرتبكة بمشاعر مختلطة من خيبة وحزن وقهر..
ـ لماذا هذا الحزن.؟هل أكتب رأيي علناً، أم نتحدث.؟
بعد لحظات انشقّت السماء، وأشرقت الشمس بعنفوان جديد، وتدفّق بينهما حديث طويل، محوره الصدق المجرّد، والبساطة والوضوح..
ـ أنا تجاوزت الستين ؟
أصابعه ترتجف على أزرار الحروف المسافرة إليها، ونبضات قلبه تزداد وجيباً، وهو يمارس جرأة لم يعهدها بنفسه من قبل..
ـ وأنا أغادر الأربعين
رباه.. كيف يلتقي ربيع بخريف.؟
ومن هذه البنفسجة التي أوصلت له ريحها الطيب قبل أن يعرف عنها شيئاً.؟
يومها، رسما أطراً للطريق الماضي بهما إلى مجهول، بخطوط عريضة وتفصيلية وصادقة..
ـ أنا متزوج وأب وجد.. وأنتمي إلى أسرتي..
ـ وأنا زوجة وأم.. وأنتمي إلى أسرة..
ـ هل تقبلين صداقتي.. وربما أكثر..؟!
توقّفت الحروف عن النبض، وتوقّف رجف أصابعه، وتسمّرت عيناه على الشاشة..
ثم.. تسرّبت الحروف بطيئة، ولكنها نابضة بالحقيقة
ـ نعم..
ـ أنا وكل شيء.. أو لا شيء
ـ وأنا وكل شيء.. أو لا شيء
يومها شهدت الحروف عبر مسافات مجهولة عهد الوفاء بينهما.
(هل يَصْدُقُني النَورسُ قَولاً.؟
يَوماً ألقاك..؟!
ونُقيمُ طُقوساً ما عَرَفتْها أسرابُ فراشاتِ الحُلمِ)

يومها عادت إليه الروح من جديد، وبدت الحياة أجمل وأبهى، وهو يعيش الأيام مع "سلمى" وكأنه الآن يخرج من تلك الدوّامة التي طحنته في أتونها طويلاً، ليلمس البعد الإنساني في صميم نفسه، ويستعيد معها فطرة الكائنات، ورغبته وأحلامه.
بينهما رابط مدهش وغريب، قوامه وصال الروح.
من قال إن الإنسان يستطيع أن يرسم أقداره.؟
مضت بهما الرحلة بمتاعها البعيد، وأطرها المجهولة إلى تبادل مشاعر وأحاسيس كانت على مدى شهور كثيرة الرابط الوحيد بينهما.. وكانت الكلمات مرآة نبضهما، والقطرات الجميلة الرائقة التي أبعدت عنهما وحشة الأيام التي كانت.
(وأذرفُ في قَلبِ الصَمتِ الموجوعْ
وجودي وبَياضي
وأقرأ هذي المرّة من نَسغِ كِتابي
ها قد أصبحتُ بموسوعاتِ العِشقِ رَديفاً)

اقتربت واحدة من المشرفات الشابات، تتقدمها ابتسامة عريضة، ربتت على كتفه بارتياح فالتفت إليها.. جلست إلى جانبه صامتة.
تلك المقادير التي تتحرك وفق تراتيب خارجة عن مساعي البشر، رتبت عندما كان مجرد الحلم حلماً موعداً للقاء بينهما، وسفراً قريباً إليها..
هكذا بلا مقدمات وبلا ترتيبات وجد نفسه وبيده جواز سفر ينتظر إقلاع الرحلة 202 . والصور تركض سريعة أمام ناظريه.
هل سيجدها تنتظره كما اتفقا.؟ كيف سيلتقيها.؟ يصافحها.. يضمها إلى صدره، يقبّلها.
وكيف سيجدها.؟ طويلة قصيرة بيضاء سمراء جميلة ؟.
هكذا تعبث في نفسه الصور.. لكنه وطّن في نفسه قراراً لا رجوع عنه.. لتكن ما تكون فقد عرف فيها بياض الروح، والنبل والوفاء والأمان.. فماذا يريد أكثر.؟
التفت إلى الشابة الجالسة إلى جانبه.. وابتسم.
وكانت هناك تنتظره..
وقف أمامها.. نظر إليها طويلاً، ضمّها إلى صدره فاستسلمت، وتعلٌّقت بينهما ابتسامة بريئة صادقة أليفة، اختصرت كلّ مراسيم اللقاء..
حاول أن يكتشف من وراء النظّارة السوداء تطابق الصورة بين خيال وحقيقة، وعندما فكّت أستارها، رأى رسمه يسكن محجريها.
(أبقيني يا عمري بينكِ
فالرحلةُ تَبدأُ مِنكِ إليكِ)

