أوجاع الذاكرة
بقلم عبد القادر كعبان
-1-
بعد سفر طويل بالطائرة فتحت أخيرا صفحة من صفحات الذاكرة و أنا على أرضية المطار.. لم يغمض لي جفن طيلة الرحلة.. سمعت وقع أحذية خشنة.. أحسست لحظتها بوجع داخلي.. كانت تلك الصورة تظهر حشودا من الناس تلفهم الحيرة و القلق.. و كأنهم على موعد مع القدر.. و كنت بدوري ذاهبا إلى ذلك الموعد الضائع، لكن كان لدي متسع من الوقت لأتأمل هذه الصورة الفوتوغرافية، لأحفر كل تلك التفاصيل في ذاكرتي..
قبيل مغادرتي المطار، وقفت لأستقل سيارة أجرة.. لكن إستوقفتني ملامح تلك الشقراء الواقفة وحيدة قريبة مني تداعب خصلات من شعرها.. للحظة لمحتني.. راحت تنتهز الفرصة و إقتربت مني كفراشة راقصة تخطو بكعبها العالي.. تملكني شعور من الخوف و اعتراني الخجل.. تنبهت لصوت داخلي يضحك و هو يردد على مسامعي:
- هل أنت خائف يا آدم؟.. بل أظنك تتساءل ما إذا كنت ستتعرض للملاحقة من قبل تلك الشقراء من بنات حواء..
و قبل أن أجيبه..
Salut (مرحبا)، قالت بنبرة أنوثة..
تخيلتها وردة ربيعية حمراء من تلك الورود التي تملأ الهواء بعبيرها وتضفي بجمال لونها على كل شيء..
بابتسامة تقول:
لقد عدت لتوي من فرنسا.. تحديدا من باريس تلك المرأة الفوضوية الحب..
أجبتها:
- للأسف، لم يسبق لي أن زرتها من قبل..
- إذن من أي بلد جئت؟
و بنبرة وجع:
- برشلونة! يا لها من امرأة متعالية و جميلة جدا..
دفعها فضولها لتقول:
- لا بد أن لك ذكريات فيها!..
قررت أن أتجاهل ما قالته و عدت ملتفتا لأبحث عن تاكسي..
فجأة وجدت ما أبحث عنه.. توقف السائق فراحت مسرعة تفتح الباب و تشير بيدها إلى الحقائب.. ترجل السائق لحملها بينما بقيت أتأمل تلك الصور الواقعية من حولي.. عادت تخاطبني قائلة:
- ننتظرك سيدي..
كانت تتحدث برقة متناهية، بل وتنفض الغبار عن كل كلمة قبل أن تتفوه بها بما يدل على أنها إمرأة مثقفة..
Vite (أسرع).. تستعجلني..
قام جسدي متثاقلا يحمل حقيبة سفره.. انطلقت بنا السيارة.. لم أكن أفكر في أوجاعي بل تركتها بين صفحات النسيان، حتى أنني لم أكن أنتظر شيئا عندما شعرت بوجود انسان بجواري..
-2-
لم يكن يهمني ما تقوله، بل ما كان يهمني هو ذلك الشعور.. شعوري بتلك الراحة في رفقتها و كأنني أعرفها منذ زمن.. قالت بنبرة مرح و هي تنظر من خلف الزجاج:
- تبدو شديد التواضع يا سيدي..
كأنها تتقن مهارة الصحفيين و قدرتهم على إثارة الآخر بكلماتهم و حركاتهم المفتعلة..
شعرت من جديد برغبة في الثرثرة.. بدأت بالسؤال عن دراستها.. قالت:
- درست الطب بالجامعة..
لكن توقفت هنيهة ورمقتني بنظرات حزينة لم تستطع اخفاءها.. ثم واصلت:
- لو تعرف.. لم أستطع المواصلة بسبب والدي سامحه الله.. ظروف العائلة و قساوة الحياة..
ثم سادت فترة سكون..
- لقد كنت ضحية انفصال والدي.. اضطررت بعدها للإختيار بين الجامعة أو السفر إلى فرنسا للعمل معه..
لم أدر بما أجيبها.. قد شعرت أيضا بوجعها يضغط على حنجرتي..
- لقد عانيت أوجاع الغربة و أوجاع إنفصالي عن أمي..
تنهدت حين سمعت تلك الكلمة التي ذكرتني بما جئت من أجله (أمي).. التي باتت وحيدة بعد أن فارقها و تركها أسيرة الأحزان..
