أوراق ذابلة من حضارتنا



كتبها ( دكتور ) عبد الحليم عويس

علق عليها:فيصل الملوحي




الحلقة السابعة

سقوط غرناطة





كان بقاء مملكة غرناطة في الأندلس قرنين من الزمان
من عجائب الدهر ‏.‏

فهذه الجزيرة العربية العائمة فوق بحر الأفرنج المتلاطم الأمواج والطافح بالحقد والمكر التاريخيين.. ما كان لها أن تصمد صمودها الذائع الصيت وحدها في الأندلس بعد أن سقطت
كل المدن والقلاع الأندلسية منذ قرنين من الزمان ‏.‏

أبقى قانون "‏ التحدي ‏"‏ غرناطة حية زاخرة بالفكر والرقي الحضاريين هذين القرنين.. وكان شعور الغرناطيين بأنهم أمام عدو محيط بهم من كل جانب ، ينتظر الفرصة لالتهامهم ، وبأنه لا أمل لهم في استيراد النصر من إخوانهم العرب ، ولا بد لهم من الاعتماد على أنفسهم.. باعثَهم الأكبر على الاستعداد الدائم لكل أذى يصيبهم من عدوهم!!‏


وبهذا نجحت غرناطة في أن تظل إلى سنة ١٤۹٢م ‏-‏ ٨۹٧ هـ - سيدة الأندلس ومنارة العلوم وشعلة الحضارة الباقية في أوربة ‏.‏


لكن الأعوام القريبة من عام السقوط شهدت تطورا في الحياة الأندلسية..
فالأفرنج أخذوا يتحدون، وبدؤوا بـ‏"‏ اتحاد ‏"‏ كبير ضم أكبر مملكتين أفرنجيتين..هما مملكتا أرجوان وقشتالة، وقد اندمجت الاثنتان في اتحاد توجاه بزواج ‏"‏ إيزابيلا ‏"‏ ملكة قشتالة من ‏"‏ فرناند ‏"‏ ملك أرجوان..وكان العروسان يحلمان بدخول غرناطة ليلة زفافهما وقضاء شهر عسلهما في الحمراء، ورفع شعار اتحادهما فوق برج الحراسة أكبر أبراج غرناطة -.
أما العرب فقد أخذ‏"‏ خلاف ‏"‏ كبير يدب بينهم داخل مملكة غرناطة، ولا سيما بين أبناء الأسرة الحاكمة ، فتمزّقت مملكتين يهدد كل منهما الأخرى وتقف لها بالمرصاد: مملكة العاصمة الكبيرة ‏" غرناطة " يحكمها أبو عبد الله محمد علي أبو الحسن النصري- آخر ملوك غرناطة ‏-‏ وأخرى في "‏ وادي آش "‏ وأعمالها يحكمه عمه أبو عبد الله محمد المعروف بالزغل‏.‏


وقد بدأ الملكان الأفرنجيان هجومهما على‏" وادي آش "‏ سنة ٨۹٤ هـ ، ونجحا في الاستيلاء على وادي آش والمرية وبسطة.. وغيرها ، فأصبحا على مشارف مدينة غرناطة ‏.‏


وقدأرسلاإلى السلطان أبي عبد الله النصري يطلبان منه تسليم مدينة الحمراءالزاهرة، وأن يبقى حيا في غرناطة تحت حمايتهما..كان هذا الملك ضعيفا..لم يحسب حساب ذلك اليوم..
لكنه عرف أن الطلب يعني استسلام آخرممالك الأندلس، فرفض الطلب ودارت الحرب، واستمرت عامين..يقودها فارس من هؤلاء الذين يظهرون كلمعة الشمس قبل الغروب‏"‏موسى بن أبي الغسان"‏‏.‏ ويشعل الحمية في نفوس المقاتلين. وبفضل هذا الفارس وأمثاله صمدت غرناطة في وجه الملكين عامين وتحملت حصارهما سبعة أشهر..

لكن مع ذلك.. لم يكن ثمة شك في نهاية الصراع.. فأبو عبد الله الذي لم يحفظ ملكه حفظ الرجال ‏.‏ وانقسام الأسرة والخلاف داخل المملكة أمام اتحاد تام في جبهة الأعداء.. وحصاد تاريخ طويل من الضياع والصراع .. عاشته غرناطة وورثته مما ورثته عن ممالك الأندلس الساقطة.‏ كل هذا قد عمل على إطفاء آخر شمعة في الأندلس ‏.‏

وعندما كان أبو عبد الله -‏ آخر ملوك غرناطة هذا -‏ يركب سفينته مقلعا عن غرناطة، مودعا آخر أرض تنفست مناخ الأصالة العربية في أوروبة ثمانية قرون ..

في هذا الموقف الدرامي العنيف.. بكى أبو عبد الله ملكه،‏ والملك العربي المضاع، وتلقى من أمه كلمات حفظها التاريخ ‏" ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال ‏"‏ ‏.‏

والحق أن أمه بكلمتها تلك، إنما كانت تلطمه وتلطم آخرين مثله.. بكوا مثل النساء ملكا لم يحفظوه حفظ الرجال ‏!‏‏!‏‏!‏ ‏.‏

ليس من العدل أن نوجّه اللوم إلى شخص واحد، هو أبو عبد الله، إنما كان يشركه أهل غرناطة في الضعف والتخاذل:
أكرر ماقلت من قبل:

<تلك سنة التاريخ، كما نبّه إليها ابن خلدون: أمّة بدوية قويّة تنتصر، ثمّ تميل إلى الراحة والدعة، فتطمع بها أمة أقوى وتقضي عليها ( مع تعديل نظرية ابن خلدون، وفهم معنى البداوة أنها القوة لا التخلّف ).. وتلك عبرته، وهذا درب السقوط‏:‏‏"‏ حين يخشى كل عضو في>الجسد على نفسه دون سائر الأعضاء ‏"‏ ‏.‏