حروف لاتينية.. للغة التركية
03.08.2010 09:23


ينتقد الكثيرون المجهود العربي الراهن في فهم تركيا الحديثة فالمكتبة العربية لاتزال فقيرة في هذا المجال، والاعمال السياسية والثقافية التركية، وكذلك البحوث الاكاديمية التي تتناول احيانا العلاقات العربية – التركية لا تترجم، واهتمام طلبة الجامعات بالثقافة واللغة التركية محدود جداً.
والحقيقة ان هذه اللامبالاة او ضعف الاهتمام العميق والمتابعة العلمية للشأن التركي في بعض جوانبه امتداد لإهمالنا الأكبر ازاء الدولة العثمانية، وسجلاتها، والبحوث المتعلقة بها، ولا يمكن بالطبع ان نعرف تركيا المعاصرة جيدا ان لم يتفرغ جمع من الباحثين في العالم العربي لدراسة الثقافة واللغة التركية (وهي ثقافة ولغة تمتدان خارج تركيا وربما تصلان الصين!) ولدراسة الدولة العثمانية وسجلاتها من جديد.
ونقف هنا قليلا في هذا المقال عند اللغة التركية، التي يصنّفها علماء اللغة ضمن مجموعة لغات «الاورال – ألتاي»، التي يجمعها البناء القواعدي النحوي والوحدة القاموسية، ويقول الباحثون ان لهجة استانبول تشكل اساس اللغة الادبية التركية، كما ان هذه اللغة تضم لهجات عديدة، وقد استخدم الاتراك لقرون طويلة الالفباء العربية في كتاباتهم في المرحلة التي تشكل بداية التركية العثمانية، والتي بقيت متداولة من النصف الثاني من القرن الخامس عشر وحتى العقد الثالث من القرن العشرين.
ففي شهر اغسطس من عام 1928، يقول الباحثان العراقيان د.عبدالجبار غفور ود.شامل العلاف، اقر المؤتمر اللغوي الذي عُقد باستانبول اتخاذ ابجدية جديدة للغة التركية على اساس الحروف اللاتينية بدلا من الحروف العربية، وفي الاول من نوفمبر من عام 1928 اقر «المجلس الوطني الكبير» الابجدية الجديدة التي تتألف من 29 حرفا، ومنذ بداية الثلاثينات اصبحت الالفباء الجديدة (الحروف اللاتينية) ملزمة لسكان البلاد».
ويضيف الباحثان ان اللغة التركية قد ورثت كلمات عربية وفارسية كثيرة جدا، ودخلتها كلمات كثيرة كذلك من اللغات الاوروبية وبخاصة الفرنسية والالمانية مع بداية احتكاك الامبراطورية العثمانية بالغرب، ومن اليونانية والبلغارية والارمنية بحكم علاقات الجوار. وقد دخلتها منذ الحرب العالمية الثانية الكلمات الانجليزية بشكل واسع بسبب وجود الامريكيين في تركيا والعلاقات الواسعة التي تربط الطرفين.
وكانت تركيا قد حاولت الحد من استخدام الكلمات الاجنبية، كما في العالم العربي وايران وغيرها، عن طريق اشتقاق الكلمات واستخدام الكلمات التركية من اللهجات المختلفة بدلا من المفردات غير التركية، وقد تزعمت «الجمعية اللغوية التركية» هذه المجهودات، حيث ترسخت بعض هذه الكلمات المشتقة من اصول تركية في اللغة الادبية، «غير ان الاكثرية الساحقة منها، والتي فرضت قسرا على اللغة التركية بقيت غريبة وغير مفهومة لدى الاوساط الشعبية الواسعة من السكان وخاصة غير المتعلمين والذين استمروا في استخدام المفردات السابقة وخاصة العربية منها. وفي عام 1970 استحدثت «جمعية المحافظة على اللغة التركية»، والتي تهدف الى الحفاظ على اللغة التركية المفهومة بين السكان» (تركيا المعاصرة، منشورات جامعة الموصل بالعراق، 1988، ص 73-71).