- ماذا عنك؟ لماذا تركت برشلونة؟
- لقد تعذبت كثيرا في غيابي.. بل باتت تعيش بفضاء كالقفص.. قفص الحرمان من ابنها حتى دخلت المستشفى..
- أتقصد..
- أجل هي أمي.. موجودة بالمستشفى حاليا و هي من طلبتني فأسرعت متناسيا كل شيء..
قالت بنبرة جديدة:
- كيف سمح لك ضميرك بمفارقتها و نسيانها كل هذه المدة؟
إنتابني لحظتها شعور بعدم الإرتياح أمام التغيير الذي طرأ على نبرتها.. بل تفاقم هذا الشعور لتفكيري بمواجهتها.. لكن عدت مترددا كالهارب.. كذت أحذو حذوها و أروي لها بدوري ما أصابني، لكن خانتني الجرأة و فضلت الغرق في بحر من الصمت..
تدخل فجأة صوت السائق يقول:
- حقا إن الغربة موحشة و الحنين إلى الأم قتال..
كم وددت أن أقول له أن كلماته تزيد من وجعي.. لكن إستوقفتني هي تقول:
- هناك من يختار الغربة و هناك من يفضل حضن الأم.. توقف هنا لو سمحت.. وقبل أن تنزل إستسمحتني قائلة:
- عليك أن تسرع إليها فلربما قد لا تصل..
أحسست برياح عاصفة تضغط على رئتي و تخيلتها إمرأتان في إمرأة.. البنت و الأم.. ذكرتني بتلك الصورة الممزقة بين ثنايا ذاكرتي حين وقفت لمواجهته و هي تبكي كأرض اجتاحتها سحابة تراب كثيفة تحت سماء قاتمة و خانقة.. كنا نصرخ سويا و أمي غارقة بين تلك الأمواج.. صرخت و هي تقول:
- لو كانت لي أنثى لما فكرت في أن تتركني يوما.. و أنتما تتشاجران على من سيقوم بالبقاء إلى جانبي.. الأول يحلم بتسوية وضعيته خارج الوطن.. الثاني غارق في حب مطلقة من الوريد إلى الوريد.. بينما أنا أقف بينكما كسمكة يحاكمها البحر..
قاطعتني زخات المطر المباغثة تنقر على زجاج السيارة و كأنها تعزف سنفونية حزينة.. شعرت فجأة بانقباض شديد.. توقف التاكسي عند الإشارة الحمراء وكأنها إشارة تندر بتوقف قلبي عن الخفقان..
-3-
وصلت الى ذلك المستشفى أين سألتقي تلك التي تركتها يوما تعيش صراعا نفسيا مع الحياة الفوضوية.. دخلت وتوجهت إلى الإستقبال للسؤال عنها.. وجهتني الممرضة إلى تلك الغرفة أين سأجدها مستلقية على السرير.. بدأت أخطو بخطوات سريعة تنافس دقات قلبي.. أناس يحومون حول الغرف قد حركوا مشاعري برغبة في الهروب من ذلك المكان و لكن لن يكون ذلك إلا برفقتها.. كنت مدفوعا بخوف شديد مبهم لرؤيتها.. وعندما وصلت الغرفة المغلوقة.. سمعت صوتا منبعثا من الداخل.. أحسست لحظتها كما لو أن شخصا يطبق على صدري.. فوجئت بالباب يفتح.. الطبيب يحمل سماعته بين يديه وبرفقته احدى الممرضات.. أخذ قلبي يدق بعنف.. أسرعت بالدخول دون مبالاة.. شخص ممدد على السرير ملفوف بغطاء أبيض كمن فارق الحياة.. كان الشعور الأول الذي أحسست به نحوه سيئا وغريبا.. عدت أقلب صفحات ذاكرتي.. توقفت عند تلك الكلمات (عليك أن تسرع.. قد لا تصل..).. كنت كمن يلفض أنفاسه الأخيرة.. ظننت أنني أخطأت الغرفة.. فاجأتني تلك الصورة من ذكريات الطفولة.. صورتي أنا و أخي متعانقين.. على الطاولة قرب السرير.. و ما شد انتباهي وجودها قرب مزهرية تزينها وردة حمراء.. عرفت للتو أنها آخر رسالة ختمت بها أمي أوجاع ذاكرتي..
انتهت..