أن تكون ثائراً.. هل هو اختيار.!؟


هل ترانا نستطيع أن نقف في موقع الاختيار في أن نثور ونكون في منظومة الثوار نصرة لحقنا أو لا نثور.؟ وهل يمكن أن يخضع هذا التوجّه أصلاً -وكأننا بصدد أمور يمكن أن نحبها أو لا نحبها- للاختيار.؟
لقد فرض علينا أن نكون ثواراً، وكلما ازددنا عطاء للثورة، ازدادت طلباً، ونحن ملزمون بالطاعة، ومع دفق العطاء وروعة البذل، أصبحت الثورة قدرنا حتماً "وليس بالاختيار".. أصبحنا ثواراً بكل لحظة من وجودنا، وبكل نبضة في قلوبنا.
ولو استعرضنا التاريخ القريب، ولم نبتعد كثيراً عن مرحلة العمر التي مرّ بها آباؤنا وأجدادنا الذين نعرفهم وعايشناهم وسمعنا منهم ورووا لنا، فقد فتح والدي -وهو أنموذج لرجالات فلسطين- عينيه على تسلّط الحكم العثماني التركي، وقبل أن تلتئم الجراح التي خلفتها سياط الأتراك على ظهره، تقدّم المستعمر الإنكليزي على وقع الغدر والخسّة ليعلن وصايته على فلسطين، وهو بذلك شرّع سياطاً من نوع آخر تجلد ظهور الفلسطينيين، وتتحكّم ظلماً في حركة حيواتهم، فكانت الثورة قدرهم.
يقول والدي "رحمه الله" في مذكراته: (كان والدي "أي والده، جدّي" يدلّ خطواتي بالعزم والتحريض لأعبر الطريق إلى الثورة، فعبرته.. وكان ثوب السجن الأزرق الذي لبسته مع رفاقي عام 1918 أول وسام فخر زين صدري.)
ويقول: (وبفترة الانتقال العصيبة بين تسلّط الاستعمار الإنكليزي بحكم وصايته على فلسطين، وبين الغزوة الصهيونية، كنت مع رفاقي من أبناء فلسطين نحمل قدرنا وما نستطيع من أعباء المسؤولية الوطنية.)
ففي مطلع شهر نيسان عام 1936 توجه والدي "وهو من مواليد 1901 ويعمل محامياً" إلى مدينة عكا، مسقط رأسه، وقد أحس أن واجبه يدعوه لتوجيه الجماهير للثورة، وهو يعلم أن الثورة تعتمل في صدور الناس، ويعلم أيضاً أن إشعال فتيلها كان بحاجة إلى شرارة فقط.
وفي مدينة عكا، وبالاتفاق مع بعض شبابها، تجمعوا في جامع الجزار الكبير، وقد بدأ توقيت منع التجول في الساعة السادسة مساء ذلك اليوم وهم لا يزالون في الجامع، وبعد صلاة العشاء، اتصل والدي بقائم مقام المدينة السيد "بوارشي" وأعلمه أن الناس في الجامع، ويرغبون العودة إلى منازلهم بسلام، ، وكان ذلك جزء من خطّة رسموها بينهم تسعى لتأزيم الموقف، وهم يعلمون أن السلطة لن توافق على خرق هيبة حظر التجول لأي سبب، وبعد أن قام السيد بوارشي باتصالاته مع المسؤولين، أبلغ والدي رفض السلطة خروج الناس من الجامع، وقد أعترض والدي، وقال إن احتجازهم في المسجد بعد تأديتهم صلاة المغرب وصلاة العشاء يخالف ما جاء في صك الانتداب وفي بعض بنود جاءت فيه تتعلق بالحريات الدينية، لكن السيد بوارشي أبلغه بأن المسؤولين يصرّون على رفض خرق حظر التجول لأي سبب، وعلى المتواجدين في الجامع، البقاء فيه حتى صباح اليوم التالي.
وإزاء هذا الإصرار المحسوب مسبقاً بدأ المحتجزون في المسجد تنفيذ خطتهم.