وخير دليل على محدودية نجاح هذا المجهود «التنقوي» في اللغة التركية بقاء عدد هائل من الكلمات العربية، وقد اخترت للقارئ من القاموس نحو اربعين كلمة من اصول عربية واضحة، وهناك ربما آلاف غيرها! من هذه الكلمات التركية – العربية Kalp قلب، وKanaat قناعة، Bayi بائع، Adet عادة، Adil عادل، Adet عدد، Ihya احياء، Alim عالم، Matbu مطبوع، Matem مأتم، Medeni مدني، Mektap مدرسة، Medeniyet حضارة او مدنية، Mektup رسالة، Nida نداء، Nisbat نسبة او علاقة، Nezle زكام او نزلة، Nesil نسل، Nesir نثر، Nedamet ندامة، Nefis نفيس، Nehir نهر، Raf رف، Rabita رابطة او علاقة، Ragbet رغبة، Rahat راحة، Rahibe راهبة، Rahim رحم المرأة، Rakam رقم، Kabul قبول، Kabul Salonu صالة الاستقبال، Kafes قفص، Kafi كافي، Kafile قافلة، Kafiya قافية، Kahkaha قهقهة، Kaide قاعدة، Kalem قلم رصاص، Kalip قالب، Nefes نَفَس، Nasihat نصيحة. (قاموس: Redhouse Buyuk Elsozlugo مطبوعات استانبول 1997).
ويسلط بعض المؤلفين الاتراك الاضواء على تنوع جذور اللغة التركية المعاصرة بتفاصيل ثرية. ومن هؤلاء المؤرخ «يلمازاوزتونا» في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية»، استانبول 1990، فيؤكد ان «عدد الكلمات العربية الموجودة في اللغة التركية، كما في الفارسية يتجاوز بكثير الـ 10000 كلمة، وعدد الكلمات الفارسية في اللغة التركية يبلغ الآلاف ايضا»، ويضيف انه توجد في اللغة التركية 900 كلمة يونانية الاصل كما توجد اليوم في اللغة اليونانية كلمات تركية الاصل. وتوجد في اللغة الصربية 9000 كلمة تركية وفي البلغارية 6778 كلمة. اما في اللغة الالبانية فان ثلث القاموس من اصول تركية. كذا اللغة الارمنية التي يعرف انها «مليئة بالكلمات التركية بشكل كثيف، وقد لا تقل عن عشرة آلاف كلمة (الجزء الاول، ص 26-525).
وفي اللغة العربية الفصحى المتداولة اليوم كلمات من اصول تركية وفارسية كما هو معروف، ولكن عدد هذه الكلمات اكثر في اللهجات العامية، وبخاصة في مصر والشام والعراق، وفي اللهجات الخليجية الكثير منها، يعدد بعضها المؤرخ الكويتي المعروف سيف مرزوق الشملان في كتابه واسع التداول «من تاريخ الكويت»، ومن هذه الكلمات في اللهجة الكويتية التي لا تزال قيد الاستعمال «بالطو» اي معطف، و«بَيْرَق» أي عَلم، و«عرموط» اي كمثرى، وطابور وتنورة! وممن له ملاحظات قيمة في هذا المجال المستشرق المعروف «لويس برنارد» صاحب البحوث القيمة في الشؤون العثمانية والتركية وعموم بلدان المنطقة العربية، غير ان برنارد يرى ان الحروف العربية لم تكن تناسب اصوات وحركات اللغة التركية مما جعل تعلم العربية نفسها صعبا. ولم تكن مشكلة اللغة التركية العثمانية حروفها فحسب بل وكذلك إغراقها عبر القرون بتعابير وبلاغيات عربية وفارسية، مما أثقل كاهلها وجعل تعابيرها مصطنعة ومملة.
وكان اول دعاة اصلاح اللغة التركية محمد منيف باشا(1910-1828)، من رجال التأليف والترجمة، حيث دعا في محاضرة له في «الجمعية العلمية العثمانية» في مايو 1862 الى اصلاح التهجئة التركية تسهيلا لانتشار العلم، وعرض نموذجه المعدل.
