“ثورة المواطنة” العربية، إذاً، تبدو (كما أشرنا بالأمس) أعمق بكثير مما هي عليه في الظاهر . فهذه أيضاً ثورة الهوية العربية الجديدة التي ستغيّر وجه الشرق الأوسط العربي برمته وتعيد بناءه على أسس سياسية جديدة، ومفاهيم فكرية جديدة، وهياكل اجتماعية جديدة .

هيلاري كلينتون وصفت أمس الأول ما يحدث في المنطقة بأنه “عاصفة كاملة” . وهذا تعبير في الإنجليزية يصف حدثاً عملاقاً ينشأ من مجموعة نادرة ومتقاطعة من الظروف ليخلق حالة خطيرة للغاية .

التوصيف موفّق، لكنه ناقص، خاصة أنه يأتي من وزيرة تغيّر موقفها من الثورات المدنية العربية كل يومين أو ثلاثة . هو موفّق، لأنه يرصد بدقة الأعاصير التي تهب هذه الأيام على الشرق الأوسط العربي وتكاد تشكّل الآن “عاصفة كاملة” . هو ناقص، لأن بعض قيادات الإدارة الأمريكية مُجسّدة بكلينتون لم تدرك بعد المعنى التاريخي العميق لما يجري .

فالمواطنون العرب لا يثورون فقط للتخلّص من ماضٍ متكلس، بحيث يكفي معه تغيير بعض الوجوه والمؤسسات كي يستكينوا، ولا حتى لفرض مشاركة المجتمع المدني في إدارة شؤون الدولة (على رغم أن هذا مطلب بنيوي رئيس)، بل هم يريدون في الدرجة الأولى بناء عالم جديد، مستقبل جديد، وغد جديد .

هذا ما يخلق الآن الاندفاعة القوية لبلورة هوية عربية جديدة للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الأولى . وأبرز دليل على هذه الجدّة هو أن من يقود الثورات العربية الراهنة هم 100 مليون من الشبان الذين حظي معظمهم بقسط من التعليم، وارتبط العديد منهم ب”الفيس بوك” و”تويتر”، ويقبع نحو 40 في المئة منهم خارج سوق العمل وسوق السياسة .

قد يحتج البعض هنا قائلاً إن الحديث عن هوية عربية قد لا يكون دقيقاً . فالتوانسة لم يطيحوا الرئيس زين العابدين بن علي باسم العروبة . والشبان المصريون لم ينزلوا إلى ميدان التحرير رافعين رايات هذه الهوية . وكذلك الأمر في اليمن والأردن والجزائر (والعد مستمر) . كل هؤلاء، يضيف هذا البعض، تحرّكوا بدوافع محلية محضة . هذا علاوة على التباين الشديد في ظروف البلدان العربية، حيث إن بعضها مُتحد اجتماعياً كتونس ونسبياً كمصر، في حين أن بلداناً أخرى كاليمن والأردن وسوريا ولبنان منشطرة إلى قبائل وطوائف ووطنيات . وبالتالي، يجب التمهّل قبل إطلاق السمات العربية العامة على هذه الحركات .

لا أحد بالطبع ينفي تباين الظروف، على رغم اشتراك معظم الشعوب في الرضوخ إلى ثالوث السلطوية -الفساد- الانفجار الديمغرافي . لكن في المقابل، يجب هنا الإجابة على سؤالين مهمين: لماذا تتجاوب الشعوب العربية الآن مع انتفاضات بعضها البعض، ولم تتجاوب قبل ذلك لا مع ثورة إيران العام 1979 ولا مع ثورات أوروبا الشرقية العام 1989؟ وكيف يمكن أن نُفسّر تخطي المنتفضين الأردنيين للانقسام الأردني الشرقي الفلسطيني، واليمنيين لانشطاراتهم القبلية، والمصريين لخلافاتهم الطائفية، في خضم ثوراتهم المدنية الراهنة؟

الجواب واضح: المواطنون العرب يخلقون الآن مواطنيتهم بالتكافل والتضامن مع بعضهم البعض . وهم حين يفعلون ذلك، يبنون من دون أن يدروا، من دون تنظير، مداميك هويتهم العربية الواحدة الجديدة بالدم والعرق والدموع .

إنكم أيها العرب حقاً أمة واحدة، وعظيمة أيضاً .
للمبدع سعد محيو