بعض الرجال تسلقوا المئذنة العالية ومعهم طبل كبير وصنوج، وبصوت واحد دوت في واحة السكون المطبق صادحة من أعلى المئذنة في جامع الجزار في عكا صيحات الله أكبر الله أكبر، وردد الفضاء الصدى، وبلحظات معدودات وصل النداء إلى مسامع "العكاويين"، وسرعان ما هدرت الحشود التي خرجت بعفوية إلى الشوارع بصيحات الله أكبر الله أكبر، وقد نقل الليل وسكونه أصوات التكبير، وقرع الطبل والصنوج إلى القرى القريبة من عكا فخرجت هادرة قاصدة مدينة عكا وصيحات الله أكبر تهدر كشلال صاخب حتى مطلع الفجر، وتمكنوا من كسر منع التجوّل دون أن تستطيع قوى الأمن كبح جماح الجماهير.
لقد قام المخلصون من رجالات عكا بقدح الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة..
وعندما وقف الحاكم العسكري الإنكليزي ليصدر الحكم بنفي والدي من مدينة عكا.. ولد جيل من الأطفال، وولد غسان..
كانت الثورة قدرهم، كما كانت قدر الذين سبقوهم، وستبقى قدر الآتين ما دام الحق يعاني من قسوة الاغتصاب، وما دام الوطن يعاني من سطوة الاحتلال..
لم يكن أمام غسان، والأجيال التي أطلت إلى نور الحياة وسط هذه الأحداث، وكذلك الأجيال التي سبقت، والأجيال الآتية كما تؤشّر الدلالات، إلا أن يكونوا في أتون الثورة، ثوّاراً وليس من معادلات تبيح الاختيار.
أن يكون غسان ثائراً.. هذا قدره، وقدر الفلسطينيين، والثورة ليست شيئاً أو ممارسة نحبها أو لا نحبها، هي الحبل السري الذي يمدنا بأمل في البقاء، وهي طريقنا القسري كي نبقى، ونواصل، وننتصر..
كبر جيل الـ 1936.. وكبر غسّان، تفتحت مداركه على واقع أليم، ربما لم يستطع، كما لم يستطع ذلك الجيل بأكمله أن يجدوا في تلك السن المبكّرة ملامح أجوبة لأسئلة كثيرة، لكنني سأتكئ على التاريخ، وسأعمل على تبسيط الحكاية.
كانت بريطانيا، -الدولة الأعظم والأقوى في ذلك الوقت، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس- المنتدبة على فلسطين، وكانت تمثّل السياسة الاستعمارية بامتياز في كثير من دول العالم، وكانت الحاكم المطلق في فلسطين، وارتضت أن تحمل الأمانة الدولية لإدارة شؤون وسياسة واقتصاد وبناء وعسكرة فلسطين، لكنها -وهذه طباع متأصّلة في المستعمرين- خانت الأمانة، وتبنت بقوة الوعد الذي قطعه وزير خارجيتها "بلفور" بإقامة وطن لليهود على أرض فلسطين، واتخذت خطوات عملية مؤثّرة لتحقيق وتسهيل تمرير ذلك الوعد، ومن بعض تلك الخطوات ما سآتي على ذكره باختصار:
1 ـ استولت –حكومة الانتداب البريطاني- على أراضي "الجفتلك"، وأراضي الأوقاف العامة، والأراضي التي صنّفتها الحكومة العثمانية على أنها أراض أميرية، وتقدر بعشرات الآلاف من الدونومات، وقدمتها إلى اليهود دون مقابل.
2 ـ أباحت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، بل شجعتها، وأصدرت قانوناً بمنح الجنسية الفلسطينية لكل يهودي يقيم سنتين في فلسطين، مما دفع اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين من شتى بقاع الأرض.
3 ـ في المقابل كانت بريطانيا وهي تمثل "حكومة فلسطين" في ذلك الوقت تحكم على كل عربي يدخل فلسطين بالسجن ثم بالطرد، أما اليهود الذين كانوا يدخلون خلسة أو علناً بالمئات كانت تغرّمهم جنيهين فقط، مع السماح لهم أو التغاضي عن بقائهم في البلاد.
4 ـ سنّت "حكومة فلسطين" القوانين الظالمة والمرهقة على الفلسطينيين، بما في ذلك جباية ضرائب فاحشة، وكانت تصادر العقارات العربية لأقل سبب، وتقوم ببيعها أو إهدائها لليهود، وكانت شركة "ألايكا" اليهودية الأنشط في هذا المجال بدعم بريطاني كامل.