وبعد اشهر قام الاذربيجاني «اخوند زاده فتح علي» بتقديم مشروع لغوي آخر، وعرضه على السلطان، الا ان الجمعية العلمية العثمانية ، على الرغم من تقديرها لافكار المشروع، لم تر فيه حلا للمشكلة وفي عام 1869 اثارت المسألة الرأي العام، وذلك عندما قام احد اتباع «جمعية تركيا الفتاة» بنشر مقال في صحيفة الحرية «حُرّيت» التي كانت تصدر في المنفى بلندن، ينتقد فيه تعليم الاطفال في المدارس التركية، اذ بينما كان التلاميذ الارمن واليونان، واليهود في مدارسهم الدينية يتقنون قراءة الصحف خلال ستة اشهر وكتابة الرسائل خلال عام، كان الطلبة المسلمون يدرسون سنوات عديدة ولا يحسنون قراءة اي صحيفة بل كان مدرسوهم كذلك عاجزين عن كتابة الرسائل العادية.
ورأى الكاتب النقص في نظام التعليم لا في قدرات الطلبة الأتراك المسلمين.
واثار المقال ردود فعل متعددة من بينها الرد الذي بعثه الى الصحيفة «مالكولم خان» سفير ايران لدى الباب العالي، وقد اكد السفير في رده المكتوب باللغة الفارسية تدهور نظام التعليم في العالم الاسلامي، وصبّ نقده على الحروف العربية التي تعيق المسلمين عن اللحاق بالغرب بسبب صعوبة التعليم بها، بل ذهب «مالكولم خان» الى ان السبب الاساسي في ضعف وفقر واضطراب العالم الاسلامي، وانتشار الاستبداد فيه، هو الأبجدية العربية!
وكان الاديب والمصلح العثماني الشهير «نامق كمال» ممن شارك في هذا السجال. وهو يُعد اشهر كتاب الترك (1888-1840)، وقد نشر اشعاره قبل ان يبلغ الـ 15 من العمر، واتجه الى نقد الاوضاع في تركيا، فحوكم وسجن في قبرص، وحين افرج عنه لجأ الى باريس، حيث ترجم للتركية عن «بايكون» و«منتسكيو» و«روسو» واخرج جريدة «الحرية» وحين اعلنت الحكومة التركية العفو العام عاد الى استانبول.
ويقرُّ الأديب «نامق كمال» في مداخلته المنشورة ردا على السفير الايراني، بدور الجهل في علل تركيا، ولكنه لا يوافق على اعتبار الابجدية العربية مسؤولة عن ذلك كله، ويقول ان الامية نادرة في امريكا وبريطانيا، بعكس اسبانيا رغم استخدام الاحرف اللاتينية في هذه الدول، وفي عام 1878 كتب نامق كمال مرة ثانية في مشاكل اللغة التركية والاحرف العربية، واقر ببعضها، كالكتابة من اليمين الى الشمال، ولكن هذه الاحرف تحتاج الى الاصلاح والتعديل لا الحذف والتبديل، ويقول «لويس» في كتابه «صعود تركيا الحديثة» The Emergence of modern Turkey ان الاشارة الى ضرورة اصلاح الاحرف العربية قد تكررت من حين لآخر، وبخاصة فيما يتعلق بمشاكل الطباعة وظهرت مع قيام الحرب العالمية الاولى جوانب اخرى من المشكلة تتعلق بصعوبة المراسلات العسكرية التي تستوجب الدقة الفائقة في الاستخدام وتحاشي الغموض والخطأ.
واصدر وزير الحربية العثمانية «أنور باشا» تعليماته باستخدام بعض الحروف العربية المعدلة في مجال الاتصالات والمخابرات العسكرية وتوجيه الرسائل، الا ان تأثير مثل هذه الخطوات ظل محدودا ومؤقتا، ومع نهاية الحرب الكونية الاولى عام 1918 كان استخدام حروف الكتابة العربية في اللغة التركية لايزال صامدا، رغم كل التحديات، واستمر هذا الصمود عشر سنوات ونيف، قبل ان تعصف بها قرارات الثورة الكمالية عام 1928، حيث جرى، كما ذكرنا، اقرار استخدام الأحرف اللاتينية.

خليل علي حيدر
الوطن
المصدر
http://www.akhbaralaalam.net/news_detail.php?id=39434