هزيمة بلا قاع
وصلني هذا الإيميل المتبادل بين اثنين أحدهما كاتب المقال الثاني صديق أعتز بفكره .

هزيمة بلا قاع

... في معركة حنين أمسك أبو سفيان بطنه ضحكاً على المسلمين، وهم يولون الأدبار، وقال مع قهقهة: لن يردهم سوى البحر
ولغة أبو [أبي ] سفيان تلاقي نفس المصير اليوم؛ فهي تعاني من هزيمة بدون قاع. وأقرب الأشياء الثلاثة للإنسان هي: اسمه الذي به ينادى، ولغته التي بها ينطق، ودينه الذي به يعتقد، فهي أسوار الحماية الثلاثة..
والذي دفعني للكتابة أن المدير الطبي الهندي كان يتفقد ملفات المرضى عندي، فانزعج حين قرأ اللسان العربي في بلد عربي أمين، فأرسل لي يحذرني من ارتكاب مثل هذه الخطيئة الشنيعة مرة أخرى.
وقلت في نفسي: تصور أن هذا الهندي الذي يرطن باللغة الإنجليزية المكسورة، كان في بلد آخر! تصور أنه في ألمانيا ويقول لطبيب ألماني أن يتجنب الكتابة باللغة الألمانية؟!
في ألمانيا لم يكن يسمح لنا بلمس المريض (الألماني) قبل التمكن من اللغة الألمانية نطقاً وكتابة، وبالنسبة لي فقد أرسلوني إلى معهد (جوته) لتعلم اللغة الألمانية، على حسابي وليس حسابهم، فمن أراد قبض راتبه عليه أن ينطق لغتهم، أما عندنا فيُسخر من لغتنا وتنهب أموالنا! وهي ضريبة التخلف على كل حال، لأمة تعاني من الهزيمة حتى قاع اللاوعي!
قصصنا مع الهنود والنيجيريين والطليان والفيليبينيين وأهل مدغشقر ونيبال… في أرض العروبة أكثر من أن تحصى. وأذكر العديد من الحالات، ونحن نفك الاشتباك بين طبيب نيجيري ومريض ..... عربي ، حتى لا يصلح فتقاً في المكان الغلط، أو يستأصل مرارة بدون مبرر، أو يفتح على مكان الزائدة، والزائدة قد استؤصلت! وهي كوميديا تعجز عنها مسارح أثينا أيام سوفوكليس وصولون…
وحين تبدأ الأمة تتكلم بغير لغتها، فهي تفقد ذاكرتها، كما قال توينبي عن كمال أتاتورك. قال توينبي: إن ذلك الرجل لم يفعل كما فعل النازيون مع الكتب في الساحات العامة، كما هو في ليلة برلين المشهورة مع اليهود عام 1938، أو كما فعل ملك إسبانيا فيليب مع الثقافة العربية؛ بل قام بما هو أدهى وأمر فقتل الحرف العربي بدون لمسه، حين قلب الحرف التركي من العربي إلى اللاتيني، وترك باقي المهمة للغبار والرفوف كي تلتهم كل التراث العثماني المخطوط بالحرف العربي في آلاف المجلدات خلال خمسة قرون، وبذلك أصبحت تركيا بين عشية وضحاها بدون ذاكرة! ولولا الروح الصوفية الذكية والتوقد الإيماني، لدخلت تركيا العلمانية وودعت الإسلام إلى غير رجعة، لكنها روح الإيمان التي تتقد من روح الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم…
وفي قناعتي أنه سوف يأتي اليوم الذي يبدأ الأتراك في مراجعة تاريخهم مع كارثة الانقطاع…
ولنتصور أنفسنا اليوم ونحن نرطن باللغة الإنجليزية المكسرة، فتختنق الأفكار باختناق الكلمات، ونبقى بدون ذاكرة.
إن اللغة هي ذاكرة الأمة، وهي اللاوعي العميق، وهي الذات… وصاحبنا الهندي لا يلام، لكن من يلام هو من استقدمه دون أن يشرط له استلام راتبه المغري بالنطق باللسان العربي.
إنه حتى اللغة العبرية تم أحياؤها، في الوقت الذي تقتل فيه اللغة العربية، في خيانة ما بعدها خيانة.
وابن خلدون تعرض لهذه الأزمة منذ أيامه، والفتح العربي يتقلص ويتراجع أمام حروب الاسترداد الإسبانية، فذكر أن المغلوب مولع بتقليد غالبه لاعتقاده بالكمال فيه، وهو ما يفعله الأطفال مع آبائهم، والعرب مع أميركا.
واللغة هي لسان الأمة في التاريخ فإن هانت، هانت لغتها، وإن سمت وارتفعت انتشرت لغتها فقرأها قوم آخرون، حتى الجن الذين جاؤوا يوماً ينصتون للقرآن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به..
ولولا القرآن لكان مصير العرب مثل مصير أهل ..............، لكن القرآن منح الخلود للغة العربية، ولسوف تستعمل رغم تفاهة مناوئيها واضمحلال العقل العربي في بركة الضفادع… ويقول في هذا محمد إقبال إن من أراد أن يكتب وثيقة ويدفنها في الأرض فيقرأها الناس بعد ألف جيل، فليكتب باللغة العربية، فهي لغة الخلود من القرآن الخالد.

