العجوز وأنا

ذهبت ابحث في معاجم الذاكرة عن قوالب من الالفاظ علني أستطيع أن أسكب بوح المشاعر والأحاسيس ، فوجدتها ــ الذاكرة ــ قد نهشتها أنياب الزمن العاتي ، وداستها حوافر خيل القهر والتجويع والغربة ، فارتاعت النفس ، وارتعدت فيّ الروح وترنحت خطواتي، وتاهت بي تعاريج الدروب فإذا أنا أمام رجل عجوز احتضن تراب الارض وتعفر بقدسيتها ..... يتكىء على زنده الأيمن في عمق حنين الظلال ، في وجهه أخاديد العمر التي رسمها الزمن بدقة متناهية حسب توالي لحظاته وسويعاته مع توالي الأيام
رفع يده المعطرة بعبير التراب وحياني قائلا : عم تبحث يا سيد المحن ؟
وبعد أن انتهيت من حكايتي معه تبسم حيث انكشف فعل الزمن في ثناياه وقال :
إن الأرض التي أنبتت الشعراء قادرة على أن تنبت لهم الورد خذ باقات الورد وقدمها لمن تحب
انفرجت أسارير وجهي وسكنت عواصف روحي .....وعندما قلبت وجهي أريد العودة قال بالصوت الحاني الأجش : هذه الأرض لا تنسوها
ورشق وجهي بحفنة تراب فيها رائحة الوطن؟
رجعت إليه بعد أيام فوقف مبتسما وأشار إلي أن اجلس. احترت أين ؟ ، فنظر بعين الاستغراب وقال : اتترفع عن الجلوس على تراب الأرض الذي سيضمك يوما حينما تكون جثة هامدة؟ وانت كل يوم يجلسونك على كرسي من كراسيهم القذرة متأوها ، متألما ، متوجعا ؟
ابتسمت خجلا فقال لا عليك يا سيد المحن ، وقدم لي كوبا من الشاي ارتشفت منه رشفة
قلت : لم أذق مثل هذا الطعم يا سيدي !
قال : أنا لا أشرب شيئا إلا بعد ان اضمخه برياحين الوطن وعبق الأرض ، لقد نسيتم عطرها وانتم تلهثون وراء ما يصنع لكم في مطابخ خلف الحدود بيد طباخين يمزجون لكم سموم السياسة بهموم الاقتصاد مع الهمبرجر والكنتاكي
وأنشد من الشعر :
لهثتم خلف أوهام البغايا .... لذا غار الزمـــان بكم وتاها
هجرتم كل درب للمعالي .... وهذي الأرض تعطي من رعاها
لثمتم في الحياة حذاء باغ .... لغير الله نكستم جباهـــــــــــــا

رمزت عليا