وأبحرت بهما رحلة الحب على قارب الصدق البريء الذي ما غادر الكلمات التي عرّفت عنهما.
وعندما التقيا لأول مرة، أدركا أن كلّ ما كان بينهما من كلمات عبر الأثير صادقة وأليفة وعلى حدّ الوفاء.
ترى.. كم ينتظر الإنسان على مسيرة عمره، ليلمس بعض أمانيه حقيقة أمامه بكل نبضها الصادق.؟
وإلى أي مدى يمكن أن يفعل هذا الملمس في خفقة روحه.؟
أحس أنه الآن يبدأ شوط الحياة بالمعنى الذي أراده له الخالق، هذه السيّالة بين يديه، تخاف عليه وكأنه قطعة من كبدها، تحنو عليه، تعتني به، تعيده إلى عرش رجولته، وتذوب بين يديه أنثى بروحها النبيلة، وتفرش أمام أبسطة أمنياته كل جميل.
(أيا عمري
كم كُنتِ على مدِّ الوقتِ طَعامي وَرِدائي
قهوةَ صُبحي ومَسائي
كُنتِ الرَجْعَ إذا أطلقْتُ نِدائي
كُنتِ المِحرابَ.. وسَتْري وَغَطائي
كُنتِ مَصَدَّ الريحِ كي لا يأتيني يَطعَنُ ظَهْري
كُنتِ البَوحَ الراجِفَ فوقَ تفانينِ كِسائي
كُنتِ أيا عُمري مِنّي
تَسري في مِعراجِ دِمائي
أو فيّّ كما روحي
كُنتِ سِراجي وَضِيائي)

بينهما عهد وفاء مكين، وانصهار عجيب في كيان روحيّ واحد يجمعهما بمواجهة أي شيء وأي حالة وأي قرار.
على ضفاف النهر الكبير نقشت خطواتهما مواقيت وملاحم، قد تصلح لتكون دليلاً للآتين إلى مراكب العشق والتلاشي في الآخر إلى حدّ الغياب الأزلي بلا تردد.
يشدّ على يدها الساكنة بين راحتيه، يستعيد بؤس حياته هناك.. ويتمنى لو يقف به الزمن عندها.
(لو جِئتُكِ مِثلَ عَصافيرِ الصُبحِ
أرجوكِ..
أقيمي الشَبكةَ واصطاديني
أبقيني في قفصِ السِجنِ)

تنبض عيناها فرحاً ورجاءً..
ـ تعال إليّ واسكن في قلبي.. تعال نتابع معاً مشوار الحياة.. تعال إليّ.. فقد غرق لون دمي بواحات البنفسج.
وتعصر يدها بقايا ذلك الأمل انتظاراً لكلمة تفتح أمامها بوّابات الفرح.
لكنه يصمت.
(قد عُفتُ الميناءَ الـ يأخُذُني مِنكِ
عُفتُ مطاراتٍ تَحملُني أو تُبعِدُني عَنكِ
وكرهتُ مَحطّاتٍ لا تُرجِعُني..!)

هناك في ذلك الأتون الذي امتصّ منه ريق الحياة صنع تاريخه، وهناك في ذات المكان الذي قيّده أمام عربة احتياج الآخر بنى هرماً شامخاً، وتربع على قمّته سيداً ومركزاً ومقاماً..
كيف يلفظ تاريخه.؟ وكيف يهرب من مسؤولية من يمارسون عليه أقسى أنواع اللامبالاة، وهم في الوقت نفسه يقتاتون كل نبضة في حياتهم منه.؟
كيف يبدأ من جديد والمركب كادت ترسو في مينائها الأخير.؟
هي أحمال ما زالت تثقل كاهله، وتُلجمُ حتى تلك الفسحة التي وجد منها براءة النور، لكنه النور المعشش في دياجير مساءلته لنفسه.
ولم يكن يدري بأن الهرم الشامخ الذي صنعه بدمه وعرقه وتعبه هرم من ثلج، يذوب رويداً رويداً.
وكلما رجته بدموعها أن يبقى معها، يسلخان بؤس الماضي بفرح الآتي، كان الصمت الكئيب ملاذه..
الهرم يذوب، والعصافير تطير واحداً بعد الآخر.
والبيت الكبير يخلو من زحام الضجيج.
وهي هناك.. تطيّر في كل لحظة رجاءها وانتظارها وأمنياتها.
وهو هنا.. في دار المسنين يجترّ الوقت، وينتظر فسحة الموت والمشرفات الشابّات يلوون ذراع الزمن في سبيلهم للتقرّب منه.
ـ حان موعد الغداء..
يواصل رحلة الصمت، يستجدي في كل لحظة وسيلة تحمله إلى رسوّ جديد، وركام الكلمات يبدو تافهاً..
بعد أن ماتت زوجته، وخلا البيت من ساكنيه الكثر، عاش ظلم الوحدة بكل أبعادها.
العصافير تسعى لبدء حياة جديدة على أنقاض ما كان.
باعوا البيت الكبير وتقاسموا ثمنه، وأسكنوه هذه الدار ينتظر مصيراً واحداً في حومة وحشة ووحدة.
أين أنت يا "سلمى"..؟
حاول أن يقف، رفع عن ركبتيه الدثار الثقيل، وأمسك بيده النحيلة طرف المقعد الخشبي الخشن.
وقبل أن تنتصب قامته النحيلة.. فكّت البوابة الحديدية أقفالها الثقيلة، وانتصبت قامة "سلمى" أمامه بالعنفوان الذي عرفه فيها.
بيدها تذكرتي سفر، وفي صدرها تنبض تلك الرغبة القديمة.
أمّا الهرم الذي كان شامخاً فقد سقط في دوّامات بقاء الآخرين.

ـ ـ ـ

ملاحظة: المقاطع الشعرية من تأليف الكاتب.