5 ـ سمحت "حكومة فلسطين" بفتح مكاتب "للوكالة اليهودية" التي تمثل يهود العالم في مدينة القدس، وكانت تقوم بتلبية جميع طلبات هذه المكاتب.
6 ـ الأحكام الجائرة التي كان القضاة الإنكليز يحكمون بها على الفلسطينيين لمجرد الشبهة أحياناً، تنفيذاً للتعليمات التي تصدر عن الوكالة اليهودية.
ولعل هذه الحادثة تدلل على ذلك، فقد كان والدي "رحمه الله" كونه محامياً يرافع عن المتهمين العرب الذين يقدمون للمحاكمات أمام المحاكم العسكرية المشكلة وفقا لقانون الطوارئ، يومياً من الساعة الثامنة صباحاً إلى ما بعد الثامنة مساء، وكانت شرطة الجيش تقلّه "محروساً" إلى بيته، وذلك بسبب نظام منع التجول، وحدث أن اقتيد في مساء أحد تلك الأيام إلى المعتقل دون ذكر الأسباب، ودون جريرة، وفي صباح اليوم التالي، وعندما علم المعتقلون والموقوفون "الفلسطينيون" باعتقاله، أعلنوا إضراباًً، ورفضوا الذهاب إلى المحكمة مما دعا رئيس المحكمة -وهو إنكليزي طبعاَ- إلى أن يستطلع الأسباب من مدير بوليس يافا، ثم من مدير بوليس القدس، ثم من قصر المندوب السامي البريطاني عن سبب اعتقال والدي "محامي الدفاع"، كان الجواب مختصراً وحاسماً: الاعتقال تم بناء على طلب الوكالة اليهودية.!
ولما أصرّ رئيس المحكمة على معرفة الأسباب التي دعت الوكالة لطلب اعتقال والدي، كان الجواب: إن هذا المحامي يتحامل على اليهود خلال المرافعات.. وقد تعجب القاضي من ذلك أيما عجب، وقال: أليس من حقه أن يرافع عن موكليه بحدود القانون.؟ وكان أن استبدل بقاض غيره بسرعة ملفتة.!
ومعلوم أن "الوكالة اليهودية" استلمت السلطة بعد الإعلان عن انتهاء الانتداب.
6 ـ تساهل حكومة الانتداب البريطاني مع موجة الإجرام اليهودية التي قصد منها أصلاً إرهاب العرب، ومن المفارقات الغريبة أن اليهود قاموا أكثر من مرة باغتيال وخطف عناصر من الجيش البريطاني، وكانت تقابل هذه الأعمال بالتساهل والسكوت من قبل حكومة الانتداب.
إن ذلك كله ليس معلومات جديدة أو سريّة، فهي معروفة وجليّة للجميع، لكنني أتيت على ذكرها لأدلل على طبيعة الظروف والبيئة التي جعلت من غسان.. وجيل غسان ثوّاراً.
كان غسان يراقب والده وهو يتفانى في الدفاع "في ظروف رهيبة" عن الثوار العرب أمام المحاكم الإنكليزية.. كان يراقب كل شيء بصمت وذهول.
وقبل أن يلامس ملاعب طفولته أُخرج من بلده ومن بيته مشرداً لاجئاً، كل ما يعرّف عنه وعن حقه في هذه الحياة بطاقة حمراء، وحفنة طحين، وقطعة صابون..!
ولنا أن نتصوّر كيف كبر غسان بعد اللجوء والتشرّد.؟
كنت أرى والدي يبكي وهو يراقب الطاولة الصغيرة يحملها غسان، ويجلس إليها أمام مبنى المحكمة "في بناية العابد بدمشق" يكتب العرائض مقابل قروش يدسها في يد أمه ليأكل الصغار.. حتى عندما صار مدرّساً في مدرسة الأليانس" كان طفلاً..
وعندما سافر إلى الكويت ليبدأ الصراع "في ظروف صعبة جداً" مع الحياة، كان طفلاً، وحين بدأ المرض يأكل من حياته كل يوم قضمة كان طفلاً أيضاً.
