أوراق ذابلة من حضارتنا





كتبها ( دكتور ) عبد الحليم عويس

علق عليها:فيصل الملوحي

الحلقة الخامسة
سقوط أشبيلية





كانت الحالة سيئة للغاية..وهذه حركة التاريخ حين تصل إلى طريق مسدودة بعد أن يميل أهل القرى إلى الترف والراحة فلا أمل إلا في شيء واحد.. هو الزوال.. وهذه هي المعادلة الوحيدة الصحيحة في تفسير التاريخ‏:‏ حين يخرجون على سنن الحياة، يتنعمون بمكاسب أيام الشقاء فيغرّوْن بالتمادي.. ثمّ تتجمع عوامل الفناء ، فلا يتمكّنون من العودة، ويكون المصير: إبادة وموت بعد كوارث طامّة ‏!‏‏!‏
( هذا ماأشار إليه ابن خلدون في مقدمته: الأمم في وقت قوتها، في عصر بداوتها تنجز آمالها، وتنشئ صروحاً لها، حتى إذا امتلكت القوة، ودبّ فيها الضعف، طمع بها الأعداء، وحلّ آخرون مكانها يعيدون سنة الحياة ).
هذه ما وصلت إليه الأندلس في القرن السابع الهجري.. ذلك القرن الذي شهد سقوط معظم قلاع الأندلس ومدنها، ولم تفلت منه - إلى حين - سوى مملكة غرناطة، التي لم تلبث بعد قرنين- أن لقيت حتفها.‏

وعلى امتداد الأندلس - شرقيه وغربيه - بدأت حركة ما يسمى بالاستيراد الأفرنجيّ تسوق الأندلسيّين المفككين، المتناطحين بالألفاظ، المقسمين في ولائهم بين ملوك الأفرنج.. تسوقهم إلى حتفهم الأخير.‏

وبعد سقوط الموحدين في الأندلس، انفرط عقد هؤلاء، فلم يعد يجمعهم حكم واحد، أو هبّة توحّدهم أمام تحد خارجي، أوقيم حفّازة تشتعل بها أعماقهم، ويبحثون عن رفعها أكثر مما يبحثون عن رفعة أنفسهم.. ولذا؛ فقد تبع سقوط الموحدين تمهيد سقوط كثير من مدن الأندلس كمرسية وبلنسية وقرطبة والشرق الأندلسي.. ثم الغرب الأندلسي الذي كانت عاصمته إشبيلية ‏!‏‏!‏

لقد عرف أهل إشبيلية بعد سقوط الموحدين، ألا بد لهم من حماية خارجيةبعد أنأخفقوا في اعتمادهم على ذواتهم.. وقد أرسلوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكريا الحفصي أمير الحفصيين في تونس الذين لمعوا بعد سقوط الموحدين، لكن الرجال الذين أرسلهم الأمير الحفصي إلى إشبيلية أساؤوا معاملة الناس وأظهروا الفساد في الأرض.. فاضطر أهل إشبيلية لإخراجهم، وبدؤوا الاعتماد على أنفسهم، وألغَوْا معاهدة ذليلة كانت قد عقدت مع ملك قشتالة الأفرنجيّ فرناندو الثالث، وقتلوا ‏"‏ ابن الجد ‏"‏ صاحب مشروع المعاهدة المذكورة ونصير المذلّة للأفرنج ‏.‏

وكان هذا نذيرا ببداية النهاية لإشبيلية، إلا أنهم قد فقدوا العون الخارجي..وأعلنوا - بقطعهم المعاهدة - حربا على قشتالة، لم تكن ظروفهم مهيأة لدخولها ‏.‏

وقد شهدت سنة ٦٤٤هـ بدء تحرك الأفرنج ضد إشبيلية، واستولَوْا على حامية إشبيلية في هذا العام.. وكان ذلك بمساعدة ابن الأحمر ملك غرناطة وفقا لمعاهدته مع فرناندو..!

وفي العام التالي تقدمت جيوش الأفرنج مرة أخرى على إشبيلية، وقد نجحت في الاستيلاء على عشرات من المدن بفضل تدخل ابن الأحمر، ومنعه هذه المدن القتال زاعماً أن القتال عبث..!

وحوصرت إشبيلية وطُوّقّت من أركانهابكتائب الأفرنج‏.‏ وبكتيبة ابن الأحمر، متآزرين جميعا على تشريد أهلها وسحق وجودها.. ولعل وجود راية يحملها بنو جلدتهم تحاصرهم مع الأفرنج كان أشدضربة تلقاها أهل إشبيلية المستبسلون بعيون وقلوب باكية ‏!‏‏!‏
( وظلم ذوي القربى أشد مضاضة............على النفس من وقع الحسام المهنّد )

وقف أهل إشبيلية الشرفاء نحوا من سنة يدافعون الحصار الأفرنجيّ الذي يؤازره ابن الأحمر، و نجحوا في إيقاع الأفرنج في أكثر من كمين وأصابوهم بالهزيمة غير مرة ‏.‏

وقد حاولوا - وهم في حصارهم، الاستنجاد بالمغرب دون جدوى..أما الأفرنج فقد توالى وصول النجدات لهم، حتى نجحوا بسببها في منع المؤن عن المحاصرين في إشبيلية.. فنفدت الأقوات، وبدأ شبح الجوع يدب في أوصال المدينة المجهدة..ّ

وكان المصير المحتوم,, وخرج الإشبيليون من مدينتهم وفق شروط المعاهدة..خرجوا نازحين إلى مدن أندلسية أخرى لم تلبث أن أسقطت!‏‏!‏

لو اتحدّ سكّان مئات المدن الأندلسية التي سرّع استسلامّهما دون قتال ابن الأحمر والخوف من الموت..وقاتلوا تحت أي ظرف.. أكانت النتيجة ستصبح شرا من هذه الحال التي لقَوْها ‏؟‏

لكنها حركة التاريخ.. وعندما تخرج الأمم على قوانينها تتجمع عوامل فنائها ويغلق باب عودتها..وتبيد، فيتجسّد موتها في مجموعة من الكوارث..

سنة لا تتخلّف ‏!‏‏!‏