**************
**************


الأخ العزيز د. يونس وفّقني الله وإيّاك لحمل رسالة الإسلام وتبيلغها إلى العالمين بالقول و بالفعل :

هذا الإيميل الرّائع منك حرّك أشجاني .أنت من أهل التّفكير العميق المستنير منذ كنتَ يافعاً . لابدّ أنّك تدرك إدراكاً يقينيّا أنّ الّلغة العربيّة جزء لايتجزأ من الإسلام الغائب .فنصوص الوحي بشقّيْها هي الإسلام ، وهذه النّصوص سواء من التّنزيل أوممّا رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم جاءت بلغة العرب ، أي بألفاظ العرب وبنفس معاني الألفاظ التي اصطلح عليها العرب الأقحاح قبل أن تتسرّب العُجمة إلى لغتهم وتتفشّى فيها .

توقّف العرب كشعب عن حمل رسالة الإسلام إلى العالمين منذ القرن السّابع الهجري حتى الآن ، فحمله غيره من الشعوب الإسلامية ؛ ومنذ ذلك الوقت توقّف الاجتهاد الّذي هو استفراغ الوُسْع في استنْباط الأحكام الشّرعيّة من أدلّتها التّفصيليّة ، وبتوقف الاجتهاد توقّف استعمال العقل وبالتّالي توقّفت العمليّة الفكريّة ثمّ بدأ بالتّدريج فصل القدرة الكامنة في هذه اللغة عن القدرة الكامنة في الإسلام إلى أنْ اختُتم الأمر بضياع الإثنين : الإسلام كنظام حياة والّلغة العربية كلغة عالميّة ، وهذه هي الحالة الّتي تعيشها أمّتنا منذ قرون ، وقد وصلت الآن إلى أدنى دركاتها .

إنّ العربيّة يا أخي الحبيب يونس هي الّلغة الأولى ، الّتي لم يعرف تاريخ الّلغات مولدها بعد ، لأنّ مولدها أقدم من مولد التّاريخ ، ولم يدرك طفولتها لأنّه ما رآها إلاّ شابّة مكتملة الشّباب ، هي بالدّرجة الأولى بين الّلغات ، أمّا الدّرجة الثّانية والثّالثة فإنّها شاغرةٌ ما احتلّها لغة من الّلغات ، والدّرجة الرّابعة للفرنسيّة والألمانيّة معاً ، أمّا الدّرجة الخامسة فهي للإنجليزيّة ؛ ولكنّ الإنجليز بجدّهم ونشاطهم وأنّه مرّ عليهم يوم كانوا يملكون فيه خمس الأرض ، ويحكمون بقاعاً لاتغيب عنها الشّمس ، لأنّها إن غابت في مغربها بدت في مشرقها ، الإنجليز فرضوا لغتهم على النّاس وعلى التّجارة العالميّة على ما فيها من عِوَج وضعف وخلل . إنّها كما قال عنها الدّاعية والأديب الموسوعيّ علي الطّنطاوي رحمه الله :" لغة عرجاء، مقطوعة النّسب " . ومع ذلك فأنت تجد الآن الإنجليزيّة الهنديّة ، والإنجليزيّة الاستراليّة ، والإنجليزيّة الكنديّة ، والإنجليزيّة الفلبينيّة ، وفوق الجميع الإنجليزيّة الأمريكيّة .

لقد كانت جميع الشّعوب الإسلاميّة ، حين كان الإسلام طريقة عيشها ومحور حياتها ، تستخدم الحروف العربيّة في لغاتها بالرّغم من انفصال الّلغة العربيّة عن الإسلام بتوقّف الاجتهاد ؛ إلّا أنّ هذا المشهد قد تغيّر بزاوية مستقيمة بعد ما يسمّى بالحرب العالميّة الأولى ، إذ أدّى عيش المسلمين كرعايا للغربيّين في معظم أقطارهم إلى تحوّل معظم تلك الّلغات إلى الحرف الّلاتيني .

لقد لبثتَ يا يونس الحبيب شطراً من عمرك في بعض أقطار الجزيرة العربيّة ، ورأيت كيف أنّ عشرات الملايين من غير المسلمين وغير العرب جاؤا للعمل فيها خلال الخمسين عاما الماضية ، ولبثوا فيها عقوداً كاملة ، ثمّ عادوا إلى ديارهم لا يعرفون شيئاً ذا بال عن دين الإسلام ولا يعرفون حتّى حروف الّلغة العربيّة ، بل إنّ السّكان الأصليين يحرّفون ألسنتهم بلغتهم لتطابق الطّريقة الّتي يتكلّم بها هؤلاء الوافدون .

إنّي لعلى يقين بأنّه لولا أنّ الّلغة العربيّة جزء من الإسلام لكونها قائمة بالوحي ، ولولا أنّ الله تعالى تعهّد بحفظ كتابه ، وما تعهّد الله بحفظه لا يقدر أحدٌ على المساس به ، أقول لولا ذلك كلّه لزالت هذه الّلغة من الوجود ونُسيت بل وربّما انقرضت كما انقرضت لغة الكنعانيّين والفينقيّين وغيرهم .

أختم لك بقول للفقيه والعالم الموسوعيّ الأندلسيّ أبي محمّد ، علي بن حزم المولود في قرطبة سنة 1064 م أو 456 هـ في كتابه المشهور الإحكام في أصول الأحكام ، الجزء الأوّل :
" إنّ الّلغة يسقط أكثرها ، ويبطل بسقوط أهلها ، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم ، أوبنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم . فإنّما يفيد لغة الأمّة وعلومها وأخبارها قوة دولتهم ، ونشاط أهلها وفراغهم ؛ وأمّا من تلفت دولتهم ، وغلب عليهم عدوّهم ، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذّلّ وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر ، وربّما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم ، وهذا موجود بالمشاهدة ‘ معروف بالعقل والضّرورة . "