إذا شئت أن تسمي كل هذه الآلام، وكل هذا الشقاء طفولة.! فهي طفولة غسان..
لقد رأى بيته في مدينة عكا وهو يغيب بلا عودة، وبرتقاله في يافا يسرق.. رأى وطنه يغوص بالضياع شبراً شبراً.. رأى المأساة، كل المأساة رآها وعاشها بكل دقائقها ولحظاتها.
لقد رأى العالم وهو يلهو على جراحنا، رأى الحكومات العربية وهي تضعنا على طاولة المزاد العلني، رأى وجوده وحياته أرقاماً في "شعبة الأجانب" في كل بلد يدخل إليه..
فهل كان أمامه أي مجال للاختيار.؟
لقد كانت الثورة قدره، منحها قلبه وقلمه وفكره ووجدانه، واستطاعت الثورة بأصالتها المسكونة فيه أن تصل به إلى مصاف الكمال، حين تُوّج بالشهادة.
يقول والدي في بطون مذكراته: (لقد كان غسان ولدي، وقطعة من كبدي، بفقده فقدت جزءاً عزيزاً من وجودي، ولكن عزائي أنه استطاع أن يعيش قدره بكل روعة البذل، وسخاء العطاء.. لقد أرعب بقلمه وفكرة قاتلي أرضه وإنسانيته، كان يدمي أجسادهم كما يفعل الرصاص، لقد استطاع بصموده وإخلاصه لثورته أن يحمل الصليب طيلة ستة وثلاثين سنة، ثم يقف بشجاعة الثوار، وهو يّدق عليه)
كان غسان صورة لفلسطين، صورة لكل فلسطيني، كان غسان قضية، وكان المشعل الذي أنار الطريق أمام خطوات أخوته ورفاقه لتشتد المسيرة بهم، وليكبر العطاء..
وأنا أنبش في أوراق والدي "رحمه الله" عثرت على ورقة صغيرة، يبدو أن والدي كتبها في لحظة رثاء لغسان، ولم تجد طريقها للنور، فرضت عليّ الأمانة الأدبية أن أنقلها، فرضاً يؤصّل في كل وقت إنسانيتنا، وطريق الثورة والمقاومة الوحيد الذي بقي لنا.
كتب والدي يقول:
(ولدي غسان..
كنت أعلم يقيناً إنني سأفقدك يوماً، وسأراك يوما شهيداً، سراجاً من نار ونور على صليب نضالك، لأنني نذرتك لهذا اليوم منذ رأت عيناك الدنيا.
ولكنك يا ولدي قطعة من كبدي، رعيتك بعينيّ، وحنوت عليك بنبضات قلبي.. حبوت على كفيّ، ودرجت كلماتك الأولى بفرحتي ولهفتي.
يا ولدي الحبيب..
بكيتك بدموع بكيت مثلها وأنا أودع بيتنا في عكا.. فُجعت بك كما فجعت بوطني حين كنت أراه يذوب في بحيرات في الضياع.. كنت أعلم يا ولدي أنك على حق، أنك تكتب كل الصدق والحقيقة، كنت أقف وراء كلماتك وكتبك وأحاديثك، أشم منها رائحة البارود، وأسمع منها صوت الرصاص، وصوت الحقيقة.. لذلك قتلوك، لأنك على حق، ولأنهم أرادوا إسكات صوت الحق.
يا ولدي الحبيب..
عزائي فيك أنك توّجت نضالك بأروع إكليل غار، وزينت كفاحك بأنبل وسام..
عزائي أنك عبّدت باستشهادك أنت وكل من قدم حياته قرباناً لفلسطين طريق الحياة، أنكم بعثتم من قلب الألم، صيحة الأمل، لقد رأيت ذلك الأمل نابضاً في وجوه الآلاف المؤلفة الذين ودعوك.
أي بنيّ..
عندما يكبر الصغار.. عندما يدرجون في شوارع عكا وأزقتها، سوف يذكرون دائماً أنك عبّدت باستشهادك، طريق عودتهم..)
فهل لنا بعد ذلك كله إلا أن نكون ثواراً، وأن تكون الثورة قدرنا.؟

ـ ـ ـ


ع ك
2010/3/17